خبر ترامب والقدس والدروس

الساعة 10:23 ص|20 ديسمبر 2017

فلسطين اليوم

بقلم: حسن نافعة

اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل والمطالبة بنقل السفارة الأميركية إليها هو في الأصل قرار قديم أصدره الكونغرس في عام 1995. وعلى رغم تعهد المرشحين لانتخابات الرئاسة الأميركية التي أجريت منذ ذلك الحين بالشروع في اتخاذ إجراءات لتنفيذ هذا القرار فور توليهم مقاليد السلطة التنفيذية، فإن الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض لم يتمكنوا من الوفاء بما تعهدوا به وآثروا تأجيل تنفيذه لأسباب تتعلق بالمواءمة السياسية. هو إذن قرار مؤجل احتاج فقط إلى رئيس أكثر إقداماً وجرأة، أو بالأحرى أكثر تهوراً. ولأن ترامب يتصور أنه ذلك الرئيس المنتظر والمختلف، فقد قرر أن يحسم ما لم يستطعه أي ممن سبقوه، واضعاً العالم كله أمام أمر واقع جديد. لذا لن يجرؤ أحد داخل الولايات المتحدة على مجرد التفكير في التراجع عنه، مهما بلغت حدة المعارضة في الخارج، ويبدو أن قادة الدول العربية كانوا قد استسلموا لذلك الوهم اللذيذ الذي جعلهم يعتقدون باستحالة إقدام أي رئيس أميركي، مهما بلغت به الجرأة، على اتخاذ قرار بمثل هذه الدرجة من الخطورة. لذا أتمنى أن يكون قرار ترامب «صفعة» تعيد تذكير القادة العرب ببعض الحقائق البديهية حول طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، وفي مقدمها أن الولايات المتحدة وإسرائيل كيان واحد غير قابل للانفصام.

كان الرئيس المصري انور السادات صاحب مقولة شهيرة تؤكد أن الولايات المتحدة «تملك 99 في المئة من أوراق الحل»، لكن هل طرح على نفسه، قبل أن يروج لهذه المقولة، أسئلة بديهية يفترض أن تترتب عليها منطقياً، بافتراض اقتناعه شخصياً بصحتها، قبل أن يستقر رأيه على القبول بدور أميركي منفرد في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي عقب حرب 1973 مباشرة، والاستغناء عن الدورين السوفياتي والأوروبي على رغم أهميتهما القصوى في ذلك الوقت؟ من هذه الأسئلة: 1- هل ترغب الولايات المتحدة حقاً، أو تسعى فعلاً، أو تحرص صدقاً، على التوصل إلى حل للصراع العربي الإسرائيلي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو نوع الحل الذي تطمح إلى تحقيقه؟ وهل يختلف أم يتطابق مع الحل الذي تريده إسرائيل؟ وما الذي ترغب الولايات المتحدة أو تستطيع القيام به في حال اختلافها مع إسرائيل حول شكل الحل «المطلوب»؟ هل تنوي ممارسة الضغط على اسرائيل لحملها على قبول «حل وسط»؟ وهل تستطيع ممارسة مثل هذا الضغط فعلاً؟

لا أعتقد أن السادات طرح هذه الأسئلة على نفسه، وذلك لسبب بسيط وهو أني أشك كثيراً في أنه كان مقتنعاً بالمقولة التي اخترعها وراح يرددها بكثرة. ففي تقديري أنه أطلق هذه المقولة للتغطية على قراره بالتفاوض المباشر مع إسرائيل التي كان يدرك يقيناً أنها لا ترغب في تسوية شاملة في هذه المرحلة وأن أقصى ما يستطيع الحصول عليه منها هو استرداد سيناء منزوعة السلاح في مقابل معاهدة سلام منفردة، وهو ما حدث فعلاً. ويبدو أننا لم ننتبه بما فيه الكفاية إلى أن السبب الرئيس وراء حرص السادات على أن يتم التفاوض المباشر مع إسرائيل تحت رعاية أميركية منفردة، لا يعود الى اقتناعه بأن الولايات المتحدة ستكون وسيطاً نزيهاً ومحايداً، وإنما لرغبته في أن تكون هي الضامن الرئيس لأي تسوية ثنائية يمكن التوصل إليها.

ليس مستبعداً بالطبع أن يكون الرئيس السادات، شأنه في ذلك شأن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وبقية القادة العرب الذين تفاوضوا لاحقاً مع إسرائيل، قد راهن على دور أميركي ضاغط على الأخيرة، اعتقاداً منه أنه سيكون ضرورياً للتوصل إلى تسوية تبتعد ولو قليلاً من الإملاءات الإسرائيلية. غير أن هذا الرهان، وبصرف النظر عن القناعات الحقيقية للرئيس السادات ولمن سار على نهجه من القادة العرب، لا يستقيم مطلقاً، لا مع الحقائق التاريخية ولا مع موازين القوة التي حكمت البحث عن تسوية القضية الفلسطينية. ففي كل المراحل التي مرت بها محاولات البحث عن هذه التسوية، بدءاً بمشروع التقسيم الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 وحتى مفاوضات الحل النهائي التي جمعت عرفات بإيهود باراك في كامب ديفيد عام 2000، تحت الرعاية المباشرة للرئيس بيل كلينتون في الأيام الأخيرة من ولايته الثانية، انحاز الموقف الأميركي الى وجهة النظر الإسرائيلية على طول الخط ومورست بالفعل ضغوط أميركية مكثفة، لكن على الطرف أو الأطراف العربية دائماً، وليس على الطرف الإسرائيلي أبداً.

لا يزال بعض الباحثين العرب، حين يتصدون لدراسة العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، يصرون على تذكيرنا بأمثلة للتدليل على تباين مواقف طرفيها أحياناً، وعلى ضغوط مارستها واشنطن على إسرائيل لإجبارها على اتخاذ خطوة لم تكن تريدها، كالموقف الأميركي الضاغط على إسرائيل للانسحاب من سيناء عقب احتلالها عام 1956، أو لحملها على المشاركة في مؤتمر مدريد عام 1991 عقب حرب تحرير الكويت. غير أن هذين المثالين لا يصلحان مطلقاً للتدليل على صحة هذا الادعاء. فالضغط الذي مارسته الولايات المتحدة على إسرائيل للانسحاب من سيناء عام 1957 كان امتداداً طبيعياً لموقف أميركي من عدوان أوسع، شاركت فيه اسرائيل بالتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا من دون تشاور مسبق مع الولايات المتحدة، ومن ثم لم يكن موقفاً موجهاً ضد إسرائيل بالذات ولم تكن له صلة بأي مفاوضات تجرى حول تسوية القضية الفلسطينية. أما الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة على إسرائيل عام 1991 فكان لحملها على المشاركة في مؤتمر مدريد ولم يكن أبداً لإجبارها على اتخاذ موقف محدد من مفاوضات تسوية نهائية لم تكن قد بدأت بعد.

يدرك القادة العرب يقيناً حقيقة الموقف الإسرائيلي من مفاوضات التسوية النهائية، وهو موقف قديم لا جديد فيه اتضحت تفاصيله في مناسبات كثيرة، منها: 1- المفاوضات التي جرت مع مصر حول «إطار الحكم الذاتي» وانهارت بسبب رفض إسرائيل التام لفكرة الدولة الفلسطينية، وليس بسبب رفض الأردن المشاركة في هذه المفاوضات، كما يدعي البعض. 2- المفاوضات التي جرت بين عرفات وباراك برعاية كلينتون عام 2000، وانهارت بسبب الموقف الإسرائيلي المتعنت من قضيتي القدس واللاجئين. 3- المفاوضات التي جرت مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس منذ اغتيال عرفات وحتى الآن. فقد بدا واضحاً في هذه الحالات، وبما لا يدع مجالاً لأي شك، أن إسرائيل لن تقبل مطلقاً قيام دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية، وأن الدور الأميركي يوظف دائماً للحصول على المزيد من التنازلات الفلسطينية والعربية.

لذا بات واضحاً الآن أن مسألة القدس هي أكثر القضايا المعلقة حساسية بالنسبة إلى إسرائيل، بالمقارنة بأي قضايا أخرى بما في ذلك مسألة اللاجئين. ففي إدراك العقيدة الصهيونية، لا وجود لإسرائيل من دون القدس ولا وجود للقدس من دون «الهيكل» الذي لن يكتمل المشروع الصهيوني إلا بإعادة بنائه ولو فوق أنقاض المسجد الأقصى. كما أصبح واضحاً أن إسرائيل تدرك أنه لن يكون بمقدورها استكمال المشروع الصهيوني إلا إذا ضمنت انحيازاً أميركياً مطلقاً لموقفها من قضايا التسوية النهائية، وبخاصة من قضيتي القدس واللاجئين. وفي هذا السياق يمكن فهم حالة النشوة التي استبدت بنتانياهو عقب صدور قرار ترامب الأخير. فهذا القرار يعني بالنسبة إليه أن الولايات المتحدة باتت تعترف أن القدس الشرقية ليست أرضاً محتلة ويتعين من ثم استبعاد أي حديث عن انسحاب إسرائيلي منها في أي مفاوضات مقبلة. ربما يقبل نتانياهو فقط مناقشة وضع المسجد الأقصى، استناداً إلى أفكار قديمة معروفة تستهدف إدخال المفاوض العربي من جديد في متاهة نقاش عقيم حول أهمية التمييز بين «السيادة فوق الأرض»، و «السيادة تحت الأرض». ولأن إسرائيل تدرك أن الفلسطينيين لن يقبلوا بعد الآن أن يتفاوضوا وفقاً لهذه الشروط، فهي تستعد الآن للسيناريوات الأسوأ، بل لن تتردد في افتعال عملية «إرهابية» تيتح أمامها فرصة لطرد الفلسطينيين جماعياً ونهائياً من القدس الشرقية.

هل اقتنع القادة العرب الآن أن القدس على وشك الضياع إلى الأبد، إن لم تكن قد ضاعت بالفعل، وأن استعادتها تتطلب تغيير النهج المستخدم حتى الآن في إدارة الصراع مع إسرائيل؟ وهل أدركوا الآن أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال طرفاً رئيساً في هذا الصراع ومن ثم يستحيل أن تكون وسيطاً؟ وهل تكفي لطمة ترامب لاستفاقة النظام العربي أم أنه أصبح جثة هامدة تنتظر تصريحاً بالدفن؟

 

 

كلمات دلالية