خبر القدس.. القدس.. يا أيها الزَّاحفون إلى حُتُوفِهم..

الساعة 12:21 م|05 ديسمبر 2017

علي عقلة عرسان

بعد ثلاثة عشر عاماً، من احتلال كيان الإرهاب الصهيوني للقدس الشرقية/حزيران/يونية ١٩٦٧ في ٣٠ تموز/يوليو ١٩٨٠، أقر « الكنيست الإسرائيلي »، قانوناً سماه « قانون أساس: أورشليم القدس عاصمة إسرائيل »، قدمت مشروعه غيئولا كوهين. وفي ذلك التاريخ، أي في عام ١٩٨٠، نقلت دول معظمها من أميركا اللاتينية، سفاراتها إلى القدس، وهي: « هولندا، بوليفيا، تشيلي، كوستا ريكا، الدومينيكان، السلفادور، إكوادور، غواتيمالا، الأورغواي، فنزويلا.

وفي عام 1995 أقر الكونغرس الأميركي، قانوناً ينص على: »وجوب الاعتراف بالقدس كعاصمة لدولة إسرائيل« ، ويطالب بنقل السفارة الأميركية إليها، وجاء في نص القرار، على سبيل التبرير، أنه: »منذ عام 1950، كانت مدينة القدس عاصمة دولة إسرائيل« . وتضمن القرار المشار إليه، بنداً يسمح للرؤساء الأميركيين، بتأجيل نقل السفارة لستة أشهر، إذا رأوا في ذلك »حماية لمصالح الأمن القومي« . وفي ٣٠ أيلول/ سبتمر عام ٢٠٠٢، وقع الرئيس الأميركي جورج w بوش، تشريع تمويل وزارة الخارجية لعام 2003، وتضمن ذلك التشريع نصوصاً خاصة بالقدس، تعترف بأنها »عاصمة أبدية وغير مقسمة، لإسرائيل« .. وأصدر بياناً، للاستهلاك الإعلامي العربي، حول القسم رقم 214 من التشريع المتعلق بالقدس. وفي هذه السابقة، فإن الولايات المتحدة الأميركية، هي الدولة الوحيدة في العالم، التي تصدر قوانين، تحدد فيها عواصم للعنصرية والإرهاب، الذي يكوِّن بـ »الاحتلال والدمار والاغتصاب، « دولاً »، مثل كيان العنصرية والإرهاب الصهيوني في فلسطين، وتنتزع حقوق أمم وشعوب في عواصمها التاريخية، لتمنح تلك الحقوق والعواصم لأخرين. والملاحظ، أن هذه الدولة التي أدمنت العداء للعرب، لم تفعل ذلك، إلا مع دولة عربية « فلسطين »، وأمة هي أمة العرب، ومن أجل كيان يمثا النازية الجديدة، بصفاته، وممارساته، وأهدافه، هو « إسرائيل ».

وما قامت، وما تقوم به، هذه الدولة العظمى، المنحازة بغباء وعماء، للعنصرية الصهيونية، من أفعال، غريب عجيب في بابه، ويحمل بصمات عداء خاصة، للعروبة والإسلام، على وجه التحديد.. فهي ترعى الإرهاب عامة، والصهيوني خاصة، وتمارس هيمنة ديكتاتورية على دول العالم، وتبيح لنفسها أن تحتكر الأسلحة النووية والكيمياوية والجرثومية، وأن تهدد بها الآخرين، وتتوعد بمسح دول وشعوب عن وجه الأرض، إن هي فكرت بامتلاك سلاح فعال، من فصيلة سلاحها، وتتدخل في شؤونهم دول وأمم، وتحتل أرضها، وتخوض حروباً بالوكالة فيها، لصالحها وصالح « إسرائيل » التي ترعاها، وتسن سوابق في العلاقات الدولية، منها إباحة ما تسميه الضربات الاستباقية، التي يمكن أن توجهها لأيّة دولة، ترى فيها قوة محتملة، أو خصماً ممكناً، أو معانِداً يرفض الانصياع والاستسلام للهيمنة الأميركية ـ الصهيونية.. وكل تلك سياسات، وممارسات، وتصرفاتتشيع أكبر في العالم فوضى، وتعيده لشريعة الغاب.

وفي هذه الأيام، يقدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه، لمليار وستمئة مليون مسلم في العالم، وإلى ما يقرب من أربعمئة مليون عربي، من بينهم: مسيحيون ومسلمون.. يقدم نفسه وارثاً لإجرام المأفون جورج W بوش، الموصوف المعروف بتدمير العراق، والتأسيس للإرهاب في المنطقة، وهلوساته « التلمودية - العنصرية ».. يقدم ترامب نفسه صهيونياً « ربانياً مرسلاً ».. وعلى أنه صاحب الحق المطلق، عبر أرض البشر عامة، وأرض العرب خاصة.. في أن يمنح كيان الإرهاب والعنصرية الصهيونية البغيض، الذي يحتل فلسطين، ويشرد شعبها.. أن يمنحه مدينة القدس، العربية التأسيس، « يَبُوس الكنعانية ٣٢٠٠ ق.م »، والهوية، والتوطّن السكاني العربي في مدينتهم العريقة التي لم يفارقها أهلها العرب منذ تأسيسها، رغم ما تعرضوا له من مذابح واضطهاد.. أن يقدِّم الأرض المباركة، المقدسة عند المسيحيين والمسلمين، لتكون « عاصمة أبدية موحَّدة » لدولة الإجرام، والكراهية، والقتل، والتخلف العنصري، « إسرائيل ».؟! يفعل ترامب ذلك بعنجهية استعلائية مقيتة، وبنزعة عدوانية عنصرية  متأصّلة، وبتجاوز صارخ على الحق والعدل والتاريخ والأمة العربية، وبفظاظة لا توصَف، وتهوّر ينتُج عنه اضطراب كبير، في منطقة نشر فيها الأميركيون الفوضى والاضطراب والإرهاب والقتل والدمار.. فأثمر كل ذلك موتاً، ودماراً، وخراباً، وفساداً، وإفساداً في الأرض.. بسبب أطماعهم، وسياساتهم، ونزعتهم العدوانية، المتأصلة لدى اداراتهم المتعاقبة.. وقد أصبح معروفاً عن هذا الرئيس « البَغْو سياسياً، الناضج عنصرياً »: انحيازه الأعمى، لتلمودية العماية، وكراهيته للإسلام والمسلمين، وضعف حسه الإنساني حيال الفقراء والضعفاء والمرضى والمهاجرين، والمدنيين الذين يقتلهم طيرانُه في بلداننا.. وطغيانيته التي تشي بتسلل شيئ من هتلر والفاشيين، في مورثاته.. ويزيد في الطين بِلَّة، صلفُه ورغبته في نهب ثروات الآخرين، وإغراقهم في الفتن والدماء، حيث يتصرف على أنه حاكم مطلق الصلاحية، وبعدوانية تشمل أرجاء العالم.؟!.. وكل ذلك، لأنه يتمتع بقيادة قوة لا نظير لها، وينطلق من جنون عظمة، ونزوع عنصري، ويتلفَّع بديموقراطية مزورة، تصنعها الأموال، والمصالح، والعلاقات والتدخلات المشبوهة.

وعلى الرغم من هذا، نجد الكثير من الرسميين العرب، لا تهزهم قضية القدس، ولا معاناة شعب فلسطين، ولا ما تقوم به إدارة ترامب من قتل، واستثمار في الإرهاب، وإشعال للفتن، وتقسيم لأقطار عربية.. ونجد عزائمهم حادة، وأسلحتهم فتاكة، حين يومئ لهم، هذا المستثمر في موت العروبة والإسلام، فيمضون بسيوفهم إلى الأخ والصديق، ويعززون موقف المحتل الصهيوني، وحليفه الأميركي، ومواقع من يذبحهم بأيديهم.. ومن أسف، أنك تجد، في هذه الزَّفَّة الرعناء، « مثقفين، وإعلاميين، و.. »، عرباً ومسلمين، يخوضون في خضمين من السباب والخراب،يزجهم فيهما ساسة فقدوا الانتماء للعدل والحق والرحمة، ولأمتهم العربية، والدين/ الإسلام.

 

ولئولئك جميعاً أقول، ولمن يعنيهم شأن القدس، وفلسطين، والأمة، والهيوية، والمصير، والقيم، والدين، ولا أستثني نفسي مما أقول: يا أيها الزاحفون إلى قبوركم، تنبهوا جيداً فأنتم على مشارف تلك القبور، ولن يزيدكم ذلك إلا حسرة وأسى، إذ قد تصلون إليها ولا تغيبكم فيها.. وهذا أقسى بكثير مما لو فعلت، لأنكم ستبقون في دائرة العراء، تنوشكم عيون الاحتقار والاستصغار، وتشتفي منكم قلوب، ما دام لكم من الوجود مظاهر وقشور.

إنكم تخرجون حتى من دائرة الوهم -الحلم، أو الحلم- الوهم، دائرة الشعار- المبدأ، تلك التي لم تحموها جيداً بعلم وعمل ورؤية صائبة، واحتشاد حول المبدأ والحق، إنكم تخرجون منها، وترتمون بعيداً، بعيداً.. وتشرفون على دوامة العري التي تجلب العار، أو تغرقون فيها، سواد الليل وبياض النهار.

على عتبة الواقع، والواقعية الجديدة، نُتِف ريشكم، ولم يبق لكم من الطواويس التي كنتموها سوى ذكريات تزهو، واندفاعة الهوس بالمواكب، وتزاحم الرُّكَبِ في المراكب، حيث الهجرة إلى الصمت واللاحضور، والتيه في الصحارى، والغرق في البحور.

وحين تفتحون العيون، وتحدقون في الآخر -المرآة، لتروا حالكم، من بعد الترنُّح والترزُّح.. تتبينون وجوداً غير وجودكم، وأن الدود قد نخر عيونكم وخدودكم وقلوبكم، واستقر في العظام. أينما توجهتم تحيط بكم الذكريات والشعارات وأشلاء المبادئ والأوطان والقضايا والمقدسات، وتسيِّجُ رؤاكم أعجازُ نخل منقَعِر، ورؤوس في أعواد مشانق، أو متدحرجة في الساحات والطرقات، ويَهمي فوقكم مطر الدمع، دمع البإس والعجز، ليغرقكم في ملح أجاج، تنحني في خضمّه الهامات لتطرد ظمأ، فلا تزداد إلا ظمأ، كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه.. ويعلو أنوفكم زبد ورماد.

يزحف بكم الزمن إلى ساعة محتومة، ليست تلك التي تحمل راحة الموت، بل تلك التي تحمل ذلاً، في حياة أفضل منها الموت.. ويا تعس ساعة تطلب فيها الموت ولا يأتيك، وتود فيها أن تغيب عن العيون، فتزداد ظهوراً وعرياً أمامها، حيثما تكون.!؟!

وتسألون أنفسكم، وأنتم محمولون على أجنحة الوقت: كيف السبيل إلى نسيان شامل، لكل ما فرٍّ القلوب والأيدي والمَحامِل، يمسح من الذاكرة كل ما كان، ويعيدكم هيولى قبل التشكل في كيان جديد،  من جديد؟! أغلقوا نوافذكم.. لا يوجد أي أمل بشيء من ذلك، ما دمتم لا تستطيبون إلا صوت قاتلكم.. ولا يوجد أي نوع من أنواع الخلاص، في مثل هذا المنحى، فمحو الذاكرة في العُري، يحتاج إلى طمس الوعي أو إغراقه فيه، ويحتاج إلى فصام من نوع نادر، لا يواتي في كل حين، ولا يستجيب لدمع وتوسل وأنين.. فبعد سقوطٍ حرٍّ من برج الوهم -الحلم، تبرد الأرض تحت الساقط عليها، ويحاصره الوعي بحقيقة من هو، وبما هو فيه، فيحجب عنه المَخرج مما تراه فيه، ويتعرى تماماً من قدراته، ويستلقي في الصقيع، محبَطاً وجامداً وضائعاً.

في مثل هذا الوقت يحتاج المرء إلى جِلد التمساح، ويتمناه، ويتمنى لو يفقد سمعه والبصر، ولكنه لا يحوز من ذلك شيئاً، فما يتراكم في مجرى العصب، يفتك بالقلب والعصب، ويلقي المرء قَصَبَة في مهب الريح، تعبث بها كل ريح.

اليوم يا قُدس، يا تنزيه الله، يا قلعة يَبوسٍ الكنعاني الأول، يا أورَ سَالم، يا إيلينا كابيتولينا، يا قُدس.. اليوم أيها الوطن، اليوم أيها المواطِن، اليوم نلمس، نحن الزاحفين إلى قبورنا، نلمس التراب الطهور ونشمه، يضمنا ونضمه، وتتضوع منا ومنه، في وضع العناق، حناء الشهادة والشهداء، ونهتف فيما يشبه النشيج الحزين: يا قدس، يا فلسطين، يا أمة خذلها ساستُها، فوقعت بين أنياب التَّنانين.« …

اليوم ندخل غابة الحزن، والتراب المبارك في قبضة اليد، نستشعر الزحف الذي يريدنا أن نفقدك إذ نستعيدك، ونستشعر الخيبة، إذ هممنا، واهتماماتنا في غير ما أنت فيه.. فيما يدميك ولا يفيدك.. نأخذ قبضة التراب المبارك ملء اليد، ونتمتع من شميم ما فيها من عَرار نجد، ولا نريد أن نغادر المكان تاركين الأرض والتاريخ.. ونستشعر شيئاً فشيئاً، ذهاب ما في القبضة.. فتغيم الرؤى، وتتلاشى الملامح، ويغيب المكان، وتبقى الحسرة في القلب، ولا شيء سوى الحسرة في القلب، فما بعد العشية من عرار.. وما بعد تمزق اليد من سِوار.. وما بعد العشية من عرار.. الأرض التي تسرق قدميك، تسرق أرضاً من تحت قدميك، وتتركك تمضي زاحفاً في مدى الحلم، والأرض إلى أن توصلك إلى قيصر يطردك أو يحتقرك، ليست الأرض.. تزحف، وتزحف.. وتدنو منك حفرة، لا تعرف أين موقعها من الأرض، ولا من فيها من الخلق.. تواريك شجونها ولا يواريك ترابها، إذ قدرُك، كما خطَّته وتخطُّه يداك، أن يتخطَّفك العار في العراء.

ويا أنت.. أنت، أيها المضرج بدمك، ودم حلمك.. أرض تأتيك أخذت منك، تأخذ منك أرضاً كانت لك، وتبقى الخاسر الحَاسر.. تضيع رؤاك بين الضحك والبكاء، ويضيع يقينك.. أرض تأتيك تأخذ أرضاً منك، وتأخذ يقينك وقلبك ورؤاك، ويضيع بين أشبار الأرض وأمتارها العمر والكرامة، وحلم بوسع التاريخ وعمق الحياة، ويغور كل ذلك في متاهات المصالح والمبادئ، والمقاصد والمفاسد.. في متاهات السياسية النخاسة، والولاء للأعداء.. يضيع وعي وتاريخ وحضور ودم كثير.. ودم أكثر من كثير، وتضيع أجيال تحلُم وتريد من عهد عهيد، أجيال تمتد من عاد وثمود إلى القادم المولود.. تتطلع عبر أفق مديد، إلى عهد جديد وتبقى الوعد، يقتله الوعيد.

على أرض الواقع بين.. صلبه وترائبه، ينبجس سيل من ودق المصالح وخبثها، دبِقٌ ونتن ومقيت، يندلق في الحلوق دون استئذان، ويعطي الإنسان منا، مآلات صور وتطلعات وطموحات، تجعله ملعوناً من جده وأبيه، خارجاً على مِلَّته وذويه.

على تلك الأرض.. أرض الواقع.. أرض النسل الذي لم يبقِ احتراماً لنسل بعده في الأرض.. هناك تنتصب رحى ذات قطبين، قطب من ماس، وآخر من صوان، نُلقَى فيها فتتلقَّفنا، وتتهاوى عندها أحلامنا، وتنهار شعاراتنا، وتتقزم طموحاتنا، وتتقلص إرادتنا، ونغدو بحجم بذر الخردل، إن لم يكن أحط وأقل، ونغيب في فضاء غث رث، يكاد ينسانا، صوتاً وصدى. ونخاطب ذواتنا، من خلف حجاب و هَم، وسُجف وَهَمٍّ، نقول:

لقد تضخمت أصواتنا وذواتنا في ماض قريب، عشناه رغوة ورغاء، وامتدت ظلال قاماتنا فيه أطول بكثير من تلك القامات، وركبنا خيل الأجداد وسافرنا على أجنحة مجدهم وذكراهم، وغزونا بالسيف في عصر الصاروخ، بلاداً فتحوها، وعندما وصلنا تخوم الصحراء، على وقع الحداء، تحسَّسنا زادَنا والماء وسيفاً مشحوذاً، يحتاج إليه المسافر في البيداء.. فلم نجد إلاّ الشعر والسحر، والثأر والغدر، وما تجود به الذاكرة من أسماء وأحداث ورموز وذكريات، وما تحفظه من أوصفات وصفات، لصداقات وعلاقات وولاءات، فجلسنا عند تلك التخوم، لا نستطيع اجتياز المَفازات، ولا يليق بنا الرجوع إلى حيث الواقع المضني، والوقائع المهلكات. كلنا تحت السقف.. كلنا تحت السقف الذي غيَّب النجوم والسماء ونور الشمس، وأصبح ثقيلاً كئيباً.. كلنا تحت سقف يصنعه تضافر الأعداء، والعملاء، والخوف، والوقائع، والادعاء.. ويقدم لنا صفيحة ساخنة نُشوَى على سطحها، نارُها نارنا ونار عدونا، ومادتها واقع عالم اليوم ووقائعه، ذلك الذي لم يعد لنا فيه، إلاّ موقع اليتيم على مائدة اللئيم، ومع ذلك يدُعُّ بعضُنا بعضاً، ونحن نتزاحف إلى أعتاب اللئام.

كلنا تحت السقف الثقيل الكئيب، سقف الواقع الذي صنعه ضعفُنا، وخوفُنا، وتفرُّقنا، وتزاحمُنا على أعتاب أعدائنا.. كلنا تحت رحمة ذلك الواقع- السيف: من كان يعمل منا ومن كان يُهمل، من كان يصرخ منا أن استيقظوا، ومن كان يغط في نوم عميق، من كان يخرق السفينة، ومن كان يرمم كل الخروق فيها.. كلنا على مساحة الرمل المحرِقة، نُشوَى بنار الحدَث المتقدة، ويجني الحنظل بيد كانت تروم جنى المجد.

هناك من يستشعر مساحة الرمل، ويشم رائحة الحرق، وهناك من يغيب عن الوجود، جراء ما يواجهه من وجود، وهناك من يرى نفسه على شاطئ السلام والأمان، يعيش في بساتين العشق، ويتفحص تفاصيل ما بين التعابير، ويشتد نحو يوم، يصبح فيه والعدو في صف واحد، يحاربان حرباً »مقدسة« ، ضد من كان الأخ والشقيق والمواطن والصديق.

يا تعس يوم يزحف علينا، يحمل في طيَّاته ثقل الواقع، وصدمات الوقائع، ويظهر لنا السكاكين التي في ظهورها، بأيدٍ كانت تمتد لتصافحنا بأمان، وتغدق علينا من عيونها اللطف والحنان.. يا تعس يوم يأتي.. والعدو فيه »صديق« ، والصديق فيه مغيَّب في ثوب العدو، ويا تعس ساعة نقف فيها على مشارف قبورنا، فترفضنا قبورُنا.. ويا تعس ساعة ننظر فيها إلى الوجه..القناع، وقد تعرَّى وتبدَّى قِناعاً.. وجهاً.. لا نعرف متى ينتهي تحولُه وتلونُه  وتساقُطه.. وهو يترهل ويتشقق ويتهزّل ويتمزَّق، ويلبس لكل حالة لَبوسَها، ويسوقك وينساق معك، حتى إذا أشرفت لحظةٌ ملائمة لـه، ذبحك من الوريد إلى الوريد.

ولكن لا بدّ من تلك الصَّاخَّة، ولا بدْ من مواجهة الاستحقاقات في أوانها، وعلينا أن نتجهز لذلك، حتى ونحن نزحف إلى أمجادنا أو قبورنا.. فيا حبذا يوم يكشف الأيام، ويا بؤس عيش يظلم فيه الأنام، ويعيشون الغفلة، وذهول الرعب، وهول الفتنة.؟! لا بدَّ من الصَّخَة، فربَّ ضارة نافعة، وبعد كل شدة فرج.. وإن علينا، حتى ونحن نزحف إلى ميقاتٍ تتخلَّع منا عنده القلوب.. علينا أن نكون على استعداد لأن نعمل، من أجل قيام من رُقاد، وولادة من رماد، ونهوض يليق بنا.. فنحن طائر »السِّيمرْغ« ، وتجدد تَموز » ديموزي« ، ونسل »الفينيق« ، وأمة العرب، وأتباع الذكر الحكيم، ومَن ينهضون من رمادهم، كلما احترق بهم رَماد.

فليكن يوم موت.. وليكن يوم حياة.. فليكن يوم مواجهة لعدوٍّ، يُراد لنا أن نراه »صديقاً"، لكي تولد فينا بَصيرة، تميز العدوَّ من الصديق، وإرادة تصنع بالوعي والعلم والإيمان والعمل، وقوةً.. تنزلنا المنزلَة التي تليق بنا، بين أمم الأرض، وإلا فموتٌ كريم خيرٌ من حياة ذُل.

فيا أيها الزاحفون إلى قبوركم/ قبورنا.. فليكن زحفكم/زحفنا، نحو الأمل، فإنه يليق بكم البقاء والنصر والأمل، ويليق بكم العزُّ، وزهوُ الحياة.

 

 

 

كلمات دلالية