خبر يسألونك عن التهدئة .. فهمي هويدي

الساعة 10:22 م|22 ديسمبر 2008

(1)

القرار كان سباحة ضد التيار بامتياز. إذ حين تعلن من غزة فصائل المقاومة الأربعة (حماس والجهاد الاسلامي والجبهتان الشعبية والديمقراطية) رفض تمديد اتفاقية التهدئة التي عقدت مع “إسرائيل” في 19/6 من العام الحالي، فإنها تتخد قراراً متعارضاً مع رغبات كل الأطراف ذات الصلة بالموضوع. فرئاسة السلطة في رام الله ارادت التهدئة التي خففت عنها الضغوط الفلسطينية المزعجة، وجنبتها حرجاً سوغ لها استمرار المفاوضات مع “إسرائيل”. و”إسرائيل” أرادت التهدئة لكي تهدئ من غضب المستوطنين الذين أزعجتهم الصواريخ المنطلقة من القطاع، ولكي تتفرغ لمهام أخرى توليها أولوية خاصة (مواجهة إيران بالدرجة الأولى). ومصر كانت تريد التهدئة، التي توسطت فيها من البداية، انطلاقاً من حسابات كثيرة تتصل بدورها في العملية السلمية. وكان ذلك أشد وضوحاً في ورقة “المصالحة” المصرية التي قدمت لإقرارها من الفصائل الفلسطينية (رفضتها حماس والجهاد)، ونصت على “الحفاظ على التهدئة”، معتبرة ذلك ضمن “المشروع الوطني الفلسطيني”. والرباعية الدولية تحمست بشدة للتهدئة لأنها تخفف الضغوط على “إسرائيل”، وتجنب المنطقة التصعيد المسلح. وبان كي مون الأمين العام للامم المتحدة أعرب عن قلقه من الأخبار التي تسربت الأسبوع الماضي عن احتمال إنهاء التهدئة، معتبراً أن هذه الخطوة من شأنها أن تؤدي الى “عواقب وخيمة تهدد المدنيين في “إسرائيل” وغزة كما تهدد استمرار العملية السلمية”.

 

في هذا السياق لا تفوتنا ملاحظة قرار مجلس الأمن الذي صدر في الأسبوع الماضي (16/12) داعياً الى تدعيم مسيرة السلام في المنطقة من خلال استمرار المفاوضات بين السلطة و”إسرائيل”، في الإطار الذي حدده اجتماع أنابولس في ديسمبر/ كانون الأول عام 2007. ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي قدمت مشروع القرار مستهدفة في ذلك أمرين، أحدهما تبني مجلس الأمن لما تحقق في أنابولس، الذي كان مبادرة أمريكية بالأساس، والثاني تأكيد استمرار المفاوضات كخيار وحيد لتسوية القضية. وإذا ما تحقق ذلك فإنه يعني “تنويم” القضية لبعض الوقت، على نحو يحقق “تهدئة” تسمح للرئيس الأمريكي الجديد أن ينصرف الى معالجة مشاكله الداخلية الملحة، دون ازعاج تسببه القضايا الخارجية المتفجرة - وفي الوقت ذاته فإنه لا يعطل شيئاً من المخططات “الإسرائيلية”، التي لم تتوقف عن التمدد والتوسع وممارسة قمع الفلسطينيين، في ظل استمرار “المحادثات”، التي ترحب بها كثيراً باعتبار أنها في النهاية “مكلمة” يمكن أن تستمر طول الوقت، بما يخدّر الفلسطينيين، ويوهمهم بأنهم يفعلون شيئاً، في حين لا يوقف شيئاً ل “الإسرائيليين”. وكان رئيس الوزراء “الإسرائيلي” الأسبق اسحاق شامير، قد أعلن عن ذلك صراحة أثناء انعقاد مؤتمر مدريد (في سنة 1991)، حين قال إنهم مستعدون لمباحثات تستمر 10 أو 15 سنة.

 

إزاء كل ذلك فإن قرار وقف التهدئة الذي أعلن يوم الخميس الماضي 18/12 يصبح إشارة غير مريحة للأطراف المعنية بالموضوع. ذلك أنها تلوح بضوء أحمر في الأفق، يربك بصورة نسبية الحسابات الموضوعية على الطاولة. ومن ثم يفتح الأبواب لكافة الاحتمالات.

(2)

خبرتنا مع “الإسرائيليين” علمتنا أنهم ليسوا على استعداد لدفع شيء في مقابل ما يحصلون عليه، ويعتبرون أنهم في أي اتفاق مستثنون من أي التزام، إلا إذا كان ذلك الالتزام يحقق مصلحة لهم. وشواهد هذا الدرس ثابتة منذ صدور قرار تقسيم فلسطين في عام 1947 وحتى اجتماع أنابولس في ،2007 فالتهدئة قصد بها تجميد الموقف الراهن مؤقتاً، ربما أملاً في أن تسوى الأمور عبر المفاوضات الجارية. وبمقتضاها اتفق على وقف اطلاق الصواريخ من غزة، مقابل وقف الاعتداءات “الإسرائيلية” وفتح الممرات ورفع الحصار عن القطاع - وهو ما التزمت به السلطة في القطاع، لكي تخفف من معاناة سكانه، وتحسن من أوضاع السجن كما قيل وقتذاك. فأوقفت اطلاق الصواريخ من جانب حماس، ولاحقت الذين أطلقوا بعض الصواريخ في ظروف معينة، لكنها وجدت نفسها مغلولة اليد في الحالات التي أطلقت فيها صواريخ فلسطينية رداً على غارات أو اعتداءات “إسرائيلية”.

 

في مقابل ذلك خرقت “إسرائيل” الاتفاق 195 مرة، حسب إعلان حركة الجهاد الاسلامي. وذكرت “قدس برس” أنه منذ بدء التهدئة في 19/6 وحتى أول ديسمبر الحالي، قتلت “إسرائيل” 43 فلسطينياً. وطبقاً لبيانات المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فإن معبر رفح خلال 128 يوماً (من 26/6 الى 30/10) ظل مغلقاً طيلة 122 يوماً وفتح جزئياً عدة أيام. وهو ما ترتب عليه حرمان 4600 مواطن من سكان القطاع من السفر خارج القطاع، للعلاج أو مواصلة الدراسة. كما ظل معبر بيت حانون مغلقا بالكامل طوال تلك الفترة.

 

معبر المنطار (كارني) أغلق في وجه الصادرات والواردات من وإلى قطاع غزة طول 106 أيام بصورة كلية (بنسبة 83%) وفتح لإدخال كميات محدودة لمدة 22 يوماً (أي نحو 17%) خلال الفترة التي تناولها التقرير- معبر ناحل عوز (المخصص لإمداد قطاع غزة بالوقود) أغلق بشكل كلي لمدة 41 يوماً. وفتح 87 يوماً أدخل خلالها 6،39% من حاجة القطاع من الوقود. أما معبر صوفا المخصص لدخول المساعدات الإنسانية فقد أغلق بشكل كلي لمدة 45 يوماً، وفتح لمدة 83 يوماً. معبر كرم أبو سالم أغلق لمدة 88 يوماً وفتح لمدة 40 يوماً.

 

لنا ملاحظتان على هذه الأرقام، الأولى أن معبر رفح الذي يصل القطاع مباشرة مع العالم الخارجي، من دون أي تدخل “إسرائيلي” مباشر، ظل الأكثر إغلاقاً، حيث فتح لمدة ستة أيام فقط من بين 128 يوماً (في الفترة من 26/6 الى 31/10). الملاحظة الثانية، أن المعابر الخمسة الأخرى الخاضعة للسيطرة “الإسرائيلية” ظلت تمرر الحد الأدنى من البضائع والاحتياجات الفلسطينية لكي يظل سكان القطاع عند حدود الكفاف دائماً. وهي حين تتحكم فيما يسمح بدخوله من تلك المعابر فإنها تتحكم في الوقت ذاته في نمط حياة المليون ونصف المليون إنسان الذين يعيشون فيه. فتحدد لهم السلع التي يستهلكونها وحجم الدقيق والوقود الذي يستخدمونه، وعدد الأيام التي يعم فيها الظلام بالقطاع، وتلك التي يتم خلالها تشغيل مولدات الكهرباء بحيث تضاء البيوت وتعمل المخابز وغرف العناية المركزة وحضانات الأطفال.. إلخ.

 

الخلاصة أن فصائل المقاومة الفلسطينية أدركت أن التهدئة إذا كانت قد سمحت لسكان القطاع بالتقاط أنفاسهم لبعض الوقت، إلا أنها لم تغير كثيراً في إصرار “إسرائيل” على إذلالهم وحصارهم، في حين أنعشت مجتمعات المستوطنين في جنوب الدولة العبرية. وهو ما يعني أن الطرف الفلسطيني ظلّ خاسراً، أما الطرف “الإسرائيلي” فقد كان الرابح الأكبر منها. ولذلك كان منطقياً أن تقرر تلك الفصائل وقف التهدئة بعدما أدركت أنه لم يعد لدى الفلسطينيين ما يخسرونه.

(3)

الموضوع أثار جدلاً في “إسرائيل”، عبرت عنه الصحف التي عكست آراء الأجهزة المختلفة. واتفقت تلك الصحف على أن “إسرائيل” على شفا القيام بعملية عسكرية كبيرة في غزة. وأن الخطط اللازمة لذلك جاهزة، لكنها تنتظر القرار السياسي. فقد ذكرت صحيفة “معاريف” في (19/12) أن التهدئة لم تنجح في تخفيف التوتر أو إقامة التعايش مع حركة حماس، كما أنها لم تؤد الى تحرير الجندي الأسير جلعاد شاليط. رغم أنها منحت مستوطنة سيدروت ومحيطها هدوءاً نسبياً لعدة أشهر. وذكرت أنه من الصعب الدخول الى قطاع غزة في ذروة حملة الانتخابات “الإسرائيلية”. وفي كل الأحوال فمن المحتمل جداً أن تقع عملية كبيرة في النهاية، ولكن القرار بشأنها لن يتخذ إلا عندما يكون هناك إحساس حقيقي بأنه لا يوجد بديل آخر، وأن السيف موضوع على الرقبة. وفي حديث أجرته “هآرتس” مع وزير الحرب ايهود باراك قال إن “إسرائيل” لن تتردد في القيام بعمل عسكري  إذا اقتضى الأمر ذلك، لكنها لن تهرول نحوه، وستختار المكان والزمان المناسبين. في نفس اليوم (19/12) نقلت “يديعوت احرونوت” عن أوساط أمنية “إسرائيلية” قولها إن مداولات أذرع المؤسسة الأمنية أفضت الى أن الجيش “الإسرائيلي” لن يقوم بعملية عسكرية كبيرة في القطاع، إلا في حال وقع عدد كبير من القتلى “الإسرائيليين” نتيجة قصف الصواريخ الفلسطينية. وكتب المعلق العسكري للصحيفة اليكس فيشمان قائلاً إن “الوقت أصبح متأخراً لتقوم “إسرائيل” بهجوم على القطاع. فالخيول هربت من “اسطبلاتها” برعاية التهدئة” - كناية على استعدادات المقاومة لصد أي عدوان.

 

وإذا جاز لنا أن نلخص، فسنجد أن مؤيدي اقتحام القطاع يستندون الى الاعتبارات التالية: أن مواصلة إطلاق الصواريخ يشكل ضغطاً جماهيرياً على الحكومة والجيش- أن “إسرائيل” غير مستعدة لتمديد التهدئة حسب الشروط التي تتحدث عنها حماس - أن توجيه ضربة قوية الى سلطة القطاع من شأنه أن يؤدي الى إسقاط حكومة حماس، وهو ما يقوي مركز أبومازن في رام الله بما يسمح له بتجديد ولايته التي تنتهي في 9 يناير/ كانون الثاني المقبل - أن حسم الوضع قبل أن تتولى إدارة باراك أوباما الحكم سوف يجنب الإدارة الحرج ويضعها أمام أمر واقع جديد - صحيح أن حزب كاديما والعمل يخشيان شن عملية عسكرية في القطاع خشية التورط في عملية مكلفة تؤثر في فرصهما في الفوز،  إلا أن تواصل إطلاق الصواريخ وعدم تحرك “إسرائيل” للرد عليها سيكون سبباً للمس بشعبيتهما ويعزز موقف الليكود.

 

أما الذين يتحفظون على العمل العسكري ضد القطاع، فإنهم يستندون الى الاعتبارات التالية: أن حماس عززت قوتها في القطاع بما يخشى منه أن تؤدي المواجهة معها الى سقوط عدد كبير من الجنود “الإسرائيليين” خشية أن تؤدي العملية الكبيرة الى إعادة احتلال القطاع، بما يؤدي الى تحميل “إسرائيل” المسؤولية عن إدارته وتوفير احتياجات سكانه، وهذا عبء اقتصادي كبير تريد “إسرائيل” أن تتحلل منه، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية - خشية “إسرائيل” من سقوط أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين على نحو يشوه صورتها في الخارج ويدفع الى اتهامها بارتكاب جرائم حرب - إثارة الرأي العام العالمي جراء الفظائع التي يمكن أن تحدث، بما قد يرتب ضغوطاً دولية لوقف الحملة قبل تحقيق أهدافها - تعريض حياة الجندي “الإسرائيلي” جلعاد شاليط للخطر في هذه الحالة، مما قد يسبب حرجاً كبيراً للحكومة.

(4)

أغرب ما رددته الصحف “الإسرائيلية” في هذا الصدد أن الدولة العبرية شرعت في حملة دبلوماسية للحصول على تغطية عربية لمخططاتها، سواء في ما يخص الحملة العسكرية أو في حال ما لجأت الى اتخاذ إجراءات تصفية لقيادات حماس. وهذا ما أشارت اليه بوضوح صحيفتا “يديعوت أحرونوت” و”معاريف” يوم الاثنين 15/12. فقد ذكر اليكس فيشمان المعلق العسكري ل “يديعوت” أن “إسرائيل” تولي أهمية كبرى لإقناع العالم العربي “المعتدل” - خصوصا مصر - بتفهم مخططات “إسرائيل” العسكرية إزاء حركة حماس. وأشار الى أن ذلك كان الهدف من الزيارة التي قام بها عاموس جلعاد مدير الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الحرب “الإسرائيلية” للقاهرة قبل عشرة أيام. ونقل فيشمان وكذلك بن كاسبيت المعلق السياسي لصحيفة “هآرتس” عن مصادر في وزارة الحرب “الإسرائيلية” قولها إن المبعوث “الإسرائيلي” وجد في القاهرة غضباً شديداً على حماس أكثر من أي وقت مضى، حتى إنه سمع ممن التقاهم أثناء زيارته أوصافا لها “غير مسبوقة” (كما ذكر كاسبيت). وادعى الكاتبان أن عاموس جلعاد وجد في القاهرة تفهما لما قد تتخذه “إسرائيل” من إجراءات للتعامل مع الموقف في القطاع.

 

لا نستبعد أن يكون الهدف من هذا الكلام هو الدس بين القاهرة وحماس، استثماراً لأجواء التوتر الحاصل بينهما، لكنه لا ينفي حقيقة أن “إسرائيل” في تصرفها بعد انتهاء التهدئة تستخدم قنواتها الدبلوماسية الممدودة مع أكثر من عاصمة عربية “معتدلة” لتوفير غطاء لخطواتها المقبلة التي قد تبدأ بتصفية الوضع في غزة، وتنتهي بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، وما قد يستتبع ذلك من أصداء وتداعيات لا يعلم مآلاتها إلا الله.