خبر تهدئة غزة وما بعد قرار عدم التمديد ..ياسر الزعاترة

الساعة 09:39 ص|21 ديسمبر 2008

ـ الجزيرة نت 21/12/2008

منتصف يونيو/حزيران الماضي، وبعد جولات من المباحثات الماراثونية قادها رموز المخابرات المصرية، وعلى رأسهم الوزير عمر سليمان، تم التوصل إلى اتفاق بين حركة المقاومة الإسلامية حماس والدولة العبرية، عرف باتفاق التهدئة. لا شك أن الموافقة الإسرائيلية على التهدئة التي سرت صباح يوم الخميس 19/6/2008 هي الأكثر أهمية، وبالطبع نظرا لتلك الشروط التي طرحتها قبل ستة أشهر، وكانت أشبه بصك استسلام رفضته حماس من دون تردد.

وفي حينه طلب الإسرائيليون وقفا لإطلاق النار من طرف واحد غير محدد المدة؛ تضمن حماس التزام كافة الفصائل به. بعد ذلك يجري تقييم الموقف، فإذا كان الالتزام جيدا فسيجري التفكير في تخفيف الحصار، إضافة بالطبع إلى إطلاق سراح الجندي الأسير، مع التعهد بوقف تهريب السلاح.

بعد ذلك بشهور وقعت تغييرات طفيفة في الشروط، لكن الجوهر بقي على حاله، أما النص الأخير فكان مختلفا إلى حد كبير، إذ تضمن ست نقاط خلاصتها: وقف متبادل للأعمال العسكرية، مدة التهدئة ستة أشهر، يتم التنفيذ فلسطينيا بالتوافق الوطني وفي ظل الرعاية المصرية، بعد مرور 72 ساعة تفتح المعابر وتدخل 30% من المواد الجديدة، بعد عشرة أيام يرفع الحصار عن كافة المواد التي حظرت بسبب الحصار، تعمل مصر على نقل التهدئة لاحقا إلى الضفة.

في الاتفاق النهائي نجحت حماس في استثناء ملف الجندي الأسير من الصفقة، واعتباره قضية أخرى سيجري التداول بشأنها لاحقا، كما نجحت في تثبيت رفضها ضمان التهدئة أو فرضها على الفصائل مُحيلة الأمر إلى مصر، فضلاً عن تثبيت رفضها المدة المفتوحة والاقتصار على ستة أشهر. ويبقى قبولها استثناء معبر رفح من الصفقة وإحالته إلى حوار مع السلطة والأوروبيين كنقطة ضعف في الاتفاق.

دوافع الأطراف المختلفة لقبول التهدئة

في سياق التقييم العام لاتفاق التهدئة، وما سيترتب على عدم تمديده، لا بد من التذكير بأطرافه الثلاثة (حماس، الدولة العبرية، مصر) ودوافع كل منها، مع إمكانية إضافة سلطة رام الله، وإن انسجم موقفها بشكل شبه كامل مع الموقف المصري.

بالنسبة للإسرائيليين يمكن القول إنهم تجرعوا التهدئة مثل السم، ولو كان المقام يتسع لنقلنا بعض التعليقات التي حفلت بها الصحف الإسرائيلية من كبار المحللين والمعلقين إثر توقيع الاتفاق، والتي عكست حالة الإحباط التي عاشها المجتمع الإسرائيلي في ذلك الحين.

حدث ذلك في ظل الوضع البائس الذي يعيشه الكيان الصهيوني إثر هزيمته في حرب يوليو/تموز 2006، والتي لم تكن تداعياتها المدوية قد انتهت فصولا بعد، مع أنها لم تنته عمليا إلى الآن. ولا شك أن قضايا الفساد التي لاحقت أولمرت وغياب القيادة السياسية المقنعة قد ساهمت في ذلك أيضا.

إلى جانب ذلك، هناك بؤس الخيارات المتاحة للتعامل مع قطاع غزة في ظل القناعة بأن الاجتياح لن يكون نزهة عابرة، وأن خسائر كبيرة قد تقع في الجيش الإسرائيلي (مصير الجندي الأسير كان حاضرا على الدوام)، إضافة إلى خسائر كبيرة في المدنيين الفلسطينيين قد تؤلب الرأي العام العالمي على الدولة العبرية، كما حصل إبان معركة جنين.

فضلا عن أسئلة اليوم التالي البالغة الصعوبة بالنسبة للاحتلال، وعلى رأسها ما الذي سيفعله بقطاع غزة: هل سيعيد الإدارة المدنية بكل ما تنطوي عليه من خسائر سياسية وأمنية واقتصادية؟ هل سيسلم القطاع لمحمود عباس ليحرقه سياسيا أكثر مما هو محروق تبعاً لموقفه من المقاومة وتعاونه الأمني في الضفة الغربية؟ ثم ماذا لو فشل الاجتياح عبر صمود كبير يعقبه نزول الناس إلى الشوارع في العالم العربي وضغوط غربية لوقف العمليات العسكرية؟

من جانبها وجدت حماس أن الاتفاق هو فرصة لالتقاط الأنفاس، وتحسين شروط حياة المواطنين في القطاع، مع تأكيد السيطرة على الوضع الداخلي، إضافة إلى الأمل في إنجاز صفقة التبادل، فضلا عن انتظار تطورات إقليمية ودولية ربما كانت في صالح خيار المقاومة والممانعة. ثم هناك ضرورات العلاقة مع مصر التي تدفع في الاتجاه المذكور، لاسيما أن الجغرافيا السياسية ما زالت تفرض على حماس مجاملة القاهرة مهما كانت قناعتها بحقيقة موقفها المجامل للإسرائيليين والأقرب إلى سلطة رام الله، بل المنحاز إليها بشكل شبه كامل.

مصر بدورها كانت حريصة كل الحرص على التهدئة، في ذات الوقت الذي كانت تدرك فيه، تماما كما هو حال الإسرائيليين، بأن الشروط المنصوص عليها لن تطبق، وفي العموم فالموقف المصري يقوم على عدم السماح لحماس بالراحة في القطاع، بل تركها في وضع بين الحياة والموت في انتظار فرصة أفضل للتخلص من حكمها من دون عنف، وبالطبع عبر انتخابات يمكن لفتح وحلفاؤها أن يكسبوها، إن لم يكن بطريقة عادية، فمن خلال بعض التزوير والفهلوة. وكل ذلك لكي لا يصل وضع القطاع إلى حد الانفجار الذي لن يكون إلا في الاتجاه المصري كما وقع قبل التهدئة بنحو ستة أشهر فيما عرف بانتفاضة المعبر.

لماذا لم تجدد حماس التهدئة؟

من الضروري القول ابتداءً إن الطرفين المصري والإسرائيلي كانا حريصين كل الحرص على تمديد اتفاق التهدئة، بل إن التهديدات التي وصلت لحماس عن طريق المصريين كانت بالغة الشدة، وتتحدث عن اغتيال رموز الطبقة القيادية الأولى في الحركة.

وقد كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية أن دولا عربية قد طلبت من الدولة العبرية تنفيذ تهديدها باغتيال القادة إياهم وتشديد الضغط على حماس، ولا خلاف أن الطرف العربي المقصود، أو أحد الأطراف بتعبير أدق هو مصر التي تعيش حالة عداء غير مسبوقة مع حركة حماس منذ رفضها حضور حوار القاهرة الذي كان مقرراً شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.

إن ما تخشاه القاهرة هو التصعيد وصولا إلى الاجتياح الذي قد يجابه بصمود كبير (هناك حديث متواصل عن أسلحة جديدة حصلت عليها حماس) وخسائر في المدنيين تدفع الشارع المصري إلى التحرك بعنف ضد النظام، وهو سيناريو يخشاه الإسرائيليون أيضاً، ليس في الشارع العربي، وإنما في العواصم الدولية في حال استمر الصمود لبضعة أسابيع. وعموما لا يجد الإسرائيليون أنفسهم، وهم على مشارف الانتخابات، في وضع يسمح لهم بالتصعيد والدخول في مغامرة سبقت الإشارة إلى محاذيرها الكبيرة.

من هنا بدا موقف حماس مفاجئا وصادما في الآن نفسه، وينطوي على قدر من التحدي لمصر وللدولة العبرية كذلك، لكنه في المقابل كان ضروريا بالنسبة لها في ضوء عدم تحقيق التهدئة لأي من الآمال التي علقت عليها.

نتذكر بالطبع أن معبر رفح لم يفتح ولم يكن ثمة حوار بشأنه، بينما تواصل الحصار بذات الوتيرة (أي الخنق إلى ما قبل الموت) مع اجتياحات جزئية ذهب ضحيتها نحو 20 شهيدا. أما صفقة شاليط فبقيت معلقة في ضوء التعنت الإسرائيلي المتفهَّم مصريا، والنتيجة أن شيئا عمليا لم يتحقق وأن الطرف الثاني في الاتفاق ومعه الطرف الراعي قد تواطآ على معادلة المضي في برنامج مطاردة حماس وخنقها.

لذلك كله، وإلى جانب ضغوط من طرف الفصائل الأخرى، وعلى رأسها الجهاد، تم التوافق على رفض تمديد التهدئة بذات الشروط من دون تحديد مسار اليوم التالي من جهة، ومن دون إغلاق الباب أمام تفاهم جديد بشروط مختلفة من جهة أخرى.

أسئلة المرحلة التالية

من الواضح أن عدم تمديد اتفاق التهدئة يُدخل أطرافه الثلاثة في مأزق حقيقي، على تفاوت بينها، إذ سيجد الإسرائيليون أنفسهم في مأزق على مشارف الانتخابات، وحيث تنهمر الصواريخ من جديد على المستوطنات تاركة مئات الآلاف منهم أسرى الرعب والملاجئ، بينما ترد هي باغتيالات وهكذا دواليك.

أما الطرف المصري فيعيش حالة من الخوف والارتباك خشية التصعيد الشامل، إلى جانب مواجهة الاتهامات الشعبية العربية بخنق مليون ونصف مليون فلسطيني من أهالي القطاع، الأمر الذي سينعكس حراكا شعبياً داخليا قد يتطور أكثر فأكثر في حال تزامن مع تصعيد إسرائيلي.

حماس بدورها تعيش مأزق الخيارات في مواجهة هذه اللعبة، وفي ظل تواطؤ مصر الرسمية ضدها، ومواقف عربية أخرى تسجل أسوأ تحولاتها، كما هو حال الموقف السعودي، وهي ستدفع ثمنا كبيرا في المواجهة، لكنها تبدو واثقة من قدرتها على التصدي لأي اجتياح إسرائيلي، أكان جزئيا أم شاملا، من دون أن تغلق الباب أمام اتفاق تهدئة آخر بشروط جديدة وضمانات مختلفة.

في هذه الأثناء لا مجال أمام حماس سوى قلب الطاولة في وجه الإسرائيليين والنظام المصري في آن، ولن يتم ذلك من دون موقف انقلابي يعيد الاعتبار للقضية برمتها بعيدا عن هواجس السيطرة على قطاع غزة بأي ثمن.

في هذا السياق يبدو أن عليها التفكير في طريقة جديدة تؤكد قيادتها للمشهد الفلسطيني، ولن يتم ذلك سوى بطرح مبادرة مختلفة تحرج سلطة رام الله أمام الجمهور الفلسطيني، وأمام الشارع العربي والإسلامي، وستكون الأجواء أفضل من دون شك إذا أسفرت الانتخابات الإسرائيلية عن فوز الليكود بزعامة نتنياهو، وإن لم تتغير كثيراً في حال فوز ليفني التي لن تقدم عرضا مقبولا للفلسطينيين.

من الضروري هنا الحديث عن وضع جديد يرد على الانقسام الداخلي، في ذات الوقت الذي يرد فيه على عبث المفاوضات الجارية منذ سنوات، والتي لم توقف حركة الاستيطان والتهويد، كما لم توقف الاجتياحات والاعتقالات، في ذات الوقت الذي فرضت على فرعها (أعني حماس) في الضفة الغربية دفع ثمن باهظ لم يدفعه في أي من مراحل الصراع، وهو ثمن يجبى بيد سلطة الجنرال الأميركي دايتون ومعها سلطات الاحتلال.

عليها أن تتجه نحو الجمهور الفلسطيني، وكذلك شرفاء حركة فتح بمبادرة تخلص القضية من عبء السلطة وديمقراطيتها المصممة لخدمة الاحتلال، وهو ما يمكن أن يحدث عبر إعلان قطاع غزة قاعدة شبه محررة للمقاومة تدار بالتوافق بين الفصائل، مع إعلان برامج مقاومة في الضفة والقطاع حتى دحر الاحتلال (فرص المقاومة في القطاع، باستثناء الصواريخ تبدو أقل بوجود السياج وغياب الأهداف الإسرائيلية، بينما هي متوفرة في الضفة)، أقله حتى التحرير الكامل للأراضي المحتلة عام 67 من دون قيد أو شرط، وذلك بدل استجداء ما دون ذلك بكثير، معطوفا على اعتراف بما تبقى من فلسطين ملكاً للعدو من خلال المفاوضات.

ليس مهما أن يوافق محمود عباس وزمرة المنتفعين الذين يعيشون على مزايا الاحتلال على طرح من هذا النوع، وبالطبع لأنه طرح قد يؤدي إلى شطب السلطة، مع أن من الأفضل أن يفعل ذلك لكي يعود الصراع إلى وجهه الأصلي وتنتزع المزايا السياسية والأمنية والاقتصادية التي جناها الاحتلال من وجود تلك السلطة.

إن برنامجا من هذا النوع قد يساهم في استعادة حركة فتح من زمرة الاستسلاميين الذين سرقوها بعد اغتيال ياسر عرفات، وقد يحقق إجماعا فلسطينيا داخليا غير مسبوق، وقد تأكد على الدوام أن الفلسطينيين لا يتوحدون إلا على خيار المقاومة.

ثمة أجواء داخلية إسرائيلية، وإقليمية ودولية جديدة قد تساهم في دعم هذا الخيار، وعلى حماس أن تستغلها بدل البقاء في دائرة المراوحة والحديث عن شرعية وديمقراطية، وكأننا في السويد ولسنا في دولة تقع بالكامل تحت الاحتلال.