خبر باكستان على حافة الهاوية ..د. بشير موسى نافع

الساعة 08:39 ص|18 ديسمبر 2008

ـ القدس العربي 18/12/2008

رافق لحظة الاستقلال من السيطرة الأجنبية، في أغلب دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، مشاعر ومظاهر احتفال وطني، روح تفاؤل وأمل كبير في المستقبل. ولكن هذا لم يكن الحال في الهند وباكستان، اللتين تحررتا من الهيمنة البريطانية في 1947.

فقد سبق بروز دولتي شبه القارة الهندية (كانت باكستان يومها تضم بنغلاديش أيضاً، تحت اسم باكستان الشرقية) وصاحب استقلالهما حرب أهلية طاحنة، تبادل سكاني طال عشرات الملايين، واشتباكات دموية في الاحياء والمدن والقرى المختلطة. كانت لحظة استقلال شبه القارة الهندية هي ذاتها لحظة انفصال باكستان، وكما كل انقسام في جسد الأمم الكبرى، عميقة التاريخ ومتعددة الأعراق والأديان، فإن انقسام شعوب شبه القارة تحول إلى جرح بالغ، لم يندمل قط. اليوم، بعد أكثر من ستين عاماً على الاستقلال والانقسام، تعيش شبه القارة تحت تهديد الحرب، للمرة الرابعة أو الخامسة، وتقف دولة رئيسة من دولها على حافة الهاوية.

تعتبر ولادة باكستان واحدة من أكثر الحركات القومية خصوصية، قومية بلا أسطورة عرقية أو إثنية. كل الحركات القومية في التاريخ الحديث (والفكرة القومية هي نتاج حديث بامتياز) تضمنت بعداً إثنياً أو عرقياً، أسست له لغة مختلفة أو تصور جمعي (وهمي أو حقيقي) لأصل واحد مشترك. حتى عندما لعب الدين أو المعتقد دوراً فاعلاً في الحركة القومية، كما هو في القوميتين الصربية والإيرلندية، كان البعد الإثني حاضراً، وبقوة. في الحركة التي أسست لباكستان لم يكن ثمة مسوغ عرقي أو إثني. كانت شبه القاة الهندية، ولا تزال، تضم عدداً لا يحصى من المجموعات الإثنية، الصغيرة والكبيرة، بعشرات اللغات والمكونات الطبقية. البنجابيون المسلمون، على الجانب باكستاني من الحدود، لا يختلفون في أصولهم الإثنية عن البنجابيين الهندوس والسيخ على الجانب الهندي من الحدود. وتجمع أبناء السند من المسلمين وأبناء السند، الذين اضطر أغلبهم إلى مغادرة باكستان إلى الهند عشية الاستقلال، أصول إثنية واحدة. ما أسس لحركة باكستان في النصف الأول من القرن العشرين كان المعتقد الديني، انسياق قطاع واسع من المسلمين الهنود خلف دعوة قادة الرابطة الإسلامية إلى قيام دولة خاصة للمسلمين، دولة منفصلة عن الأغلبية الهندوسية التي رأى القادة المسلمون أنها ستطغى على مقاليد الحكم ومؤسسات الدولة الجديدة، وتهدد الهوية الدينية والثقافية لمسلمي شبه القارة. والحقيقة، أنه بالرغم من الجهد الهائل لقادة الرابطة الإسلامية، وبالرغم من قصر نظر العديد من القادة الهندوس، لم تستطع فكرة باكستان أن تصنع إجماعاً بين المسلمين، وظل قطاع ملموس منهم وفياً لمشروع الهند الواحدة.

بيد أن باكستان ولدت أخيراً كدولة مستقلة، ولدت وسط بحر من العنف الأهلي، لم تستطع التحرر منه كلية، وظل عرضة للاشتعال، داخلياً وإقليمياً، بين آونة وأخرى. ثمة اعتقاد سائد بأن مشكلة العلاقات الهندية باكستانية هي انعكاس لمشكلة مقاطعة كشمير ذات الأغلبية الإسلامية، التي يقع ثلثاها تقريباً تحت سيطرة الهند والتي رفضت نيودلهي طوال عقود الانصياع لقرار أممي بإجراء استفتاء بين سكانها لتحديد المصير الذي يختارونه. ولأن مشكلة كشمير تعود إلى لحظة الاستقلال بالغة الاضطراب، فإن بريطانيا تحمل عادة مسؤولية بقاء هذه المشكلة المزمنة لتسمم العلاقة بين الشعبين الشقيقين. بريطانيا، بالطبع لا يمكن إعفاؤها من المسؤولية، ولكن كشمير ليست إلا جزءاً صغيراً من حزمة قضايا ومعضلات ولدت مع استقلال الدولتين وانقسامهما.

لم تر الطبقة الهندية الحاكمة، ممثلة في البداية بقيادة حزب المؤتمر، مسوغاً لانقسام باكستان وشطر شبه القارة إلى دولتين. وحتى في أكثر مراحل الدولة الهندية ليبرالية، لم تغفر الهند للباكستانيين انقسامهم. ولا يقتصر مناخ عدم الغفران على دوافع ثقافية وتاريخية، بل واستراتيجية أيضاً. فباكستان لم تكن انشطاراً صغيراً وهامشياً، بل دولة منافسة، بتعداد سكاني هائل وجيش لا بأس بقوته وتحالفات دولية بالغة التأثير، ثم أخيراً بسلاح نووي. شكلت باكستان حزاماً شمالياً شرقياً وشمالياً غربياً للدولة الهندية، وفي ذروة الحرب الباردة، تحالف باكستانيون مع الصين والولايات المتحدة، عندما كانت الهند حليفاً غير رسمي للاتحاد السوفييتي. ولذا، فما إن سنحت الفرصة، حتى تحركت الهند لاحتضان الحركة الانشقاقية البنغالية في باكستان الشرقية، وقدمت الغطاء العسكري والسياسي لانقسام باكستان إلى دولتين وبروز دولة بنغلاديش، بعد حرب أهلية دامية وحرب باكستانية - هندية موازية. وبالرغم من أن مشكلة بنغلاديش ولدت من أزمة النخبة باكستانية الحاكمة، وليس فقط من الدعم الهندي، فإن طبقة باكستان الحاكمة لم تتعلم الدرس.

توزعت الطبقة الباكستانية الحاكمة منذ ولادة باكستان بين ثلاثة كتل رئيسية: كبار ملاك وأسر تجارية صناعية رئيسة بنجابية، وأخرى مثيلة لها في السند، وفئة الانتلجنسيا العسكرية والمدنية من أبناء المهاجرين المسلمين، الذين قدموا إلى الدولة الجديدة من أنحاء الهند المختلفة. خارج هذه الفئات الثلاث، همشت باكستان الشرقية (البنغالية في أغلبيتها العظمى)، كما المقاطعات القبلية في الغرب والشمال الغربي (موطن قبائل الباتان، أو البشتون، والقبائل البلوشية). ولم يفد الأخيرة تمتعها بالحكم الذاتي داخل الفيدرالية باكستانية، بل زادها في الواقع اغتراباً عن الحكم المركزي. خلال سنوات حكمه، حاول الجنرال أيوب خان، مستعيراً النمط التركي والإيراني، بناء قومية باكستانية، تتجاوز حدود المجموعات الإثنية وتحيط بها. ولكن الدولة التي قامت أصلاً بمبرر إسلامي، تنازعها على الدوام، وبدرجات متفاوتة من الحدة تياران، حمل الأول مثال دولة الإسلام، وحمل الثاني الدولة الحديثة بمعناها القومي والعلماني. ولم ينجح أي من هذين التيارين في حسم الإجماع باكستاني لصالحه. ولضعف البنية القومية باكستانية، للصراعات الدائمة في صفوف النخب الحاكمة، لعجز هذه النخب عن بناء إجماع وطني، أصبح الجيش هو الحارس لوجود الدولة، ضمانة استمرارها؛ وطوال معظم سنوات عمرها، كان الجيش هو عقلها المفكر وصانع توجهها الاستراتيجي وحاكمها المطلق.

كان يمكن لأزمة انشقاق بنغلاديش أن تشكل دافعاً لإعادة بناء باكستان، دولة وشعباً، وتضع أسس استقرار دائم؛ ولكن النخب المدنية والعسكرية الحاكمة لم تستطع تحمل أعباء الأزمة، ولا أعباء إعادة البناء. وكان يمكن للاحتلال السوفييتي لأفغانستان، واندلاع المقاومة الأفغانية، وما رافقهما من انفتاح غربي واسع على باكستان، أن تفتح طريقاً جديداً لباكستان. وحتى نهاية الحرب الباردة، وما صاحبها من تقارب أمريكي - هندي وانحسار أهمية باكستان في الاستراتيجية الغربية، كان يفترض أن تدفع النخب باكستانية الحاكمة لاستشعار مخاطر المستقبل وأعبائه. ولكن لا المنعطفات الحاسمة، ولا سنوات الاسترخاء، أفادت النخب باكستانية ورفعت من مستوى استجابتها لمتطلبات الحكم الأساسية، أو لقدرتها على التعامل مع المعضلات الوراثية في تكوين الدولة وبنيتها. من مجموعة مدنية مستأثرة، إلى مجموعة فاسدة، ومن حكم مدني هش إلى انقلاب عسكري جامح، تردت أحوال الدولة وتفاقمت مشكلات الاجتماع السياسي.

اليوم، تتنازع باكستان جملة من القوى، التي قد تودي في حال فقدان التحكم في تياراتها وقواها بكل الهيكل. المؤسسة العسكرية، وبالرغم من إخفاقات الأنظمة الانقلابية العسكرية، ما تزال تعمل على إحكام سيطرتها على القرار باكستاني. وترى المؤسسة العسكرية أوضاع البلاد من منظار أمني قومي بحت، يحتل فيه الخطر الهندي، الموقع المركزي. وهذا بالتأكيد ما أسس لموضوعة العلاقة الخاصة بين باكستان وأفغانستان، والتصور المستقر في إسلام آباد حول ضرورة أن تكون أفغانستان، على هذا النحو أو ذاك، ملحقاً استراتيجياً بباكستان؛ وما أسس للروابط بالغة التعقيد، العلنية والخفية، بين دوائر الاستخبارات العسكرية باكستانية وطيف واسع من الجماعات الإسلامية الجهادية، سواء تلك النشطة في الساحة الأفغانية أو في كشمير. الطبقة السياسية، من جهة أخرى، ما تزال منقسمة على نفسها، بين كتلة بنجابية تلتف حول نواز شريف، كتلة سندية تلتف حول أسرة بوتو، أو تنشط باسمها، وكتلة أبناء التكنوقراط المهاجرين، ومجموعة القوى الإسلامية التي تعتبر الجماعة الإسلامية أبرزها وأكثرها تأثيراً. على هذه الخارطة من الانقسام السياسي، ما تزال المناطق القبلية في المقاطعة الشمالية - الغربية وبلوشستان تفتقد التمثيل الملموس في المركز باكستاني، وهو ما تعوض عنه بحركات التمرد المسلح، سواء باسم الحقوق الذاتية والحق في الموارد، أو باسم التضامن الإسلامي والإثني مع حركة طالبان الأفغانية. الشعور الجمعي بهوية باكستانية، لم يتقدم كثيراً منذ أيوب خان وحسب، بل ويبدو أنه تراجع عما كان عليه في الستينات. والمشكلة لا تتعلق بالاختلاف بين تصور مدني علماني وتصور إسلامي لمستقبل باكستان (وكلاهما بالغ التعدد والتشظي)، ولكن أيضاً بسبب التهميش الذي تعاني منه مجموعات إثنية كبيرة.

قد تكون المجموعة التي تعهدت الهجوم الإرهابي على مدينة مومباي الهندية ذات علاقة ما ببعض الدوائر العسكرية باكستانية أو لا؛ وقد تكون هذه المجموعة مدفوعة بأهداف سياسية كبرى أو بمجرد دوافع كشميرية محدودة. ولكن هذه العملية لن تؤدي إلى حرب باكستانية - هندية، ليس فقط لأن مثل هذه الحرب ستؤثر تأثيراً بالغاً على الوضع في أفغانستان، ولكن أيضاً لأن ليس هناك من قوى سياسية مؤثرة في كلا البلدين تريد الحرب. الخطر الأكبر يأتي من احتمال انهيار الدولة والاجتماع السياسي باكستاني. وهو ما يجب أن يطرح أسئلة حول جدوى انقسام شبه القارة الهندية وولادة باكستان، حتى بعد ستة عقود من الانشقاق. وما يجب أن يطرح أسئلة على كل القوى الإسلامية التي تدفع باتجاه انشقاق الأقليات المسلمة عن الأكثريات غير المسلمة في أنحاء أخرى من العالم.