خبر « عبد الباري عطوان »: « التهدئة » انهارت ولا أسف عليها

الساعة 05:42 ص|18 ديسمبر 2008

فلسطين اليوم:القدس العربي-بقلم رئيس التحرير

يوم غد الجمعة، ينتهي العمل رسمياً باتفاقية التهدئة التي جاءت نتيجة وساطة مصرية بين حركة المقاومة الاسلامية 'حماس' والدولة الاسرائيلية قبل ستة اشهر.

الاتفاقية كانت مثل 'الطفل الخديج' الذي يعتمد في حياته على الحاضنة الصناعية وأنابيبها وعناية الاطباء المشرفين عليها، وسط توقع الاطراف الثلاثة وفاته في اي لحظة، لكن دون ان يتحمل اي منهم المسؤولية المباشرة عن هذه الوفاة.

 

الاطراف الثلاثة وافقت على توقيع هذه الاتفاقية، والالتزام المتقطع بها، بسبب ظروف طارئة في حينه حتّمت التوقيع عليها باعتبارها 'كأس السم' الذي يجب تجرعه، ولو لفترة مؤقتة، ويمكن حصر ظرف كل طرف في النقاط التالية:

 

الطرف الأول: حركة 'حماس' التي أرادت من خلال توقيعها إحكام سيطرتها على قطاع غزة اولاً، كخطوة اساسية للانطلاق نحو الضفة الغربية، وإضفاء شرعية دولية واقليمية على هذه السيطرة من خلال هذه الاتفاقية. فهذه هي المرة الأولى التي تتفاوض حركة 'حماس' بشكل غير مباشر مع الدولة العبرية للتوصل الى اتفاق معها كطرف فلسطيني مستقل وبوساطة مصر الدولة العربية الاكبر، وعرابة السلام في المنطقة.

 

اما الاسباب الأخرى فتتلخص في رغبة قيادة 'حماس' في تخفيف الضغوط المعيشية اليومية على مليون ونصف المليون فلسطيني من ابناء قطاع غزة يعيشون تحت حكمها، وأصبحت أمورهم الحياتية الاساسية من صحة وتعليم وأمن ورعاية اجتماعية من صميم مسؤولياتها المباشرة، مضافاً الى ذلك ان الحركة أرادت من خلال هذه الاتفاقية التقاط الانفاس، وتجنب اعطاء اسرائيل فرصة لاجتياح القطاع عسكرياً، وحماية قياداتها من الاغتيالات.

 

الطرف الثاني: اسرائيل وجدت في اتفاق التهدئة 'نافذة اعتدال' في جبهة حماس، وأرادت الدخول منها على امل جر الحركة الى المزيد من المرونة وربما المفاوضات، فالخيارات الاسرائيلية كانت صعبة، علاوة على كونها محدودة. فاجتياح القطاع عسكرياً عمل غير مضمون النتائج، وسيؤدي الى وقوع خسائر اسرائيلية كبيرة في الارواح بسبب تطور الاستعدادات الدفاعية لدى حركات المقاومة. والسؤال الأهم هو كيفية التصرف في فترة ما بعد الاجتياح، او (The morning after)، فهل ستبقى القوات الاسرائيلية في القطاع كقوة محتلة، ام ستسلمه الى سلطة عباس في رام الله، ام الى مصر مثلما كان عليه الحال قبل هزيمة عام 1967؟

 

من المؤكد ان مصر لا ترغب بالعودة الى القطاع لما يمكن ان يسببه لها ذلك من صداع مزمن، ومن المشكوك فيه ان تقبل سلطة عباس العودة الى القطاع على ظهر الدبابات الاسرائيلية، وحتى إن قبلت فلن تستطيع السيطرة عليه بالصورة القديمة والوجوه القديمة، فالقطاع تغيّر، وخريطته السياسية تغيرت. ومن الجائز القول ان سلطة رام الله تغيرت ايضاً.

الطرف الثالث: الوسيط المصري الذي عمل جاهداً على اقناع الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي بالتوقيع على الاتفاقية، كان ينظر الى مصالحه الامنية اولاً، وكسب اكبر قدر من الوقت لبحث كيفية التعامل مع المتغير الجديد في قطاع غزة ثانياً. فقيام امارة اسلامية في قطاع غزة هو خط أحمر بالنسبة الى صانع القرار المصري حالياً، ولا نبالغ اذا قلنا ان الحكومة المصرية اكثر قلقا وريبة من وجود حماس في قطاع غزة من اسرائيل نفسها. الحكومة المصرية ارادت شراء الوقت من اجل كيفية التوصل الى توافق مصري عربي اسرائيلي للقضاء على حركة 'حماس' وقوتها العسكرية وانهاء سيطرتها على قطاع غزة، وهذا ما يفسر إحكام اغلاقها لمعبر رفح، وتحميل 'حماس' مسؤولية انهيار حوار فلسطيني تعلم جيداً انها لن توافق على وثيقته المعدة سلفاً للتوقيع قبل انطلاقه.

 

وهكذا فقد بات واضحاً ان اتفاق التهدئة هذا ولد ميتاً، والخلاف كان ليس حول موته، وانما حول موعد دفنه، وهذا ما يفسر عدم القيام بأي تحرك جدي في الأيام الاخيرة من قبل الوسيط المصري من اجل تمديده. والاكثر من هذا ان اللواء عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات المصرية وعراب الاتفاق، بدا اكثر غضباً تجاه 'حماس' من الطرف الاسرائيلي، مثلما ذكرت الصحف الاسرائيلية نقلاً عن عاموس غلعاد مدير الدائرة السياسية والامنية في وزارة الدفاع الاسرائيلية الذي زار القاهرة قبل يومين للتنسيق مع القاهرة حول الخطوات المقبلة. وقالت هذه الصحف ان الحكومة المصرية ابلغت غلعاد موافقتها على الخطط العسكرية الاسرائيلية بالنسبة الى القطاع التي اعدها الجيش، وذهبت الى حد القول ان اللواء سليمان قال لضيفه الاسرائيلي 'ان اسرائيل محقة في اي خطوة تتخذها ضد حماس'.

 

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة حالياً، هو عما سيحدث بعد يوم الجمعة، اي بعد انتهاء اتفاق الهدنة، ورد فعل كل طرف من الأطراف المعنية؟

الاجابة على هذا السؤال يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أولاً: 'حماس' أدركت انها تعرضت لخديعة كبرى على يد الوسيط المصري الذي لم يلتزم بربط التهدئة في قطاع غزة بأخرى في الضفة، بمعنى منع اعتقال ومطاردة عناصرها ومنظمات المقاومة الأخرى في الضفة، وفتح معبر رفح بصورة دائمة، ولهذا لن تقبل بأي وساطة مصرية جديدة، او على الاقل بالصورة والاسلوب السابقين، فهناك حالة من عدم الثقة متضخمة بين الجانبين. الامر الآخر هو شعور 'حماس' بأن 'الهدنة' التي انتهكها الطرف الاسرائيلي، ولم يحترمها الجانب المصري، اضعفت من شعبية الحركة، ومصداقيتها السياسية، خاصة عندما استغلتها سلطة رام الله في تصوير حركة حماس على انها متهالكة على التفاوض مع الاسرائيليين من اجل تهدئة، بينما عباس يتفاوض في رام الله من اجل دولة.

الأرجح ان تواصل 'حماس' التحلي بأعلى درجات الانضباط ولكن دون اتفاق، والرد على اي توغل او عدوان اسرائيلي باطلاق صواريخ على المستوطنات الاسرائيلية، والاستعداد في الوقت نفسه لمواجهة اي اجتياح اسرائيلي، والعمل بدأب سياسياً واعلامياً على كسر الحصار المتوقع ان يتضاعف على قطاع غزة.

 

ثانياً: حكومة 'كاديما' الاسرائيلية قد تضطر وهي على بعد شهرين من الانتخابات الى توغلات صغيرة كمقدمة لاجتياح موسع ضد قطاع غزة لتعزيز شعبيتها، وتحسين حظوظها الانتخابية، بعد ان أكدت استطلاعات الرأي تقدما كبيرا لليكود بزعامة بنيامين نتنياهو.

ما يشجع حكومة اولمرت على هذا التوجه وجود مباركة عربية، خاصة مما تسمى بدول الاعتدال التي تعتبر 'حماس' رأس حربة للنفوذ الايراني السوري ومصدر احراج لهذا المحور باستمرارها في المقاومة وتعبئة الرأي العام العربي ضده.

 

ثالثا: الحكومة المصرية تعتبر 'حماس' الخطر الخارجي الاكبر على امنها، وليست اسرائيل بسبب العلاقة المتطورة والقوية بين حماس وحركة 'الاخوان المسلمين' المعارضة التي تزداد قوة في الشارع المصري. وصرح الدكتور مصطفى الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان المصري، والمقرب من الرئاسة، ان مصر لن تسمح مطلقاً بقيام امارة اسلامية في غزة.

 

العام الجديد، وباختصار شديد، هو عام التصعيد العسكري، بعد فشل العمل السياسي. ولا نبالغ اذا قلنا ان كل المؤشرات على الارض تصب في مصلحة التطرف ومنظماته، ليس في الاراضي الفلسطينية فقط، وانما في كل انحاء العالم الاسلامي.