خبر أميركا من الداخل.. المخدرات وانتشارها ..سمير التنير

الساعة 06:39 ص|17 ديسمبر 2008

عندما منعت أميركا منذ ٩٠ سنة بيع الكحول، فرضت سياسة مرنة، وذلك مقارنة بالسياسة التي تتبعها حاليا إزاء المخدرات، اذ ان القوانين السابقة أباحت امتلاك الكحول للاستعمال المنزلي. أما السياسة المتبعة منذ عقدين حيال المخدرات فهي تظهر الى أي مدى يمكن للمنع ان يفسد تطبيق القانون، وتشجيع ظهور العصابات، ونشر الجريمة، وتهديد الحريات العامة، وصحة المواطنين. وذلك بواسطة تحديد الكمية المستعملة من سلعة استهلاكية أساسية. وسببت سياسة الحرب على المخدرات كافة الاشياء المذكورة. ولأن تجارة المخدرات هي عالمية الانتشار، أنزلت أبلغ الأضرار بالبلدان النامية التي تصدرها، ولكن الضرر الأكبر وقع على الولايات المتحدة التي حاولت وقف تلك التجارة.

كانت الحملات الكبرى التي قامت بها الولايات المتحدة تتجه الى بعض البلدان ومنها بوليفيا وبيرو وكولومبيا والكسليك. وذلك من أجل خفض كميات المخدرات المتجهة اليها. ولكن النتيجة كانت إعادة تنظيم تجارة المخدرات، وتغيير أماكن زراعتها، وليس وقفها. فانخفاض زراعة نبتة الكوكا في بيرو وبوليفيا في السنوات الاخيرة من تسعينيات القرن العــشرين، عوض عنه اتساع مساحة زراعــتها في كولومبيا، على الرغم من سجن زعماء كارتل المخدرات فيها. وكان لانخفاض سعر الكوكايين في اميركا توجه تلك التجارة الى الاسواق الاوروبية..

ضمن ظروف معينة يمكن خفض زراعة المخدرات في بعض مناطق العالم. والعوامل التي تجعل بلدا ما يتوقف عن تلك الزراعة يتعلق اغلبها بظروفه الاقتصادية اكثر مما يتعلق، بالثقافة والتعليم. ويشــير المؤلف تومي الذي كتب كتابا عن المخــدرات في منطقة الانديز في أميركا الجنوبية، ان البلدان التي تصدر الموز، تزرع نباتــات المــخدرات لان ذلك مجز اكثر. وفي حين تزدهر تجارة المخدرات في كولومبــيا، تنخــفض فـي البيرو وهي البلد الاكثر فقرا بسبب تقاليدها الدينية.

تبقى سياسة الولايات المتحدة لتشجيع الحكومات على منع زراعة النباتات التي تستخرج منها المخدرات محدودا وقصير الأجل. وتقدم اميركا مساعدات مالية مهمة الى كولومبيا (وهي تقدر بمليارات الدولارات) وذلك كي توقف زراعة المخدرات وتصديرها. ولكن مجلة ميلكن انستيوت ريفيو Milken Institut Review تشير الى ان ذلك لا فائدة منه لان التجارة في المخدرات مربحة جدا. وعلى سبيل المثال فإن كيلوغراما من الكوكايين يباع بحوالى مئة وعشرة آلاف دولار، في حين ان انتاج المادة لا يكلف الا بضع مئات من الدولارات. أما تشجيع المزارعين على الزراعات البديلة. فلا فائدة منه، لان تجار المخدرات يتجهون فورا الى مساحات جديدة من الاراضي التي يمكن زراعتها بعيدا عن الرقابة.

وتقوم الولايات المتحدة أيضا بجهود كبيرة لمنع تهريب المخدرات من خلال ممر تويجانا على الحدود المكسيكية. وتويجانا بلدة فقيرة جدا، ولكنها تغلبت على فقرها، وأصبحت بلدة مزدهرة بفضل تجارة المخدرات، حيث تنتشر فيها الابنية الحديثة والسيارات الجديدة، والمخازن والمدارس.

تقوم أحيانا قوات مراقبة الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك بمصادرة كميات كبرى من الكوكايين والهيرويين. ففي السنة الماضية صادر حراس الحدود الاميركيون حمولتين كبيرتين من المخدرات، اذ بلغ وزن الاولى ٨ أطنان والثانية ١٣ طنا. وتقدر قيمة تلك المخدرات بعشرات ملايين الدولارات، لذا يبقى امر شحنها منخفضا جدا، كما يقوم المهربون أحيانا باستئجار طائرات لتهريب المخدرات. اذ يدفعون حوالى نصف مليون دولار لتحرير الشحنات، ولكن هذا الرقم يبقى صغيرا جدا مقارنة مع العائد الكبير.

أتاحت هذه الظروف لأنشــطة الفساد أن تنمو، اذ امتدت رشى المهربين الى المستويات العليا من أفراد البوليس والجمارك. فالراتب الشهري لهــذه الفئة من حفــظة الأمن لا يتعدى ٧٠٠ ـ ٨٠٠ دولار. وتشير جريدة زيتا التي تصدر في مدينة تويجانا الى ان ما لا يقل عن ٤٠ بالمئة من أفراد البوليس والجمارك تم شراء ضمائرهم من قبل رؤساء عصابات التهريب. وترفع مصادر أخرى هذه النسبة الى اكثر من ٨٠ بالمئة. وعند زيارة الرئيس جورج بوش الى المكسيك بحث مع الحكومة المكسيكية بالسبل الآيلة الى منع تجارة المخدرات نهائيا.

تمتد تجارة المخدرات ايضا الى بريطانيا، وخاصة في منطقة سوهو في لندن والتي تحتوي على العدد الأكبر من البارات والكبريهات في البلاد. وتقدم تلك المحلات المنتشرة في ذلك الحي مشروبات ممنوعة ومخدرات. ومعظم الزبائن في ذلك الحي هم من صغار الموظفين والعاملين، ومن الشحاذين الذين يجولون في شوارع لندن والذين يحصلون في اليوم على اكثر من ١٠٠ جنيه استرليني. أي اكثر من ١٤٠ دولارا في اليوم. ولكن دائرة الزبائن لمتعاطي المخدرات تتسع في بريطانيا لتشمل فئات اخرى من الطبقة الوسطى والاثرياء. ويقوم البوليس في لندن بنشاطات واسعة لمنع تجارة المخدرات، ومنها الدوريات، وإضاءة الزوايا المظلمة في ذلك الحي، وإقامة أفخاخ لاصطياد مروجي المخدرات. ولكن المروجين يقومون بابتلاع كميات المخدرات التي يحملونها لتفادي الاعتقال والسجن. »ان هدفنا هو القبض على مروجي المخدرات« هذا ما يقوله مدير مكتب مكافحة المخدرات في لندن لكنه يضيف »ان زبائن المخدرات هم كثر، بحيث يملأ فراغ المروج المعتقل فورا ويحل مكانه مروج آخر«.

مر على الحرب الأميركية ضد المخدرات اكثر من عقدين، وتحققت بالفعل بعض النجاحات. ولكن على الرغم من ذلك فإن المجهود الذي بذل للقضاء على المخدرات لم يحقق الجانب الاكبر منه. فاستهلاك الفرد من المواد المخدرة والماريجوانا انخفض بعض الوقت. ولكنه عاد الى الزيادة مرة أخرى. اما عدد الاميركيين المتعاطين للمواد المخدرة فقد ظل ثابتا (٤٠ مليون شخص تقريبا) وما زالت الولايات المتحدة الاميركية تعتبر صاحبة اكبر معدل للتعاطي بين الدول الصناعية المتقدمة. اما الدخل السنوي لتجارة المخدرات فيبلغ اكثر من ١٥٠ مليار دولار. وتبلغ نسبة السود الذين يتعاطون المخدرات ١٣ بالمئة. وهي نسبة موازية لوزنهم الديموغرافي. ولكنهم يشكلون نسبة الثلث من الموقوفين. والثلاثة ارباع من المحكومين بجرم خرق قانون المخدرات. ان احد الأسباب الرئيسية وراء ازدياد عدد نزلاء السجون هو سياسية الحرب على المخدرات، مع ما رافقها من تخل عن مبدأ اعادة تأهيل المحكومين وتكاثر الانظمة القمعية. وفي عام ١٩٩٥ ومن اصل عشرة مساجين كان هناك ستة محكومين بحيازة المخـدرات او الاتجار بها. واللافت اكثر من الارقام التفصيلية هو الانقلاب العميق من المنحى الاجتماعي الى المنحى الجزائي. والواقع ان تضخم نظام العقوبات هو ترجمة لسياسة تجريم البؤس، وهي سياسة مكملة لفرض العمالة البخسة. ولاعادة توجيه البرامج الاجتماعية على نحو حصري وجزائي.

([) كاتب لبناني