خبر « هل من أفق لفلسطين »: مقاربة لأسئلة النكبة والتاريخ (٢)..عزمي بشارة

الساعة 06:38 ص|17 ديسمبر 2008

النكبة كسر في التاريخ الفلسطيني الحديث. ولا يوجد تاريخ فلسطيني سياسي غير حديث. لقد اقتلع المجتمع العربي بريفه ومدينته من الساحل الفلسطيني، وهدمت المدينة الفلسطينية، وهدم معها حلم الحداثة ما بين الحربين العالميتين، حلم النخب العربية والطبقات الوسطى في ظل الاحتلال البريطاني ببناء الوطن العربي المستقل واللحاق بالحداثة. وفقد الفلاح الفلسطيني أرضه وبلده وعلاقته بالطبيعة. لقد كان الفلاح هو العنصر الرئيسي في الصراع ضد الاستعمار البريطاني والاستيطان الصهيوني، وباتت أحلامه سياسية ومرهونة بإرادة السياسيين وموازين القوى والقرارات الدولية. وأصبحت طقوسه مؤتمرات موسمية تدعو للعودة وراديو »ترانزستور« يعده بالتحرير، واختزل المكان إلى حنين ونوستالجيا ثم إلى وطن سياسي، أعقبه بلورة حركات سياسية وعمل فدائي ومؤسسات لهوية فلسطينية حديثة.

والنكبة كسر في التاريخ العربي الحديث، لأن هذا التاريخ بات بعد النكبة تداعيات من ردود الفعل عليها احتلت فيها جدلية العلاقة مع الخصم، مع العدو، مكان جدليته الداخلية، ثم جرى تمويه الواحدة بالأخرى. صعق العرب بما حصل ولكن الانصعاق المشترك كان بداية العروبة الحديثة، عروبة الأنظمة، خلافاً لعروبة الفكر والحركة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. واعتبروا ما حصل معهم زلة وهفوة من هفوات الزمان، وكذبة مزعومة على وزن دولة إسرائيل المزعومة.

شرد الفلسطينيون، انسحبوا من المكان إلى الزمان العربي المأمول. هُجِّروا من أربعمئة وثمانية عشر مكاناً، كانت قبل الانتداب جزءا عضويا من بلاد الشام، وكانت قبل الشتات منشغلة في توحيد أزمنتها الريفية المختلفة في زمان وطني واحد ينعكس في مرآة الانتداب ومؤسساته وأدواته الإدارية. هُجِّروا وشردوا إلى مدن عربية لم تستوعبهم لأنها لم تستوعب ذاتها بعد. فشكلوا أحزمة من المخيمات تحولت إلى أحزمة من أحياء الفقر المشتركة لهم وللمهاجرين من الريف من ابناء البلد. ولأن الأماكن العربية الجديدة لم تتوحد في زمان قومي واحد سرعان ما عاد الوافد الفلسطيني المرحب به غريباً في المكان مرفوضاً كما تُرفَض المغتصبة في المجتمع المتخلف رغم الظلم الذي لحق بها، لأن الشعور الرجولي بالعار أقوى من الشعور بالتضامن أو بالتحدي.

ولكن الفلسطيني بقي ضيفاً مرحباً به في الأيديولوجيا، وما لبث أن فهم هو ذلك فاستوطنها حصناً منيعاً، ولو كان الثمن المشاركة في تزييف وتقنيع الواقع المر.

الإيديولوجية ملاذ أمين عند أنظمة عربية إذا عادت نظاماً آخر راحت تعادي مواطنيه كأنهم رهائن. وكيف تعادي مواطني البلد العربي غير المرغوبين؟ بالأساليب البائسة المتوفرة في جعبتها، بالبهدلة على الحدود. الحالة الفلسطينية بعد النكبة هي حالة جيل كامل »تبهدل« على الحدود العربية. (وجاءت أزمة اللاجئين الفلسطينيين الأخيرة في معسكرات بائسة دامت سنوات على الحدود الأردنية العراقية والسورية العراقية ومنها إلى البرازيل لتؤكد أن واقع النكبة العربي ما زال قائما).

كان جيل فلسطيني كامل يستخدم كلمة النكبة حتى عندما تنفق بقرة أو يموت حصان، فيقولون »فلان انتكب« لأن بقرته ماتت. هذا الجيل اضطر أن يستوعب فجأة نكبة جماعية حقيقية لم يحلم بها، نكبة فقدان الوطن أو البلاد. كان »البلد« في الذهن هو مفهوم القرية الضيق الذي حوفظ عليه في المخيم أما مفهوم الوطن السياسي فقد كان »البلاد«. عرف هذا الجيل فجأة نكبة الغربة والسير على الأقدام في البحث عن مأوى في »بلاد« أخرى لم تصبح هي أيضا بلدا رغم أنها لم تمر بنكبات صهيونية. بحث عن مأوى إلى أن تنجلي العاصفة كما وعدوه.

وأما البلاد، التي أقامها التقسيم الاستعماري، فلم تتوحد في دولة عربية أو اتحاد عربي، وبقيت بلادا، حتى في داخل كل منها على حدة، ولم تتوحد هويتها المحلية.

لا يمكن نسيان النكبة لأنها حولت التاريخ العربي وتاريخ العربي عن مساره. ونجد أنفسنا بعد ستين عاماً من المأساة الفلسطينية المستمرة والتأسي العربي، نحذر من اعتبار النكبة حالة من فقدان الذكورية العربية، تقمع ذاكرتها وتكنس إلى اللاوعي متحولة إلى هستيريا جماعية تارة مع الفلسطينيين وطوراً ضدهم، مرة باعتبارهم الضحية وسبب البلاء في الوقت ذاته، ومرة باعتبارهم أعادوا للأمة كرامتها بالعمل الفدائي.

ولذلك نجدنا نحذر من قلب ذاكرة النكبة إلى علاج نفسي جماعي يبحث في لا ـ وعي الأمة. تفقد الذاكرة في مثل هذه الحالة دورها ووظيفتها في مواجهة ما حل بالعرب من تعثر في مسيرة حداثتهم.

لا يمكن نسيان النكبة لأنها إضافة إلى تكريس وتجذير حالة التشرذم العربي حولت القومية العربية من خيار متصالح مع ذاته يسعى إلى توحيد أبناء ذات اللغة وذات التاريخ وذات الحلم الحديث بالسيادة في دولة عربية إلى خيار أيديولوجي ملتهب يزيد الأيديولوجية تطرفاً كلما ازداد القصور في الواقع. وزادت في بعض اليسار نزعة اتهام الرجعية العربية وحدها حتى كاد يبرئ الصهيونية. وكاد بعض اليسار يحول نقد الرجعية العربية إلى جسر للإعجاب بالصهيونية يلاحظ بقوة في هذه الأيام بعد ان غادروا معسكر اليسار وبقي الإعجاب بالصهيونية ثابتا عندهم. وتحول بعض الإيديولوجية الإسلامية إلى رد شامل عليهما، وحتى على الحركة الوطنية الفلسطينية، بدل أن تنسجم في مشروع قومي ووطني، كما كان ممكنا في فترة ما بين الحربين العالميتين.

وأخيرا تحول أيضا الاستسلام لواقع إسرائيل الى ما يكاد يكون إيديولوجية رسمية متكاملة ليس عيبها في كونها »معتدلة«، بل عيبها أن »اعتدالها« المزعوم يقتصر على قبول المقولة التالية: إن التسليم القَبْلي، أي السابق على أية تجربة، بعدم إمكانية العدل هو الاعتدال... لم تنج إيديولوجية سياسية من هذا التشويه الذي زرعه وجود إسرائيل الاستعماري في المنطقة العربية.

ليست ذكرى النكبة إحياءً لفردوس مفقود موهوم كان قبل النكبة. فهذه ذاكرة ميثولوجية تجعل من النكبة انتصاراً فجائياً للشر في صراعه مع الخير، وكارثة طبيعية حلت كلعنة على هذا »الفردوس«. وليس صدفة أن نفس الذاكرة الفولكلورية تغفل المدينة الصاعدة الواعدة وتتحول الى القرية وحدها. لقد كان سواد فلسطين الأعظم ريفيا بسيطاً معدماً يفتقر إلى التواصل مع بعضه.

كانت فلسطين، مثلما كانت كل بلاد الشام وبلاد العرب، بلادا زراعية غالبية سكانها يعيشون في الريف. وكانت تستيقظ على الحداثة وتتعرف على أولياتها بواسطة المستعمِر ومؤسساته والتعليم الحديث وبعض التكنولوجيا الواردة. وكانت فلسطين تشيد مدينتها الواعدة في حيفا ويافا وغيرهما. كانت فلسطين الوطنية والقومية تنهض مع النخب المتعلمة بما فيها القادمة من الريف لاكتساب العلم في المدينة، ومع نهوض البورجوازية والعمال والطبقة الوسطى.

ما كان بوسع حالة ما قبل النكبة أن تبدأ بفهم النكبة، ناهيك عن أسبابها الأوروبية والدولية ـ ومن الظلم تقويم رفض فلسطين أو قبولها لقرار التقسيم في حينه. وعندما حلت النكبة، أي عندما أعلن قادة »اليشوف« اليهودي استقلال إسرائيل وباشروا باحتلال أجزاء فلسطين التي خصصت للدولة العربية، كانت القدرة الفلسطينية على المقاومة قد استنزفت تماماً في انتفاضة ٣٦ـ.٣٩ ومع ذلك قاوم الفلسطينيون بما أوتوا من عدد وعدة. ولكن لا هم فهموا ولا الأنظمة العربية المحيطة فهمت أو أرادت أن تفهم حجم وقوة المشروع الصهيوني الذي دفع إلى المعركة بقوة أكبر من المقاتلين لا من حيث العدة فحسب بل من حيث العدد أيضاً. وأقصد قوة أكبر من مختلف »الجيوش« العربية التي دخلت فلسطين عام النكبة،١ وقد دخلتها ضد بعضها وليس ضد الدولة اليهودية.

بعد النكبة انسجمت القيادة المدينية الفلسطينية الصاعدة في العالم العربي، عالمها الطبيعي، وذلك إما في المشروع القومي أو في الأنظمة العربية القائمة. وساهمت نخبها مساهمة حقيقية في بناء المدينة العربية من الكويت وحتى بيروت مرورا بعمان. ولم يجر تقييم فعلي موضوعي لمساهمة الفلسطينيين الاقتصادية والاجتماعية والمهنية في بناء الحواضر العربية، خاصة في دول تعتمد فيها القوى المحافظة عنصرية محلية ضيقة، ولا تحب الاعتراف بمساهمة »الوافدين« »اللاجئين« التي لا تقدر بثمن.

لماذا انهزمنا... لماذا انتصروا؟

لم يكن اللاجئون الفلسطينيون عالة على أحد، ولم يكونوا عبئا، بل كونوا مجتمعا نشيطا ومنتجا وعاملا، وقد ساهموا مساهمة نوعية في بناء دول عربية في بداية طريقها.

كما لم يجر تقييم موضوعي لدور القيادات الوطنية الفلسطينية المدينية الأولى في قيادة منظمة التحرير والنخب الحقيقية الاجتماعية والثقافية المؤسسة للمنظمة وانسجامها الطبيعي مع المشروع العربي في حينه وقناعتها بأن قضية فلسطين قضية عربية، ثم دور القوى الأقل مدينية والأكثر ريفية في الارتداد عن هذه الانسجام نحو وطنية فلسطينية ترى الصراع، على الهوية على الأقل، كصراع مع المحيط العربي المباشر (سوريا، الأردن) كما هو مع إسرائيل...

لقد هزمت الأنظمة في عام النكبة وذهبت الى اتفاقيات الهدنة لأنها لم تشارك فعلاً، أو شاركت مشاركة هواة دون تخطيط ودون عدة وبجيوش لم تكد تبنى، ومحكومة بصراعاتها (ومؤامراتها)، وهزم الفلسطينيون لأنهم أساؤوا التقدير والتوقيت ـ وانتصرت إسرائيل لأسباب ثلاثة نختارها من قائمة لا نهائية من أسباب الظاهرة التاريخية:

.١ لخصنا السبب الأول في أن العرب لم يحاربوا إسرائيل فعلا. ولم تتوفر لدى دولهم المحيطة بفلسطين إرادة القتال.

.٢ لأن المشروع الصهيوني ارتبط بالمشروع الاستعماري وتم تبنيه من بين مهمات الانتداب البريطاني على فلسطين.

.٣ لأن موجات العداء للسامية اتخذت في أوروبا شكلاً لا سابق له هو شكل المحرقة النازية والإبادة الجماعية.

.٤ لأن القيادة الصهيونية نجحت في بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية في ظل الانتداب، وقبل نشوء النازية بعقود. ولأنها كانت قيادة براغماتية وعقلانية تحسن التوقيت، والتقدير للقوة الذاتية ولقوة الخصم.

لقد بدأت الذاكرة العربية للنكبة بإنكار هذه الأسباب واستنكارها بدلاً من مواجهتها. هكذا تراوح التفنيد الأول بين الادعاء أن بريطانيا لم تفهم مصلحتها الحقيقية، وبين الادعاء أن النكبة هي مجرد نتاج مؤامرة بريطانية صهيونية رجعية عربية.

وما زال هذا »البراديغم« (بالعربية: نمط استبدالي) قائما. فتحاول الأنظمة العربية إقناع أميركا (بدل بريطانيا العظمى حاليا) بواسطة »تعريفها« على »مصالحها الحقيقية«، حتى باتت هذه الأنظمة تنسجم مع مسلمات التحالفات الاميركية معتبرةً التقرب من إسرائيل المفتاح الى قلب أميركا... وبدل ان يكون التحالف مع اميركا وسيلة لإبعاد اميركا عن إسرائيل، صار خطب ود إسرائيل وسيلة للتحالف مع أميركا٢ .

وتخبطت العلاقة مع السبب الثالث، أي العداء للسامية في أوروبا، بين إنكاره واعتباره افتراء صهيونياً والتقليل من حجم وأهمية المحرقة النازية ومقارنتها غير المبررة وغير المفهومة مع النكبة الفلسطينية. وذهب بعضنا في ساعة غضب إلى الهذر بأن اليهود يستحقون ما يحل بهم أينما حلوا. لقد تخبطت الثقافة السياسية العربية السائدة على اختلاف تياراتها في التعامل مع وصمة عار في جبين أوروبا والحضارة الغربية لا ناقة لهم فيها ولا بعير. ولم يكن الاعتراف بالواقع في أوروبا ليضيرهم بشيء. فهذا الواقع لا يبرر أخلاقياً اقتلاع شعب آخر خارج أوروبا. وإنكاره لا يمنع من إضافته سبباً إلى أسباب النكبة لأن الصهيونية أحسنت استخدامه واستخدام الارتباك العربي في التعامل معه.

وطبعا سعدت أوروبا الرسمية والشعبية إلى حد كبير بإزاحة عبء الضمير والشعور بالذنب عن كاهلها وإلقائه على كاهل العرب. الصهيونية تتواطأ مع أوروبا فتريحها من التعامل بجدية مع ماضيها وحاضرها، فهي تساعدها على الفصل بين المسألة اليهودية في حينه ومسألة العنصرية الأوروبية ضد »الأجانب« في حيننا، وأوروبا تتواطأ مع إسرائيل في إلقاء عبء العداء لليهود على العرب، وتشاركها الاحتفالات بالاستقلال كأنها احتفالات عالمية بتأسيس الأمم المتحدة.

والفلسطينيون الذين لا يرون هذا السياق يمارسونه من دون أن يروه إذ يحسبون الاهتمام الدولي بهم اهتماماً بهم حقاً. وهو في الواقع اهتمام بإسرائيل وبالمسألة اليهودية...

تتحول القضية الفلسطينية إلى صناعة عالمية من الندوات والمؤتمرات والأبحاث. وفي زمن »عملية السلام« تجري كلها برأينا بشكل أو بآخر داخل الهوية اليهودية وفي العلاقة اليهودية ـ الغربية. ويلعب فيها الفلسطيني دور الـ»كومبارس« المرافق من دون أن يدري. ولكن هذه الصناعة باتت تستوعب نخباً عربية وفلسطينية كبيرة نسبياً تعتاش على »القضية« والأدق على »الحوار« وعلى »عملية السلام«.

الاهتمام الدولي بقضية فلسطين ليس عنصر قوة بل عنصر ضعف لأنه يعكس اهتماما بالتخلص من المسألة اليهودية المشكِّلة للهوية الأوروبية وتحويل عبئها إلى العرب. أما عنصر القوة فهو الاهتمام العربي، إذا استثمر وتحول إلى فعل حقيقي على الساحتين الإقليمية والدولية وإذا تحول الى إرادة فعلية لهزيمة إسرائيل.

وليس مصير رابع الأسباب بأفضل من سابقيه، إذ يتم إنكاره إنكاراً تاماً، وكأن الصهيونية لم تكن إلا كذبة اخترعها الاستعمار لتكون رأس حربة امبريالية في المنطقة. وما الديموقراطية اليهودية الصهيونية الداخلية والمؤسسات التي قامت بالفعل الاستيطاني الناجح بنظر أصحاب هذا الموقف إلا كذبة دعائية حول واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط. أو قد ينتقل العربي الذي يريد أن »يفهم« معنى النكبة فجأة إلى اعتبار المؤسسة الصهيونية عجيبة سماوية حقيقية لا بد من الانسحاق أمامها وإلغاء الذات. وإذا ما أُحرِج العربي الراغب بالفهم قليلاً أكد لك أنه يريد السلام مع إسرائيل حتى بدون تحقيق العدالة للفلسطينيين وللعرب، ليس استسلاما ولا بسبب إعجابه بإسرائيل، بل لأن ما يوحد إسرائيل هو الحرب، ولأن السلام، بموجب تبريره، حتى لو لم يكن عادلا فسوف لن يمهل هذه الوحدة طويلاً، إذ أن إسرائيل سوف تنهار تحت وطأة خلافاتها الداخلية وتناقضاتها.

عن إسرائيل وزوالها...

دائما كان هنالك من يؤمن بزوال إسرائيل إيمانا دينيا، ويدفعه هذا الإيمان الى عدم التسليم او قبول التطبيع. وكان هنالك من رأى أن إسرائيل زائلة إذا ما أحسن العرب استغلال تمسكها بكونها كيانا غريبا غير قادر على التوصل الى سلام عادل، فهو لا يستطيع أن يهيمن ولا يريد أن يتغير لكي يندمج. ولكن هنالك ما هو أغرب. فقد أثيرت مؤخرا مقولة زوال إسرائيل الحتمي إما بسبب السلام ذاته، إذ يصبح برأي مردديها التطبيع مع إسرائيل هو أقوى سلاح ضدها، أو زوالها الحتمي من المنطلق المعاكس، اي بالحرب، إذا هزمت مرة واحدة فقط.

وفي ما عدا ضعفهما النظري، لا يتوفر إثبات جدي على »النظريتين«، وذلك حتى لو قال بن غوريون بثانيتهما، فأقوال بن غوريون بحد ذاتها ليست إثباتا. ويتحول ترداد مقولات لا إثبات فعليا لها، وهي في الوقت ذاته غير تعبوية، إلى مخدر حقيقي للجماهير، وإلى بديل عن الإرادة وعن استراتيجية النضال والقتال اللذين يستغلان التناقضات الإسرائيلية الداخلية.

لم تكن التعددية في إطار الوحدة الصهيونية دليل ضعف يؤدي الى انهيار، بل دليل قوة. ونحن نسمع أصواتا موسمية تردد هذه الادعاءات عن انهيار معنويات إسرائيل ووضعها الاقتصادي ورجحان كفة الهجرة المغادرة على الوافدة والصراع الطائفي منذ بداية الستينات في خطابات ترددت منذ ما قبل حرب .١٩٦٧ في حين تدل قدرة التعددية الإسرائيلية على تنظيم ذاتها في وحدة واحدة، على أساس قواعد لعبة ديموقراطية، على وجود ثوابت إجماع قومي. يصح هذا على أية تعددية قادرة على إعادة إنتاج ذاتها عبر الوحدة السياسية القائمة وأدواتها المُجْمَع عليها.

والطامة الكبرى أن أولئك الناس الذين وفدوا إلى بلادنا من مختلف أصقاع الأرض لم ينحدروا من قومية واحدة أو من ثقافة ديموقراطية في دولهم، ولكنهم نجحوا في تشكيل رابطة قومية، أو سمها ما شئت، تصلح أساساً لتثبيت قواعد لعبة ديموقراطية أهلية لليهود دون أن ينهاروا إلى قبائل وعشائر وطوائف. في حين لا تزال شعوب الأمة العربية التي تتكلم لغة واحدة، والتي لاحت بوادر مشروعها القومي قبل أن تولد الصهيونية الاستعمارية، تخشى احترام قواعد لعبة ديموقراطية مخافة أن يؤدي ذلك إلى الانحلال إلى فرق وشيع وقبائل وعشائر، وذلك بعد ستين عاماً على النكبة.

لن تفلح ذاكرة النكبة في إقامة نظام مؤسسات وديموقراطية في الوطن العربي ولا في تحقيق وحدة عربية، فالذاكرة التاريخية أيديولوجية يصوغها توحيد المصالح المختلفة أو هيمنة واحدة عليها، وتصوغها المؤسسات المكونة للهوية، والأنظمة وكتب التدريس، وتعيد إنتاجها على شكلها وصورتها. لن تندرج هذه المهمات الديموقراطية ضمن مواجهة النكبة أو النكسة بل ضمن مواجهة الدكتاتورية وانعدام سياسة القانون وشخصنة الحياة السياسية والظلم والفساد بمشروع سياسي بناء على أجندات وطنية يتجاوز الاحتجاح الى تقديم البدائل الواقعية. ولن يتم حل هذه المسائل إلا إذا تحولت إلى أهداف بحد ذاتها.

ولذاكرة النكبة بعد سياسي قلما يتم تناوله والتحدث عنه في مرحلة »العملية السلمية« القائمة على أن القضية الفلسطينية قضية أراض محتلة عام ،١٩٦٧ وذلك رغم أنه البعد الأهم للعملية السياسية ذاتها. فحتى بمنطق التسوية وخطابها الخشبي المنفصم والمغترب عن الواقع والمأسور في التمنيات، لا يمكن اعتبار الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذا كانت كاملة السيادة، لا يمكن اعتبارها حلاً وسطاً إلا إذا اعتُرِفَ بأن المأساة الفلسطينية لم تبدأ في العام .٦٧ وحتى الدولة الثنائية القومية هي حل وسط بهذا المنظور، فقط إذ سبقها الاعتراف بأن هذه البلاد كانت عربية قبل أن تتعرض إلى عملية سطو مسلح في وضح نهار القرن العشرين.

البدء في التأريخ لـ»القضية« باحتلال حرب حزيران هو إنكار لوجود قضية فلسطين. والاعتراف بالنكبة، أي الاعتراف بالغبن التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني عام ،٤٨ هو شرط البحث عن تحقيق العدالة النسبية لهذا الشعب. ولا معنى لأي مفاوضات إذا لم يكن هدفها أن تترجمها إلى نتائج عملية على الأرض. فإذا غاب المبدأ الذي تقوم عليه المفاوضات، تغيب مقومات وحدة الشعب الذي تعرض للظلم وينشد العدالة، وتبقى المفاوضات ذاتها فريسة موازين القوى التي تفرض حلاً إسرائيلياً.

([) ورقة قدمت الى حلقة نقاشية عقدها مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان »هل من افق لفلسطين؟« وتنشرها »السفير« على حلقات

١ـ مع أن كتابات المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي قد فصلت في هذا الموضوع لدرجة إحصاء قطع السلاح وعدد الجنود، وليد الخالدي، خمسون عاما على حرب ،١٩٤٨ (بيروت: دار النهار). ونفس المؤلف، خمسون عاما على تقسيم فلسطين، ١٩٤٧ـ،١٩٩٧ (بيروت: دار النهار، ٢٠٠٢)، ، الصهيونية في مئة عام من البكاء على الأطلال (١٨٩٧ـ١٩٩٧)، (بيروت: دار النهار ٢٠٠٢)، عدد لا يحصى من مذكرات المشاركين العرب والفلسطينيين في القتال. ومع أنه تطورت كتابة مفصلة في الموضوع، وكتابة إسرائيلية مفصلة في موضوع التهجير، (كتابات سمحا فلابن بداية، ونور مصالحة، ثم بني موريس وأخيرا وبتفصيل ممتاز إيلان بابي) ما زالت القيادة الصهيونية قادرة أن تفرض مقولة ان التاريخ يكتبه المنتصرون، فهي ما زالت تروج بنجاح خطابا مخالفا حتى للخطاب الأكاديمي في الغرب عن ضحية دافعت عن نفسها من عدوان جيوش تفوقها عددا اجتاحت فلسطين، ما يدل على أن كشف الحقيقة وتفنيد الأساطير أكاديميا لا تؤدي دائما الى تغير الخطاب السياسي والإعلامي القائم على الأسطورة.

Nur Masalha, Expulsion of the Palestinians: The Concept of "transfer" in Zionist Political Thought, 1882-1948, (Beirut: Institute for Palestine Studies, 1992).

Simha Flapan,The Birth of Israel: Myths and Realities (Hardcover).(NY: Pantheon, 1987).

Ilan Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, (Oxford: One World Publications, 2007).

٢ـ والحقيقة انه تم إغراء بعض السياسيين العرب حتى الاستقلاليين منهم على اعتبار التفاهم مع الصهيونية أداة جيدة في إقناع فرنسا وبريطانيا لمنحهم حقوقا أكثر، فقد انتشرت منذ تلك الفترة فكرة تأثير الصهيونية على صنع القرار في الدول الكبرى في الغرب وساهم في ترويجها ممثلو الوكالة اليهودية الذين اجتمعوا بهم ووعدوهم بخدمات في باريس ولندن.

ومن الواضح ان لدى الباحث محمود محارب المزيد مما يقوله حول هذا الموضوع، وذلك من بداية بحثه المنشورة مؤخرا في المستقبل العربي. محمود محارب، المخابرات الصهيونية بدايات التجسس على العرب، المستقبل العربي، ( العدد ٣٥٧ / تشرين الثاني، ٢٠٠٨)، ١١٣ـ.١٢٩ انظر مثلا حول لقاءات الكتلة الوطنية في سوريا مع بعض ممثلي الوكالة اليهودية: وليد المعلم ـ سوريا ١٩١٦ـ ١٩٤٦ : الطريق الى الحرية ص .٣٧٦