خبر عملية قتل غزة ..عبد الحليم قنديل

الساعة 10:16 ص|15 ديسمبر 2008

15/12/2008

غزة هي فلسطين مصغرة ومكثفة، فهي قطعة جغرافيا بحجم الكف، شريط على ساحل المتوسط لا يزيد عن 65 كيلو متر، وأعلى كثافة سكان في الدنيا كلها، مليون ونصف مليون فلسطيني في معسكر احتجاز، نصفهم في الأصل لاجئون من مدن وقرى فلسطين الأخرى، واحتمال أهلها لألم ـ يفوق طاقة البشر ـ يشهد على عذاب فلسطين ومجدها في الوقت نفسه .

عذاب غزة يشهد على خزي العالم، فالدنيا تحتفل بالذكرى الستين لإعلان حقوق الإنسان، والإسرائيليون ـ في استطلاع رأي بالمناسبة ـ يقولون أن كيانهم هو الأكثر احتراما لحقوق الإنسان، ويقول نصفهم أن احترام إسرائيل لحقوق الإنسان يفوق نظيره في أكثر الدول الأوروبية، بينما عملية حصار وخنق وقتل غزة تشهد أنهم كاذبون، ريتشارد فولك المنسق الخاص بشؤون الفلسطينيين في المجلس الدولي لحقوق الإنسان قالها بوضوح، فولك يهودي أمريكي، لكنه رجل ضمير، ووصف خنق غزة بأنه جريمة ضد الإنسانية، قالها اليهودي الأمريكي، بينما لم يقلها حاكم أو مسؤول عربي، ولم يقلها الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه، وطالب فولك بإحالة مسؤولي كيان الاغتصاب الإسرائيلي إلى محكمة الجنايات الدولية، ولكن من يسمع ومن يحاكم؟

عذاب غزة يشهد على خزي أمة العرب والمسلمين، والتي أرسلت ثلاثة ملايين حاج إلى جبل عرفات، يؤدون المناسك، ويطمعون في العفو والمغفرة، وإلى غسل الذنوب والأدران، بينما لا يلتفتون إلى عذاب غزة، ولا حتى إلى آلاف حجيجها الذين حجبت عنهم تأشيرة ذهاب إلى الأراضي المقدسة، والذين تمنع عنهم ـ وأهلهم ـ نبضة الكهرباء وحفنة الطحين، يتوهم ملايين الحجاج أنهم ذهبوا إلى خلاص، بينما ذنب غزة معلق في رقابهم، وفي رقاب أهليهم إلى يوم الدين، فلا عفو ولا مغفرة، ولا دعاء يستجاب، فهذه أمة لا يستجيب الله لتقاتها، ولا يغتفر لعصاتها، هذه أمة المذلة التي تعبد حكامها وأصنامها وتخضع لهم من دون الله!

عذاب غزة يشهد على تقصيرنا جميعا، فلا شيء يصل إلى غزة إلا عبر أنفاق التهريب، أو عبر ' سفن الأمل' التي يسارع إليها نشطاء أوروبيون وأمريكيون، أو عبر شاحنات قليلة تسمح بها إسرائيل أحيانا ذرا للرماد في العيون، وفيما خلا لحظات تنفس عابر، تحكم على أهل غزة الأطواق في سواد الليل وسواد النهار، وكأنهم في سجن جماعي، واقفون على حافة الإبادة الجماعية، بينما أصوات الغضب في شوارع العرب والمسلمين تبدو خافتة إلا من قليل، وكأن صلاة غزة ليست من الفروض ولا من السنن، بل من النوافل التي قد يصح التغافل عنها، أو أداؤها على طريقة الرمز الذي لا يروي عطشا ولا يشبع من جوع!

عذاب غزة يشهد على صمتنا المخيم، يشهد على شعوبنا التي تحولت إلى حفنة رماد، يشهد على ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، يشهد على موت ضمائرنا وإن نطقت حناجر، فقد تحولنا إلى أمة الروبوت، رجال جوف ونساء من حطب، فرغنا لأعياد وأضاح، فرغنا لطقوس ونصوص، فقدت أعيادنا المعنى والمغزى، نتحدث عن الفداء ونحن مقعدون، قلوبنا صماء وعقولنا بكماء، نتحدث عن إخلاص الوجه لله تعالى، بينما تستقبل رؤوسنا أحذية حكامنا، نسعى وراء الخروف وذبيحة العجل، بينما نحن نذبح أهل غزة، ونخاصم فلسطين المقدسة كلها، ولا نتذكر منها غير تمتمات عن أولى القبلتين وثالث الحرمين، بينما تحولت حياتنا إلى حرام بلا حرمات!

عذاب غزة لاتصنعه إسرائيل وحدها، فأمر طبيعي أن تفعل إسرائيل ماتفعل، أن تحاصر غزة، وأن تخنق أهلها، وأن تهدد بغزوها وإعادة احتلالها، وأن تحول حياة الفلسطينيين فيها إلى جحيم لا يطاق، أن تكفر الفلسطينيين بمعنى الاستقلال وبقيمة الحرية، أن تغلق المعابر، وأن تثبت لأهل غزة أن الاحتلال هو الأفضل، كل هذا طبيعي حين يصدر عن إسرائيل، فهي العدو الظاهر، لكن المشكلة ليست فقط في الأعداء الظاهرين بل في الأعداء الملتبسين، الأعداء الذين يلبسون جلودنا، ويتسمون بأسمائنا، ويسرقون أصواتنا وأعلامنا، بل ويذهب بعضهم إلى حج لا بركة فيه، ويحدثونك عن الإسلام والنبي محمد، وكأنهم من أتباعه وأوليائه وخلصائه، بل ويصفون قادة حماس في غزة بأنهم من كفار قريش، وكأن هؤلاء يعرفون معنى إيمان المهاجرين، وكانهم حين يديرون الظهر لغزة يهاجرون إلى يثرب، بينما يعرف القاصي والداني أنهم شركاء في الجريمة، والرئيس عباس ـ الذي تظاهر بالحج ـ يعرف أن مصلحته في حصار غزة، بل ويبدو كثيرا كأنه الناطق الرسمي باسم مجلس الوزراء الإسرائيلي، ويقول أن المشكلة هي في الصواريخ الفلسطينية العبثية، ياالله ، إلى هذا الحد بلغ عمى القلب بمن يطلق على نفسه صفة الرئيس الفلسطيني، بينما علاقته بإسرائيل أوثق من علاقته بالهم الفلسطيني، وبينما مفاوضاته مع إسرائيل تجري خمس مرات في اليوم، وكأنها الصلاة التي أمر بها الله ورسوله، وبينما تنسيقه الأمني مع إسرائيل متصل بالفعل والذكر آناء الليل وأطراف النهار، ومطارداته لعناصر الفداء المسلح في الضفة الغربية لا تتوقف، وبينما حركته محكومة برغبات إسرائيل وحدها، فهو يتنفس بإذن إسرائيل، ويتحدث بلسان إسرائيل، ويسوغ لرفاقه من حكام العرب جريمتهم، ويبرر لهم ذنب المشاركة في جريمة خنق غزة، ويعتبر ـ وهو في ملابس الإحرام (!) ـ أن المشكلة في حماس وليست في إسرائيل، تماما كما تآمر على ياسر عرفات حتى قتلته إسرائيل بالسم، تماما كما اغتال عرفات معنويا في حياته إلى أن اغتالت إسرائيل فيه الجسد، وتماما كما أن فرصته في ركوب كرسي الرئاسة الفلسطينية كانت في حصار عرفات ومضاعفة عذابه.

عذاب غزة يشهد على خيانة الحكام العرب، لا نستثني منهم أحدا، ولا نفلت رقبة أحد، فوجودهم في ذاته خيانة، وهم الذين يحكمون بلا معنى من شرعية، هم الذين يحكمون بالغصب والسلب والنهب، فلم ينتخبهم أحد غير أمريكا وإسرائيل، فهم خراف أمريكا وإسرائيل التي تسكن قصور الحكم في بلادنا، ورغباتهم في كسب رضا الراعي الأمريكي الإسرائيلي هي الأصل، وقضية فلسطين عندهم لم تعد إلا موضوعا للمقايضة في سوق النخاسة، مبادرتهم للسلام ودعت هواها القديم عن الاستسلام مقابل الأرض، وتحولت إلى طلب الاستسلام بغير عودة الأرض، تحولت إلى طلب الاستسلام مقابل

'سلامتهم'، الاستسلام لإسرائيل مقابل البقاء فوق كراسي الغصب، وطبيعي ألا يقلق هؤلاء من حصار غزة، وأن يعينوا إسرائيل عليه، وأن يحولوا غزة إلى كبش فداء لكراسيهم، فليست إسرائيل وحدها هي التي تخنق غزة، وليست وحدها التي تقتل الفلسطينيين، بل الحكام العرب يفعلونها من قبل ومن بعد، وكبيرهم الذي علمهم الخزي هو الذي يفعل، حاكم مصرـ الكبرى ـ بالغصب هو الذي يغلق معبر رفح، ويحكم حصار غزة، فهو يعرف ـ كما نعرف ـ أن الفتح الدائم لمعبر رفح يسقط حصار غزة للأبد، فمعبر رفح هو شريان حياة غزة، معبر رفح لغزة كالنيل بالنسبة لمصر، وإغلاق المعبر كردم النيل .

عذاب غزة يشهد علينا، يشهد على خزينا، يشهد على أخوة يوسف الذين تركوه في البئر كما تركنا غزة تشرب من آبار الأحزان .

كاتب من مصر