خبر سفن كسر الحصار .. انتفاضة لا فوضى ..بقلم/ مفيد أبوشمالة

الساعة 09:10 ص|13 ديسمبر 2008

عندما وصلت سفينتا الحرية وغزة الحرة لشواطيء غزة قبل ثلاثة شهور، كان المشهد مهيباً، وحفل الاستقبال الشعبي كان يضفي عليه آيات من الجلال والعزة، لقد كانت العيون مشدودة نحو الأفق وكان كل نتوء زائد فوق صفحة الماء يحسبه أهل غزة الظمآنين سفناً.. يومها، وبلا فخر، وصلت إلى الميناء مبكراً وأوقفت سيارتي على المرفأ ولم أكن أتصور أن يصل نصف سكان غزة للمكان من بعدي، ويمتطون صهوتها ويُطعِّجون صاجها، ولم أبالي فالخطب جلل، فعلى هذه السفن أناس مغامرون أبحروا في رحلة المجهول أقل مخاطرها أن تعترضها الزوارق الحربية الإسرائيلية فتعيدها من حيث أتت، فضلاً عن أن تسعى لإغراقها "لتجعلها عبرة لمن لا يعتبر من المتضامنين مع غزة".

 

وبعد خمس رحلات بحرية ناجحة اخترقت الحصار المضروب على غزة من حدودها الغربية، أعلن رئيس اللجنة الشعبية لمكافحة الحصار المهندس جمال الخضري عن انطلاق مجموعة عربية من السفن واحدة من ليبيا وأخرى من قطر وثالثة ورابعة من الكويت واليمن بالإضافة إلى خامسة تركية فيما أسماها "انتفاضة السفن" لم أكن أدري أو يدري إن قالها عن قصد ووعَى مقصوده منها، فالانتفاضة هي فعل جماهيري ينشأ عن بلوغ التناقضات الاقتصادية أوالاجتماعية أو القومية ذروتها، ويتوفر لها وضع ثوري يهيئ لها التحرك ضد سلطة الحكم أو ضد الاستعمار، وتتميز بكونها فعل شعبي يستحيل التنبؤ بموعد اندلاعها أو أن يعرف أحد ماهية المسار الذي تبدأ عنده وتنتهي إليه، وتحدث الانتفاضة عادة كنتيجة لحدث عارض، ومع ذلك فإن انتهاء الحدث لا يخمد الانتفاضة.

 

وقد حقق الحصار المفروض على شعب غزة ذروة التناقضات العالمية في كل شيء، فبعد انتهاء الدواء والتموين والوقود والكهرباء ووفاة أكثر من 250 شخص استنجدوا عبر كافة وسائل الإعلام الإنسانية والضمير العالمي ببث حي ومباشر ولا أريد إلا أن أذكر هنا روح الشهيد نائل الكردي رحمه الله الذي عرضت صورته حياً ثم ميتاً عبر كافة وسائل الإعلام العربية دون أن توقظ ضمير أحد، ولا زال وراءه آلاف من مرضى الكلى وفقر الدم والسرطانات بأنواعها المختلفة وآلاف الأطفال الذين لم تعد أسرة المشافي تتسع لهم حين عز الدواء.

 

كما أن الحصار استمر لأكثر من ثلاثة أعوام وتخمر الغضب الشعبي في جميع أنحاء العالم ضد المحاصرين لهذا الشعب، وظهرت فعاليات شعبية ودولية حاولت كسر الحصار بأي شكل من الأشكال بتنظيم المسيرات إلى المعابر، وتوجيه الرسائل إلى الحكام عبر وسائل الإعلام ومن خلال عقد المؤتمرات الصحفية التي تشرح أبعاد هذا الحصار الظالم، وآثاره السلبية التي انعكست على كل نواحي الحياة في هذه البقعة من العالم، وعندما أحجمت دول الجوار عن تقديم يد العون لأشقاء استنجدوا طلباً للمساعدة، بل ومنعت وصول مساعدات براً، جاءت "انتفاضة السفن" وعلى أيدي غربية بامتياز، فغالبية المتضامنين الذين وصلوا على سفينتي الحرية وغزة الحرة كانوا من الدول التي فرضت الحصار فمنهم الأوربي ومنهم الأمريكي وحتى الإسرائيلي، في إشارة واضحة إلى عدم الرضا عن سياسة دولهم المعادية لشعب وديع مسالم أعزل يدافع عن كرامته في مواجهة احتلال بغيض مدعوم بترسانة عسكرية هي الرابعة على مستوى العالم ويمارس في إطارها كل أنواع الظلم، وينتهك كافة حقوق الإنسان التي كفلتها مواثيق الأمم المتحدة التي يحتفل هذه الأيام ببلوغها "سن التقاعد".

 

لكن انتفاضة السفن، نجحت في تحديد معالم جديدة للسياسة الإسرائيلية لم تكن واضحة من قبل، فكما أشرنا إلى أن انتهاء الحدث المسبب للانتفاضة لا يكون شرطاً لإخمادها، قررت حكومة الاحتلال من خلال دراسة الحالة الجديدة على مستوى وزارتي الخارجية والدفاع تمرير السفينتين وعدم اعتراضهما في البحر بل حتى عدم الاقتراب منهما، في سابقة من التعامل لم تكن تنقصها الحكمة، وبالفعل وصلت السفينتان، وليس هذا فحسب بل إن الزوارق الحربية الإسرائيلية غضت الطرف عن رحلة صيد فلسطينية بمرافقة السفينتين في اليوم التالي وصلت إلى حدود المياه الإقليمية، ولم تعترض إسرائيل سفينة كسر الحصار الثالثة ولا الرابعة اللتين جاءتا عبر قبرص، لكنها أقامت الدنيا ولم تقعدها عندما جاءت سفينة المروة الليبية، وفي المقابل فتحت المعابر جزئياً لإدخال مساعدات إنسانية في محاولة لنفي دواعي وصول السفينة الليبية، وينبغي هنا أن ندرك الفوارق بين كافة الرحلات. ببساطة؛ رحلة المروة لم تكن رمزية فهذه السفينة هي سفينة شحن حقيقية وعليها حمولة كافية لإنعاش غزة -الفقيرة لكل شيء- شهوراً، والأمر الآخر الذي أشارت له مصادر أمنية إسرائيلية أن المروة قدمت من دولة "غير مشجعة لإسرائيل" وفي إطار هذا الاعتقاد أطلقت مزاعمها بوجود "أسلحة وخبراء إيرانيين وأشخاص غير مرغوب بوجودهم في غزة"، أملاً في إقناع العالم بالقواعد التي تريد إسرائيل ترسيخها.

 

إذاً فإسرائيل ترحب بأي سفينة صغيرة تقل متضامنين "وحبذا لو كانوا من دول غربية تشجع إسرائيل" دون أن تقدم معونات حقيقية للمحاصرين، ويشترط "أن تنطلق من ميناء لارنكا القبرصي"، مع إقامة لعدة أيام فحسب، وتسمح بخروج طلاب حاصلين على تأشيرات من دول غربية، ولا مانع من وجود وسائل إعلام أو تجهيزات كاملة للتغطية الإعلامية على كل سفينة، فمع الأيام ستثبت هذه الصور أن إسرائيل لا تحاصر قطاع غزة، وهذه السفن تشهد.

 

فما هو المطلوب لمنع "فوضى السفن" وتحقيق النجاح الكامل لانتفاضتها؟ أعرف أن هذا السؤال كبير وأن جوابه لا يملكه شخص واحد، ولكن الإعلامي مرآة تعكس وجهات نظر كثيرة يرددها الجمهور، ويعيد صياغتها لتشكل رأياً عاماً أحياناً، أو رافداً من روافد صناعة القرار.

 

أولاً؛ يجب أن تعتمد انتفاضة السفن على الشعب، بمعنى أنه لا ينبغي أن تأتي أي سفينة رسمية للتضامن مع شعب غزة، وإنما سفن تنطلق بمبادرة من مؤسسات أو لجان شعبية أو منظمات أهلية، رغم أن التضامن الرسمي مطلوب ولكن من البر وتحديداً من معبر رفح، ثانياً؛ أن يتم التخطيط الجيد لتلك الرحلات بحيث توضع أهداف واضحة لكل رحلة وتوضع الخطط البديلة لكل طاريء للالتفاف على "مفاجآت البحر الإسرائيلي المتخبط والمتلاطم الأمواج في هذه الأيام"، وكذلك تحديد تاريخ الوصول المتوقع، وليس تاريخ الانطلاق، ثالثاً؛ وهو الأهم أن تكون هناك إدارة لعملية وصول السفن ومغادرتها، والمحتوى الذي تحمله، وهذه الإدارة يجب أن تكون من داخل القطاع.

 

أخيراً.. هدية من الشيطان للاحتيال على الاحتلال

 

عندما اجتمع مشركو قريش في دار الندوة لمناقشة أمر "الرسول محمد" خرج عليهم الشيطان في زي شيخ نجدي واقترح عليهم أن يجمعوا من كل قبيلة شاباً جلداً فيحاصروا بيته، فإن خرج لصلاة الفجر انقضوا عليه فضربوه ضربة رجل واحد "فيتفرق دمه بين القبائل"، فماذا ستفعل إسرائيل إذا التقت 20 سفينة عربية أو أجنبية أو مختلطة في المياه الإقليمية في محاذاة شواطيء غزة ثم توجهت مجتمعة صوب غزة؟ خياران أحلاهما مر؛ أن تسمح لها بالدخول وهو الأرجح، أو تغرقها؟