خبر النظام العربي والفرصة التاريخية للمراجعة ..عوني فرسخ

الساعة 08:52 م|12 ديسمبر 2008

دعوة “التغيير” التي نجح أوباما بإطلاقها تؤشر لطموح أمريكي لمتغيرات جذرية اقتصادية  اجتماعية تتلاءم مع التحول الديمغرافي لمصلحة الأمريكيين من أصول إفريقية وأمريكية لاتينية وآسيوية. فيما الأزمة المالية والركود الاقتصادي في السوق الأمريكية آخر مؤشرات تداعي الأحلام الإمبراطورية للمحافظين الجدد، الجمهوريون منهم والديمقراطيون، ونهاية مرحلة الأحادية القطبية الأمريكية. فيما يقرر الكثيرون أن العالم على عتبات تغيرات جذرية في موازين القوى والتوجهات الاقتصادية والاجتماعية. ولعل ساركوزي الأكثر دقة في تعبيره عن التغييرات المقبلة بتأكيده أن معايير الأمس “البالية”، حسب تعبيره، لم تعد صالحة للعمل على أساسها.

وإذا كان هذا يصدق بالنسبة لفرنسا والاتحاد الأوروبي، كما يستدل من قول الرئيس الفرنسي، فإنه أكثر صدقاً بالنسبة للنظام الإقليمي العربي، الأكثر حاجة وإلحاحاً للمراجعة والتغيير وتجاوز واقع دوله القطرية المتخلف والمأزوم على مختلف الصعد. وذلك ما والت بيانه والتحذير من عواقبه تقارير التنمية الإنسانية العربية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وغيرها من تقارير مراكز الأبحاث العربية والدولية. ولقد وصل اليأس ببعض من لا يشك بصدق التزامهم الوطني وكفاءتهم الفكرية حد القول إن المواطن العربي بات أسير واقع سياسي  اجتماعي متخلف عن مواكبة العصر، وفاقد لآلية تجاوزه. والسؤال المحوري والحال كذلك: هل إن رياح التغيير التي تهب في أربعة أنحاء الأرض ستهز أشرعة النظام الإقليمي العربي أم أن لسان حال صناع قراره “يا جبل ما تهزك ريح”.

وفي محاولة الاجتهاد بالإجابة عن السؤال المطروح ألاحظ بداية أن التخلف العربي موضوع الشكوى لا يعود مطلقاً لعيب في الذات العربية، بدليل أن حوالي ثلاثة أرباع مليون عربي يحتلون مواقع متميزة في أرقى الجامعات ومراكز الأبحاث الأوروبية والأمريكية، بل وينافسون على المواقع القيادية. فضلاً عن أن دور العرب التاريخي في الحضارة الإنسانية الدليل الحاسم على أن التراث العربي الإسلامي ليس بأي حال علة قصور المجتمعات العربية المعاصرة. الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن تخلف النظام الإقليمي العربي ودوله القطرية إنما هو نتاج قصور صناع القرار خاصة، والنخب بشكل عام، عن التوظيف الأمثل لما تمتلكه الأمة العربية من قدرات بشرية وتراث حضاري. وذلك إنما هو الحصاد المر للسياسات التي اعتمدت في أعقاب حرب رمضان المجيدة، وثقافة الهزيمة الشائعة في عموم الوطن العربي بعد التحول الكيفي في دور مصر القومي. وفي ضوء معطيات الواقع الدولي والإقليمي يمكن القول إنه تهيأت للنظام الإقليمي العربي، كما لدوله القطرية، الفرصة التاريخية للمراجعة والتغيير على أكثر من محور.

فعلى محور العلاقات الدولية والإقليمية بات متوفراً امتلاك قدر أكبر من استقلالية الإرادة في العلاقات الدولية، إذا أعيد النظر جذرياً في العلاقات العربية  العربية باتجاه الارتقاء بها لمنطق العصر، حيث غدت الوحدات الإقليمية هي وحدها المؤهلة لتوفير متطلبات احتياجات المواطنين المتزايدة على نحو يفوق تزايد الدخول الوطنية، وبالتالي تحقيق مستوى متقدم من الفعالية الإقليمية والدولية. وبقراءة التجربة العربية منذ مباحثات الاسكندرية لإقامة جامعة الدول العربية في خريف 1944 يتضح أن المغالاة في تقدير السيادة الوطنية القطرية شكلت معوقاً ذاتياً للتكامل الذي كان مستهدفاً من إقامة الجامعة. والمفارقة المحزنة أن المغالين في تقديرهم لسيادتهم الوطنية في مواجهة التكامل والتنسيق العربي لا تبدي أغلبيتهم أي حرص على السيادة الوطنية في مواجهة المداخلات الخارجية الإقليمية والدولية، خاصة الأمريكية و”الإسرائيلية”.

 

 

 

إن المراجعة الأكثر وجوباً والأشد الحاحاً إنما هي مراجعة المواقف الرسمية العربية من الصراع العربي  الصهيوني، في ضوء قراءة موضوعية لمعطيات الواقع بكل أبعاده. إذ لم تعد خافية الآثار الكارثية لمعاهدة كامب ديفيد واتفاق أوسلو، وعدم جدوى المفاوضات الماراثونية ومسلسل التنازلات المجانية التي لما يزل يعتمدها فريق أوسلو بمباركة رسمية عربية. كما بات جلياً انكشاف زيف أساطير التفوق الصهيوني وافتقاد قدرة الردع “الإسرائيلية” فعاليتها في مواجهة المقاومة متصاعدة الدور والتأثير. وكثيرة هي المؤشرات على أن الزمن لم يعد يعمل لمصلحة التجمع الاستيطاني العنصري الصهيوني، وآخر الشواهد على ذلك ما كتبه يوري سفير، مدير عام وزارة الخارجية “الإسرائيلية” الأسبق، في معاريف يوم 30/11/،2008 إذ يقول “الزمن لا يعمل لصالحنا”. وفي موقف أساتذة الجامعات البريطانية من جامعات “إسرائيل” وتصدي طلبة أوكسفورد لشمعون بيريز باعتباره مجرم حرب ما يؤشر لبداية تحول موقف مثقفي أوروبا من الكيان الصهيوني. وليس في الأفق ما يوحي بإمكان نجاح “عملية السلام” التي أورثها بوش لأوباما. إذ لم يعد التحالف الأمريكي  الصهيوني قادراً على فرض تسوية بشروطه، فيما لما تزل المقاومة بعيدة عن امتلاك قدرة انتزاع الحد الأدنى من الحقوق العربية المشروعة، والصراع بالتالي متواصل. وإذا كان النظام العربي ينشد بالفعل “السلام الشامل والعادل” فسبيله الوحيد لذلك إنما هو وقف كل أشكال الصلح والتطبيع، والتصدي للمبادرات الشعبية الداعمة للمقاومة، وكسر حصاره المفروض على قطاع الممانعة والصمود. وبهذا يضطر التحالف الأمريكي  الصهيوني لتقديم التنازلات المطلوبة، ودون ذلك تفاقم حدة الصراعات العربية  العربية.

ولا تقل عن سابقاتها أهمية وإلحاحاً المراجعة الجذرية لواقع التنمية الإنسانية المريع في عموم الأقطار العربية، سواء من حيث تفشي الأمية، وتدني مستوى الجامعات والعملية التعليمية برمتها، وبخاصة ما هي عليه اللغة العربية من تهميش وما لحق ببرامج التاريخ والتربية الوطنية والدينية من مسخ في البرامج المدرسية والجامعية، فضلاً عن محدودية الإنفاق على تدريب وتأهيل المعلمين والمعلمات، وشبه انعدامه على البحث العلمي. ولا تنقص الأمة العربية القدرات البشرية المؤهلة ولا الإمكانات المادية، لإحداث ثورة علمية وثقافية التي من دونها لا يمكن لأي قطر عربي ردم الفجوة بين تخلفه والتقدم العلمي والمعرفي المعاصر.

وهناك الكثير الذي يحتاج مراجعة جذرية في الواقع العربي، إلا أن الإنجاز على المحاور الأربعة السابق بيانها يوفر الأرضية للتقدم على الطريق الطويل لتجاوز الواقع المأزوم. والسؤال الأخير: هل سيغتنم صناع قرار النظام العربي فرصة التغيير التاريخية أم أن ذلك ممتنع عليهم؟