خبر لإخواني وأحبتي في حركة حماس..من أراد أن يتعلم السياسة فليقرأ التاريخ

الساعة 05:46 ص|13 يوليو 2017

فلسطين اليوم

كتب :د. احمد يوسف

من المعروف أن صفحات التاريخ مليئة بالأحداث المتشابهة، والتي يمكن للقيادة الحكيمة أن تستل منها الكثير من الدروس والعبر، وتتلافى بذلك تكرار الأخطاء التي وقع فيها من كانوا قبلهم؛ أي تتبنى نهجاً جديداً بدل سياسة « إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون ».

ففي جولات التفاوض التي خاضها القائد صلاح الدين الأيوبي مع قائد الحملة الصليبية الثالثة رتشارد قلب الأسد، والتي أفضت إلى صلح/هدنة الرملة، حيث إن الكثير مما يمكن لقياداتنا السياسية أن تتعلمه، وأخذ الحكمة في كيفية النجاة بالقافلة، وتجنيب البلاد والعباد محرقة الحروب، والتوصل عبر المفاوضات ومن موقع القوة والندية لتحقيق المرجو والمراد.

وفي الجزائر مثلاً، كان الاستعمار الفرنسي، والذي استمر لأكثر من 130 عاماً، وكانت ثورات الشعب الجزائري بمختلف عرقياته العربية والأمازيغية تتكرر لمواجهته والتخلص منه، ولكنها أخفقت في زحزحة وجوده؛ لاعتبارات كثيرة أدركها الجزائريون في جبهة التحرير بعد عقود طويلة من مسيرة بلادهم النضالية، حيث استفادوا من تجارب من سبقهم من إخوانهم الثوار، إلى أن كتب الله لهم في مثل هذا الشهر من عام 1962 تحقيق حلم شعبهم في دحر الاحتلال، وتحقيق الحرية والاستقلال.

إن في مثل هذه التجربة النضالية الكثير من القضايا والمواقف التي تتشابه مع تجربتنا الفلسطينية، ولذلك فإن قراءتها بوعي وعمق وأخذ الدروس والعبر منها هي ضرورة علمية ومستلزم وطني لكل من يتصدر القيادة على الساحة الفلسطينية.. كما أن في تجارب شعوب أخرى وإن بزوايا مختلفة أيضاً ما يمكننا أن نتعلم منه الكثير، لإنضاج تجربتنا الكفاحية، وتوجيه بوصلتنا الوطنية إلى مسارات لا تتعثر معها الرؤية ولا تزيغ الأبصار.

إن التجربة النضالية في إيرلندا وجنوب أفريقيا مليئة كذلك بما يمكننا المرور عليه من دروس التاريخ، وتعلم الكثير منه، والخروج بخلاصاتٍ تجنبنا الكثير من الأخطاء والزلل.

ولتجلية صورة ما نتحدث عنه، سنمر على بعض الوقائع التاريخية؛ سواء في عالمنا الإسلامي أو في الغرب، وأخذ العبر منها، من خلال حكمة القيادة التي جسَّدت متغيرات تلك المرحلة، وكان لها حقيقة بصمات تعكس طبيعة الكثير مما اتخذته من المواقف والسياسات، والتي تعبر عن الحنكة السياسية والقدرة العالية لرؤية المخاطر وسبل تجنبها، والوصول بذكاء إلى ما حفظ شعوبها من الاندثار، وحمى تراثها من الضياع، وسنتناول ثلاثاً منها، حيث كان لنباهة القائد وحكمته الفضل فيما تحقق لها من إنجازات ومكانة تحت الشمس. 

أولاً) صلاح الدين الأيوبي وصلح الرملة: التفاوض بذكاء وحنكة

كلما قرأت عن صلح الرملة؛ وهو الاتفاق الذي تمَّ عقده بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وأحد قواد الحملة الصليبية الثالثة على بلاد الشام عام 1192، أدركت بأن المفاوضات يمكن أن تأتي أيضاً بكل ما نتطلع إليه من المكاسب والإنجازات، ولكن في سياقات الرجل الحكيم ذي القوة المكين.

أكثر من سبع جولات تفاوضية خاضها صلاح الدين مع ريتشارد، والتي تحسس من خلالها نقاط القوة والضعف لدى أعدائه، كما أنه اشترى الكثير من الوقت لتعزيز قواته، وتحييد العديد من مواقع الخصوم التي كانت تحيط بمملكته.

لقد تمكن صلاح الدين وأخوه العادل من إدارة مفاوضات ناجحة أفضت بتسليم ريتشارد للكثير من المطالب والشروط التي أدت لحقن الكثير من الدماء، والتمكين للمسلمين من إحكام قبضتهم على بيت المقدس، وإنهاء سنوات من القتال الذي أخذ طابعاً دينياً تورط فيه العديد من ملوك أوروبا وكنائسها، ولكن الله كتب للمسلمين بحكمة صلاح الدين النصر والتمكين.

لقد تعلمت الكثير وأنا أقرأ تفاصيل الجولات التي سارت عليها العملية التفاوضية حتى الوصول لتلك الهدنة أو الصلح، وكذلك عن حكمة القائد صلاح الدين، والذي كان يُعدُّ بطلاً للسيف، وأستاذاً في علم المفاوضة، والذي يتوجب على قيادات اليوم من الإسلاميين أن يقرأوا سيرته، وأن يتبحروا في دراسة منهجيته التفاوضية، والتي سجل التاريخ صفحاتها، وتناولتها أقلام الباحثين في مجال التاريخ وعلم السياسة وحلِّ النزاعات.. لقد أعجبني البحث الذي كتبه د. رياض شاهين، والذي تابع بحكم تخصصه كأستاذ للتاريخ مجريات تلك الأحداث والوقائع، وخرج بالعديد من الخلاصات التي تضمنها بحثه، الموسوم « هـدنة الرملـة والظروف المحيطة بها »، حيث أورد فيه المراحل التي مرت بها العملية التفاوضية، حتى تمَّ التوصل إلى ذلك الاتفاق التاريخي، والذي كانت نتائجه تعكس حكمة وذكاء وصبر القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي.. ولعل ما لفت نظري من بين الكثير من الخلاصات التي توصل إليها الباحث مقولته « إن قـبـول صـلاح الديـن لمبدأ المفاوضات، علـى الرغـم من أن الصليبيين يحتلون أرض المسلمين فيه دلالة علـى عقليـة سياسية واعيـة، فالرفض أحياناً لا يـنـم عن سعة في الأفق ولا فهـم فـي السياسـة ».

ثانياً) نلسون منديلا: المصالحة وبناء الدولة

إن الصراع المسلح في جنوب أفريقيا استمر طويلاً ولأكثر من أربعة عقود، إلى أن جاءت اللحظة التي أدركت فيها القيادة أن المرحلة القادمة تتطلب أسلوباً آخر غير الكفاح المسلح، حيث اتجهت الأنظار بعد التمحيص على العمل على كسب الرأي العام العالمي عبر الدعوة لإعلان المقاطعة الاقتصادية لنظام الفصل العنصري (الأبارتهايد). 

كانت عملية التحول في أدوات النضال هي ما أيقظ وعي البيض الحاكمين والممثلين للقيادة السياسية في البلاد، إلى ضرورة التفكير في نلسون منديلا باعتباره الزعيم الذي يتمتع بسيرة نضالية كبيرة، ويكن له سكان البلاد الأصليين بالكثير من التقدير والاحترام.

كانت البلاد تتجه بتأثير الضغوط العالمية لإنهاء نظام الأبارتهايد، ومنح الأفارقة حق تقرير المصير، حيث ستؤول شؤون الحكم والسياسة في البلاد إليهم بحكم أغلبيتهم العددية.

فكرت القيادة الحاكمة للبلاد من البيض بالشخص الذي يمكنها معه عقد صفقة تنقذ البلاد من التشرذم والانقسام، فوقع الخيار على نلسون منديلا الذي يقبع في السجن لأكثر من عقدين من عمره، ولكنه الشخص الذي يحظى بشعبية واسعة ومسيرة وطنية متقدمة، ولكنه اغدا خيار المستقبل الذي يمكن بناء شراكة سياسية معه. ولذلك، بدأت عملية التواصل معه وهو في السجن، وإخضاعه من حيث لا يدري لعملية تثقيف سياسي مكثفة استمرت لحوالي ثماني سنوات، بهدف تهيئته لما هو قادم من شراكة سياسية بين الطرفين.

زاره خلال تلك الفترة الكثير من المفكرين والسياسيين، وجرت معه حوارات موسعة حول مستقبل البلاد، والعملية الديمقراطية التي تحفظ حقوق البيض ضمن الشراكة السياسية التي يتقاسم فيها كل من البيض والسود إدارة شئون البلاد، حيث إن قطاع المال والأعمال الذي هو ركيزة استقرار وتألق النظام الاقتصادي هو عملياً بيد البيض، فيما العملية الديمقراطية وما تفرزه من نظام سياسي ستكون مرجعيته للسود، وهذا يتطلب الكثير من التنسيق والتعايش والتفاهمات بين الطرفين، كما أن الانفتاح على العالم يتطلب أمناً واستقراراً كبيرين، وهذه مهمة لا يقدر إلا رجل رشيد يقدر حجم المخاطر التي يمكن أن تلحق بالبلاد إذا ما انهار التعايش بين البيض والسود.

ثماني سنوات مرت، ومانديلا يعيش حالة من التثقيف والمراجعات والتأمل في مستقبل البلاد، ويقلب الأمور مع بعض القيادات التاريخية من حركته، والتي سمحت لها حكومة البيض بزيارته خلال تلك الفترة، إلى أن وصل مع أركان حركته التي كانت تتصدر قيادة الحركة الوطنية – آنذاك -  إلى أن الخيار الديمقراطي هو الأفضل لبناء جنوب أفريقيا، واستنهاض شعبها من وضعية الفقر والمجاعة وجمع شمل الوطن بما يحقق الأمن والأمان والاستقرار والازدهار للجميع.

خرج مانديلا من السجن بعد أن اتضحت صورة نظام الحكم الذي يريد إقامته في البلاد، فقام بالمصالحة التاريخية بين كل المكونات العرقية والدينية والإثنية في البلاد، وتمَّ كل ما كانت تتطلع له الأقلية البيضاء من استقرار وتعايش، مما جعل الجميع يشعر بالأمن والاطمئنان والكرامة الوطنية والتحرر من المظلومية التاريخية.

لقد خرج مانديلا من السجن بعد قرابة ثلاثة عقود ليس لينتقم، بل ليبني البلاد ويشيد عمرانها، ويضع لبنات الوطن الذي يشعر فيه الجميع بالحرية والانتماء، وعلى كاهل الأبيض والأسود تشاد أركان البلاد. 

ثالثاً) مايكل كولنز: العزيمة والحسم 

كان مايكل كولنز من أبرز قيادات الجيش الجمهوري الإيرلندي، حيث كان محارباً لا يُشق له غبار، وصاحب مواقف متشددة تجاه الاحتلال البريطاني لبلاده، لذلك كان يتمتع بشعبية كبيرة بين الثوار وحاضنتهم الشعبية.

وعندما طرحت بريطانيا التفاوض مع الجيش الجمهوري لحل الصراع وانهاء الاحتلال، وجرى الحوار بين القيادات العسكرية حول أفضل من يمثلهم في العملية التفاوضية، وقع الاختيار على مايكل كولنز؛ كونه الرجل الأقوى والأشد معارضة وعداوة للوجود البريطاني على أرض بلاده.

وفعلاً؛ ذهب كولنز لمفاوضة بريطانيا، وجاء بعد سنتين برؤيته لحلٍّ سياسي، وبخريطة طريق لإنهاء الصراع في البلاد، و تقوم الخطة على انسحاب بريطانيا من عشرين ولاية من الولايات الست والعشرين، وإقامة جمهورية إيرلندا المستقلة عليها، والابقاء على الولايات الست الأخرى في الشمال ضمن حدود المملكة المتحدة، حيث إن هناك نسبة كبيرة من سكان تلك المناطق من ذوي الأصول البريطانية، وبإمكان تلك الولايات أن تتمتع بنظام ديمقراطي يسمح بالشراكة الوطنية لكل سكان البلاد، والتعايش ضمن كيان سياسي جديد، يحفظ لهم الأمن والأمان والاستقرار والازدهار.

كان العرض مغرياً للمفاوض الإيرلندي، فقرر كولنز القبول به.. وبعد نقاش الاتفاق مع زملائه في قيادة الجيش الجمهوري، رفض البعض منهم العرض، ولكن الغالبية كانت مع القبول بالاتفاق.

مضى كولنز في تطبيق الاتفاق، وأعلن قيام جمهورية إيرلندا المستقلة بعد ثمانمائة عام من الاحتلال البريطاني للبلاد.

كان هذا القرار سبباً في التحريض عليه بين من عارضوا الاتفاق.. وبين من كان يتحرك لتثبيت أركان الجمهورية بعد استقلالها، استدرجه بعض رفقاء الدرب في المقاومة بدعوى استئناف الحوار فيما بينهم، فذهب وحده إلى لقائهم في مكانٍ حددوه له، مطمئناً لتاريخه النضالي معهم، وقيادته السابقة لهم.

عندما استفردوا به اغتالوه، وانهوا سيرته بشكل صادم لشعب الجمهورية.

اليوم، إيرلندا دولة تتمتع بالحرية والاستقلال، وإن كان جزء من الإيرلنديين في الشمال ما زال يطالب بالانفصال عن بريطانيا والانضمام للجمهورية.

نجح كولنز بحكمة قراره وشجاعة مواقفه أن يحسم صراعاً تاريخياً امتد لثمانية قرون، هلك خلالها الحرث والنسل، وتشتت فيها الشعب الإيرلندي، والذي هاجر منه الملايين لأمريكا وأوروبا وأستراليا. 

اليوم، تنعم البلاد بالأمن والاستقرار؛ سواء من تحرر منها ونال الاستقلال أو من تبقى يطالب - ديمقراطياً - بالانضمام للوطن الأم.

كان كولنز حاسماً وصاحب رؤية وتاريخ، ويتمتع بمصداقية نضالية عالية، اسهمت في قبول واحترام قراره، والانتصار له بين الغالبية من اتباعه، ولولا ذلك القرار الحكيم والرشد السياسي لقائد عسكري حكيم، لاستمرت حمامات الدم والإبادة لشعب الجزيرة حتى اليوم وبأساليب همجية لا تُبقي ولا تذر.

ختاماً: إن التاريخ البشري فيه الكثير من المشاهد والوقائع والصور التي نحتاج أن نقرأها ونتفحص صفحاتها، لنتعلم ونأخذ منها الدروس والعبر، والتي في كثير من خلاصاتها أن حكمة القيادة وبُعد نظرها، وقدرتها على الحسم واتخاذ القرار، هي أحد العناصر المهمة للتمكين وحماية البلاد واستقرارها.

لن أوغل في صفحات التاريخ البعيدة، فأمامنا الآن شواهد في عالمنا العربي والإسلامي تعكس حكمة وقدرة الرجل الرشيد، فهناك تركيا أردوغان، وهناك - في تونس - الشيخ راشد الغنوشي الذي جنب بلاده ويلات صراع داخلي كذلك الذي شاهدناه في العراق وسوريا، وهناك السياسي المحنك عبد الإله بن كيران ورفيق دربه د. سعد الدين العثماني وحزب العدالة والتنمية المغربي، الذين تعايشوا مع النظام، وأداروا شئون البلاد بحكمة واقتدار، وقطعوا الطريق في وجه أي صراعات أو مواجهات داخلية شبيهة بتلك التي شهدتها بلدان الربيع العربي.

ختاماً.. إن التاريخ هو إطار معرفي فيه خبر الأولين والآخرين؛ باعتبار أن ما سيكون هو انعكاس لما كان من تداول الأيام، وأن كل من يقود ويتصدر قيادة شعبه، ويرتفع سهمه في معادلة الحكم والسياسة، عليه أن يوغل فيه - قراءة وتدبراً - لاستخلاص الدروس والعبر.

هذه نصيحتنا نُسديها لقياداتنا السياسية، التي تعي بأن معادلة المُلك وإدارة شئون الحكم تتطلب الكثير من الحكمة والفطنة والديارة السياسية. 

 

كلمات دلالية