خبر مجتمع مشوه وصحافة غير مهنية/ بقلم: حسن نافعة

الساعة 03:14 م|10 ديسمبر 2008

لم تكن الجريمة التي وقعت في مدينة الشيخ زايد ، في مصر والتي راحت ضحيتها فتاتان في عمر الزهور ، جريمة من النوع المعتاد ، ومن ثم كان من الطبيعي أن توليها وسائل الإعلام اهتماما خاصا. غير أنني لم أستطع في البداية أن أتبين ما إذا كان الاهتمام الزائد بهذه الجريمة بالذات يعود إلى أسباب وعوامل ذاتية ، تتعلق بشخصية إحدى الضحيتين ، وهي ابنة مطربة مغربية معروفة اسمها ليلى غفران ، أم إلى أسباب موضوعية تتعلق بطبيعة ونوعية جريمة تمس قضايا عامة كثيرة تتعلق بطبيعة التحولات التي طرأت على سلوك المجتمع المصري نتيجة وفرة المال النفطي وما صاحبه من هجرة إلى دول الخليج. فالجريمة ، والتي بدت غامضة الدوافع حينئذ ، وقعت في فيلا قيل إنها مملوكة لفتاة عمرها 23 عاما ، وتعيش فيها بمفردها لأن والديها يعملان ويقيمان معا في السعودية ، وإحدى ضحاياها ابنة فنانة معروفة كانت تقضي ليلتها عند صديقتها وربما كانت هي المستهدفة الحقيقية. ولأنه لم يسبق لي أن سمعت من قبل عن الفنانة ولم تكن لدي أدنى معرفة بقيمتها أو بأهميتها الفنية أو بطبيعة سلوكها الاجتماعي والخلقي فلم أجد في القصة ما يستحق اهتماما خاصا من ناحيتي سوى جانبها الاجتماعي والذي يخرج بعض الشيء عن المألوف في تقاليد الأسرة المصرية.

 

لذا كان من السهل أن تستقر في ذهني صورة نمطية راحت الصحافة المصرية ترسمها للجريمة على النحو التالي:

 

1 - والدان لم يعد يشغلهما سوى جمع المال وتفرغا لجمعه في السعودية تاركين ابنتهما الوحيدة تعيش بمفردها في فيلا ضخمة اشتراها لها بالقرب من الجامعة الخاصة التي التحقت بها ، متصورين أنهما بذلك أديا واجبيهما كوالدين على أكمل وجه ووفرا لابنتيهما حياة كريمة لم تكن لتحلم بها لو أنها كانت قد عاشت في كنفهما في مصر وبمرتباتها الضئيلة. وانطلاقا من هذه الفرضية راحت الصحف المصرية تتسابق حول رقم المبلغ الذي كان يصل الفتاة المدللة شهريا من والديها والذي تراوح ، حسب "المزاد" المقام بين صحف "القطاع الخاص" وصحف "القطاع العام" ، بين خمسة آلاف وأحد عشر ألف جنيه شهريا،.

 

2 - فتاة في سن المراهقة تجد نفسها تعيش بمفردها وسط هذه البحبوحة من رغد العيش ، فماذا يتوقع منها أن تفعل؟ من المنطقي أن تميل إلى مصاحبة أصدقاء السوء لتحصل على ما لا تستطيع أن تحصل عليه بمفردها من متعة تتيحها لها إمكانات مادية غير محدودة. وهنا وجدت الصحافة في علاقتة ابنة رجل مهاجر إلى بلاد النفط بابنة فنانة مغربية جذبتها أضواء الشهرة إلى القاهرة ، دليلا لا يقبل الشك أو التشكيك في نية الفجور،. هكذت تحولت فيلا الجريمة ، كما صورتها الصحافة المصرية ، إلى مرتع لشباب طائش لم يعد يشغله هم عام أو قضية وراح يملأ أوقات فراغه بسهرات ماجنة تدور فيها كؤوس الخمر وتتبادل فيها لفائف البانجو مع شرائح الكوكايين ، وتحفل فيها الموائد بكل ما يذهب العقل من شراب أو مخدرات وبكل ما يشبع البطون مما لذ وطاب من أفخر الطعام ، ويهذا تتهيأ الأجساد التي منحت لعقولها وقلوبها إجازة مفتوحة لإطلاق غرائزها الحيوانية في حفلات جنس جماعي. وانطلاقا من هذه الفرضية راحت الصحف المصرية تتسابق حول تسمية أنواع الخمور والمخدرات والأطعمة التي كانت تقدم في سهرات هبة ونادين الماجنة،.

 

وترتيبا على هذه الافتراضات التي تبدو في ظاهرها منطقية ، توصل خبراء الحوادث في الصحف المصرية إلى أن الجريمة التي وقعت في مدينة الشيخ زايد لا يمكن إلا أن تكون جريمة عاطفية ارتكبت بدوافع الغيرة أو الانتقام في لحظة إفاقة من نشوة محرمة أو نتيجة هجوم مباغت من عشيق ولهان غيران، وإلا فكيف يمكن تفسير هذه الطعنات الوحشية المتكررة وهذا الجسد المفصول عن الرأس.

 

كانت تلك هي الصورة التي غرستها وسائل الإعلام المصرية في وجداني ، وربما في وجدان الملايين ، وكانت حاضرة في ذهني حين كنت أتهيأ لدخول منزلي عائدا إلى بيتي مساء يوم الثلاثاء الماضي عقب تلبيتي دعوة عشاء نظمه المجلس المصري للشئون الخارجية في النادي الدبلوماسي بمناسبة انعقاد مؤتمره السنوي. ولأنني كنت أستعد للسفر في صباح اليوم التالي إلى باريس للمشاركة في ندوة تنظمها اليونسكو عن "حوار الثقافات على ضفتي المتوسط" ، فقد كان علي أن أهم على الفور بإعداد حقيبتي. غير أنني وجدت زوجتي تتابع برنامجا تليفزيونيا وعلامات التأثر بادية بوضوح على وجهها ، وراحت تدعوني بإلحاح لمتابعة البرنامج الذي تشاهده. هكذا أتيح لي أن أتابع ما تبقى من اللقاء الذي استضاف فيه الإعلامي الموهوب محمود سعد والد هبة ، ضحية وصاحبة فيلا الشيخ زايد ، وأن أكتشف أن الصورة التي رسمتها الصحف المصرية كانت كلها وهمية ومن صنع الخيال وبعيدة كل البعد عن الحقيقية كما ارتكبها ورواها فاعل الجريمة الحقيقي الذي تم القبض عليه بالفعل،.

 

الصورة التي رسمتها الصحف المصرية في أذهاننا عن الجريمة كانت صورة مبنية على افترضات مستوحاة من شواهد عامة ، وليس صورة مبنية على معلومات حقيقية ، سواء كانت متاحة تم التأكد منها أو ناقصة تقع عليها مهمة البحث عنها واستكمالها وتدقيقها. وتلك خطيئة مهنية كبرى وقعت فيها الصحافة المصرية وتسببت في تشويه سمعة أسرة وسمعة ضحايا سقطوا بلا ذنب أو جريرة ، فأضافت إلى الحزن آلاما بغير حدود. وهكذا أصبحت الجريمة جريمتين: جريمة شاب قتل وجريمة إعلام جرح وكلاهما ، الشاب القاتل والصحافة الآثمة إفراز لمجتمع يبدو مشوها إلى درجة مرعبة. غير أن جريمة الصحافة تبدو لي أكبر بكثير من جريمة القاتل. فجريمة القاتل تبدو لي مفهومة الدوافع رغم أنها ليست مبررة أو حتمية ، أما جريمة الصحافة فليست مفهومة ، ناهيك عن أن تكون مبررة ، وتفصح عن تسيب شرير.

 

فالقاتل الحقيقي شاب فقير مطحون لا تزيد سنه كثيرا عن سن ضحيتيه اللتين أوقعهما حظهما العاثر في طريقه ، يعول أسرة كبيرة ويريد أن يتزوج. ولأنه وجد ، بتفكيره المحدود وربما بميوله الإجرامية أيضا ، أن حلمه غير قابل للتحقيق بالطرق المشروعة ، قرر أن يسرق أحد البيوت الكائنة بحي راق كان يتردد عليه ويعمل فيه حدادا من وقت لآخر. وهكذا ساقته الأقدار إلى فيلا لا يعرف من بداخلها ولا ماذا يفعل أو يملك أصحابها لكنه كان على ثقة من أنها لا بد وأن تكون عامرة بما يبحث هو،. ولأنه ليس سارقا محترفا ولا مجرما محترفا ، قرر أن يحتاط باقتناء ساطور كبير قيل إن طوله بلغ 75 سنتيمترا،. هكذا ، وببساطة شديدة لم يتوقعها أحد ، ساق حظ عاثر وقدر محتوم فتاتين بريئتين في طريق شاب يحمل ساطورا توجه بالصدفة البحتة إلى بيتهما ليسرقه ، وكان ما كان.

 

أما الطرف الآخر ، وهو الصحافة المصرية التي لا نكاد نستثني منها أحدا ، فلا يمكن فهم سلوكها الشائن أو دوافعها غير النبيلة. فمن الواضح أنها نسجت قصة من خيال بنته على افتراضات واستنتاجات ، وليس على معلومات صحيحة أو مدققة ، بل ولم تتردد في اختلاق وفبركة معلومات وأرقام مزورة لتثبت صحة افتراضات أو استنتاجات لا أساس لها ، دون أن تبذل أي جهد لتحري حقيقة ما حدث ، بل ودون أن يرتجف لها جفن حول ما قد تلحقه معلوماتها المختلقة أو المفبركة أو المزورة من أذى بأناس أبرياء. فلم تكن هذه الصحافة مستعدة لأن تصدق أن فتاة شابة مستقيمة ومتدينة يمكن أن تسكن بمفردها منزلا كبيرا ، لأن اي فتاة ثرية تسكن بمفردها في هذا الزمن لا بد وأن تكون ، في نظرها ، ابتداء وبالضرورة منحرفة وسيئة السلوك ما لم يثبت العكس. وأولاد الفنانين لا بد وأن يكونوا في نظرها ، ابتداء وبالضرورة ، منحرفين أيضا ، لأن الفن هو بالنسبة لها أقرب إلى الفعل الإباحي منه إلى العمل إبداعي ، ما لم يثبت العكس،. والآباء الذين يقبلون أن يتركوا ابنتهم الوحيدة تعيش بمفردها في منزل كبير بلا رقيب أو حسيب لا بد أن يكونوا ، ابتداء وبالضرورة ، آثمين ولا عذر لهم في مثل هذا السلوك الاجتماعي المستهجن في مجتمع هو بطبيعته محافظ ومتزمت ، ما لم يثبت العكس،

 

والسؤال: من المجرم الحقيقي في هذه الحالة؟ هل هو ذلك الشاب البائس الجاهل الفقير الذي يعول أسرة كبيرة ويريد أن يسرق ليتزوج ، أم هي المؤسسة الصحفية التي يفترض أن تكون أداة ووسيلة فعالة للتنوير وللرقابة معا؟. أعتقد أن الإجابة واضحة تماما ولا تحتاج لتفسير. فمتى تصبح صحافتنا مهنية؟ أليس من واجب كل صحيفة ساهمت في تشويه سمعة أسرة واغتيال براءة شباب ، أن تكفر عن ذنبها وأن تستخلص مما حدث دروسا تعينها على تصحيح أوضاعها. هذا الحادث كشف لنا ليس فقط عن صحافة غير مهنية ، ولكن أيضا عن مجتمع قاس وبه الكثير من العقد النفسية. وأود بالنيابة عنه أن أعتذر لأسر الضحايا.