خبر الشباب العربي والعزوف عن السياسة / بقلم: خالد الحروب - كامبردج

الساعة 03:13 م|10 ديسمبر 2008

 

ثمة عزوف كبير ولافت ومقلق عن السياسة في اوساط الشرائح الشبابية في العالم العربي. وليست هناك حاجة للاعتماد على احصاءات ودراسات علمية للخلوص الى نتيجة مفادها انتشار الاعراض العام عن التسييس بشكل عام ، وفي اوساط الشباب بشكل خاص. هذا لافت لانه يحدث في بلدان تعج بالمعضلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تستلزم انخراطا مضاعفاً في السياسة وتوسيعا لنطاق الاهتمام بالشأن العام لمواجهة تلك المعضلات. وهو مقلق لانه من دون وجود فاعلية شبابية في الحياة السياسية ، في البلدان المستقرة والناجزة ناهيك عن البلدان القلقة والحبلى بالمشكلات ، فان مستقبلات تلك البلدان لن تتصف بالاشراق.

 

بعض اسباب العزوف عن السياسة عموماً ، وتفشي ذلك العزوف في اوساط الشباب ، تتسم بالعالمية وتتواجد في معظم مناطق العالم. تواري الايديولوجيات الكبرى وفقدان "المعنى" احبط تيارات شبابية واسعة النطاق ، ولم تعد تلك الفاعلية مرئية سواء في اوساط التجمعات الجامعية او غيرها. كما ان انتشار وسائل الاتصال العولمي ساهم من جهة في زيادة وتعميق المعرفة المتبادلة بين البشر ، وشبابهم ، لكنه ايضاً ساهم في احباط العمل الجماعي الفاعل من جهة اخرى: اصبح الاطلاع والمتابعة (الانترنتية) بديلة عن الفعل الحقيقي والعملي على الارض. وهناك اسباب عالمية مشتركة اخرى عديدة ليس هذا وارد مناقشتها تفادياً للاستطراد. بيد ان ما يلح اكثر هنا هو التامل في الاسباب الخاصة بالحالة العربية المقلقة حيث السياسة تنفر القادمين الجدد اليها وتدفعهم لتغير مساراتهم.

 

السبب الاول بطبيعة الحال هو المناخ القمعي العام الذي تعيشه معظم البلدان العربية والذي يترتب عليه تقديم تضحيات احيانا تكون كبيرة فعلاً كثمن للانخراط في العمل السياسي. الاشتغال في السياسة في غالبية البلدان العربية معناه توقع حدوث خسارات كثيرة على المستوى الفردي ، وتوقع مستوى من التضحية قد لا يتناسب مع ما يمكن انجازه على ارض الواقع. في احوال عادية لا تتطلب تضحيات كبيرة وغير متناسبة مع الانجازات المتوقعة يكون العمل السياسي جسراً لتحقيق الطموح الشخصي ، وليس فقط اندفاعة جذرها الرغبة في التغيير. وهذا يعني ان التسييس قد يفتح للمنخرطين في السياسة آفاقاً لم تكن موجودة من قبل ، ويغريهم بتعدد المصالح ودمج ما هو خاص فيها بما هو عام. السياسة في البلدان العربية قد تكون الطريق الى فقدان الوظيفة ، والمطاردة في الحياة ، والتضييق في وسائل العيش ، والنبذ من قبل النظام الحاكم ، وقد تنتهي بالسجن.

 

السبب الثاني وراء العزوف عن السياسة ، شبابيا وبشكل عام ، هو ان ارض الواقع قاحلة وغير مغرية ، وتغيير ما هو قائم عليها لا يتبدى مُتاحاً في الافق المنظور. لذلك يتقدم الاحباط واليأس دافعاً الغالبية الكاسحة من الناس بعيدا عن التورط في السياسة ، تاركة اياها للنخب الحاكمة ، او للنخب المعارضة المؤدلجة وخاصة الاسلاميين كما سيرد لاحقاً. انسداد آفاق واحتمالات التغيير ينفر الشرائح التي قد تكون لديها الرغبة في العمل السياسي ولو بالحدود الدنيا. الانظمة القائمة وعلى مدار العقود الماضية تمكنت من سد الافق بشكل شبه تام في معظم البلدان العربية بحيث صار التفكير بمجرد تغيير الوضع القائم مصطدماً بواحدة من نتيجتين: الاولى هي استحالة احداث هذا التغيير ، والثانية ان التغيير ان حدث قد يقود الى اوضاع اسوا من الاوضاع السيئة القائمة، السبب الثالث الذي يمكن التامل فيه وراء عزوف الشرائح الشبابية عن السياسة هو شعارات الحد القصوى عن كثير من الاحزاب المعارضة والتي تريد تغيير الاوضاع القائمة. العديد من الاحزاب العربية ، بشتى توجهاتها الايديولوجية والفكرية ، تطرح برامج وشعارات تعلن من البداية انها تريد تغيير الاوضاع القائمة وشكل الانظمة واحياناً قلب الامور جذرياً. نظرياً تمتلك هذه البرامج والشعارات مشروعية تامة ، ليس من ناحية مضمون ما تطرح ، بل من زاوية وجوب تمتعها بالحرية في طرح ما تشاء طالما كان ذلك بعيدا عن العنف واستخدام القوة. لكن من ناحية عملية فان شعارات التغيير القصوى والبرامج الجذرية تخيف بطبيعة الحال الانظمة المقصودة ، وتضاعف من السياسات القمعية وردود الفعل المتوترة. وهذا كله يبعد تلقائياً وآلياً الشرائح المحتمل انضواؤها في هذه الاحزاب. ما تحتاجه كثير من الاحزاب العربية هو اعادة النظر في الشعارات والبرامج التي تطرحها بحيث تجعلها اقل تخويفاً للانظمة القائمة وللناس ايضاً ، وحتى تجسر الفجوة بينها وبين الشرائح الاعرض من الناس.

 

سبب آخر يمكن التامل فيه هنا هو سيادة الشعار الاسلاموي وسيطرة الحركات الاسلامية على فضاء التسييس في البلدان العربية. وهذا له عدة مظاهر ذات صلة هنا ، كما انه يقود الى عدة نتائج. المظهر الاول هو ان هذه الحركات تكاد تكون الاستثناء الوحيد ، والمدهش ، لظاهرة عزوف الشباب العربي عن التسييس. فالحركات الاسلامية هي المُستقطب الاول والاهم للشباب في العالم العربي ، ويشكل الشباب عمودها الفقري. المظهر الثاني هو ان التيار الرئيسي لهذه الحركات ، المنخرط في العمل السياسي السلمي ، اي حركات ومنظمات الاخوان المسلمين المشتغلة في السياسة بشكل قانوني او شبه قانوني ، تطبق بوعي او من دون وعي نظرية تقديم الحد الادنى من التضحيات. معنى ذلك ان العناصر الشبابية المنضمة لها لا تقدم تضحيات قصوى ، بل تستطيع ان تمارس حياتها الاجتماعية والمهنية بشكل شبه عادي من دون ان تخسر خسارات كبرى ودائمة. هناك طبعاً معيقات او خسائر موسمية ، وهناك ضغوطات على القيادات العليا في بعض البلدان ، لكن بشكل عام فان ما تقوم به الشرائح الاوسع من تضحيات يقع في اطار المقبول والمقدور عليه.

 

اما المظهر الاكثر قلقاً في مسالة التسيس الشبابي الاسلاموي فيتأتى من زاوية الايمان بامتلاك الحقيقة واعتلاء موقع اخلاقي وقيمي وديني ينظر من عليه الى الشرائح الشبابية الاخرى على انها منحرفة عن الطريق القويم ، وسائمة لا تعرف هدفاً لها ، وتلهث وراء مصالحها الدنيوية. ينعكس هذا "التموضع" على شرائح الشباب غير المتدين حيث يشعر هؤلاء طوال الوقت بانهم مُدانون شعورياً ودينياً الى اجل غير مسمى ، وهذا الشعور "الدونية الدينية والسياسية" يدفعهم الى الابتعاد اكثر عن السياسة ، وعدم منافسة الاسلاميين ، والبقاء في مربعات الاهتمامات الصغيرة ، لكن التي يشعر اصحابها بان التقصير الديني يعتريهم طوال الوقت.

 

خلاصة المشهد الشبابي العربي ، فيما خص الاهتمام بالسياسة ، هو انشطار رأسي بين شريحة اسلاموية نشطة ومسيسة ، وشرائح غير متدينة وغير مسيسة ، وهذا يؤشر الى مسارات التوجهات المستقبلية في السياسة والاجتماع واشياء اخرى كثيرة.