خبر لحظة إرادة... معاريف

الساعة 10:17 ص|28 أكتوبر 2016

فلسطين اليوم

المقابلة التي منحها وزير الجيش أفيغدور ليبرمان لصحيفة « القدس » الفلسطينية قد تكون القول الاكثر أهمية له منذ تسلم منصبه قبل نحو نصف سنة. يمكن الجدال في الكثير مما قاله، ولكن لأول مرة منذ سنين يحدد زعيم اسرائيلي ما هي سياستنا تجاه قطاع غزة.

« لن نحتل غزة مرة اخرى، لن نستوطن فيها من جديد ولن نبادر ضدها بحرب أخرى »، قال. وعلى خلفية الغياب التام لكل سياسة من جانب هذه الحكومة – فإن هذا قول منعش.

على مدى عقود تعاملت اسرائيل مع قطاع غزة كالحلم السيء، على امل ان نستيقظ ذات صباح ونتبين أنه انتهى. حكومات إسرائيل على اجيالها تجد صعوبة في صياغة جواب على سؤال أي نوع من العلاقات نريدها مع الجار الصغي، المكتظ والمعادي من الجنوب. وحتى الراحل ارئيل شارون لم يعرف كيف يحدد أي علاقات يريد أن تسود مع القطاع بعد فك الارتباط، باستثناء التوقع للهدوء. ومن هنا لعله نشأت بعض من الاخطاء التي ارتكبت في عملية الانسحاب مثل حقيقة أننا تركنا لغزة سيطرة على الحدود البرية مع مصر، الامر الذي أتاح التعاظم الدراماتيكي لحماس.

قول ليبرمان هو رد جلي وواضح لكل من يبكي فك الارتباط ولكل اولئك الذين يشتاقون للايام التي حكمنا فيها غزة. هذا هو المكان للتذكير بان الاقامة في غزة جبت في أعوام 2000 – 2005 حياة 25 اسرائيلي كل سنة، معظمهم جنود. ثمن أعلى بكثير مما جبته غزة في 11 سنة منذ انسحبنا منها، وذلك رغم تعاظم حماس ورغم التفاقم الدراماتيكي في تهديد الصواريخ.

إقامة 8 الاف اسرائيلي في قلب القطاع المعادي كانت دوما غير منطقية من ناحية أمنية ووطنية. ولكن ابتداء من العام 2000، اصبحت المستوطنات هناك أمرا غير أخلاقي أيضا، سواء تجاه المستوطنين أنفسهم أم تجاه القوات التي كانت تحميهم. فالحياة في بلدات تحرث الدبابات حقولها بلا انقطاع، وكل سفرية للمشتريات أو للنادي تتطلب تنظيم قافلة محصنة بشدة، جعلت الاستيطان في غزة عبئا هائلا وعديم الجدوى على اسرائيل.

وبالطبع فانه حتى بعد الانسحاب وسيطرة حماس، بقيت غزة عبئا أمنيا، ولكن فك الارتباط لم يستكمل أبدا. فمن جهة، منحت إسرائيل غزة معبر حدود بري الى مصر، ومن جهة اخرى فرضت عليها اغلاقا بحريا وجويا، مما ترك اسرائيل كمن هي مسؤولة عن مصير من اصبحوا حتى الان مليوني نسمة. وكل صباح تواصل اسرائيل ادخال الف شاحنة وتوريد احتياجات من هو عدو معلن لها: الطعام، الوقود، الطاقة، الاسمنت الذي يوجه الى الانفاق والحديد الذي يوجه الى انتاج الصواريخ.

بعد ثلاث جولات من القتال ومع تغير الساحة الاقليمية، فهموا في حماس بان ليس لديهم الكثير مما يكسبوه من جولة أخرى. وهم لم يكفوا لحظة عن التسلح، ولكن في السنتين اللتين انقضتا منذ الجرف الصامد يخرجون عن أطوارهم كي يوضحوا لاسرائيل بانه ليس لديهم أي مصلحة في استئناف القتال. فهم لم يطلقوا صاروخا واحدا نحو اسرائيل في هذه الفترة. وتقريبا في كل واحدة من الـ 42 حالة اطلاق للنار وقعت عملوا على اعتقال مطلقي النار.

ان الضائقة المتعاظمة في غزة، والتي حسب الامم المتحدة ستكف عن أن تكون مناسبة لسكن الانسان بعد اربع سنوات، تدفعهم لان يبحثوا عن سبيل يضمن وجود ما يسمونه « المشروع » – السيادة الوحيدة لحركة الاخوان المسلمين في الشرق الاوسط (وهم لا يعدون تركيا ضمن هذا الاحصاء). وعليه فانهم معنيون بترتيب مع اسرائيل، حتى لو جاء بثمن انقسام الحلم الفلسطيني بين غزة والضفة الغربية.

سنغافورة الشرق الاوسط

يخيل لي أن ليبرمان أيضا يفهم عدم الجدوى في جولة قتالية اخرى في غزة. حين كان وعده الانتخابي تصفية اسماعيل هنية لا يزال يطارده، اضطر لان يهدد في المقابلة بان « الحرب التالية في غزة ستكون ايضا الحرب الاخيرة لحماس ». ولكن في الساعات الطويلة التي استثمرها في دراسة القطاع منذ تسلم مهام منصبه، يعرف هو ايضا بان حماس مغروسة عميقا في المجتمع الغزي، في القلوب وفي العقول. واقتلاع حماس من غزة هو مهامة صعبة، طويلة مع أثمان ليس مؤكدا ان اسرائيل معنية بدفعها.

ولكن من لم يتجرأ حتى الان على أن يهمس بفكرة إقامة ميناء في غزة، ثبت في هذه المقابلة صيغة جديدة: التجريد مقابل الاعمار، ميناء ومطار. هذه الصيغة هي بالطبع عليلة ولن تصمد في أي اختبار عملي. فلا تجريد في الشرق الاوسط، لم يكن ولن يكون. احد في هذه المنطقة لا يضع سلاحه ويعتمد على طيبة قلب الجار. وحتى عندما وقعنا على اتفاق سلام مع مصر لم نتوقف عن تدريب الجيش الاسرائيلي على القتال ضدهم، وهم لم يتوقفوا، حتى اليوم، عن الاستعداد للحرب ضدنا. ولكن في اقوال ليبرمان يوجد على الاقل قول سياسي واضح – المصلحة الاسرائيلية هي أن تزدهر غزة، او على الاقل الا تذوي بالجوع والفقر.

بشكل مفعم بالمفارقة تحدث ليبرمان عن رؤيا تصبح فيها غزة « سنغافورة أو هونغ كونغ » الشرق الاوسط. وهو يؤمن هذا تقريبا مثلما يصدق بنيامين نتنياهو. كل من يعرف غزة والمجتمع الغزي يعرف أن هناك حاجة لاستيراد الكثير من السنغافوريين وتصدير الكثير من الفلسطينيين لتحقيق هذه الرؤيا. ولكن الغزيين سيبقون الى الابد جيراننا، وهم لن يختفوا الى أي مكان، واذا كانوا جوعى وعديمي الأمل فاننا سنلقاهم على أعتاب ابوابنا.

الآن توجد لحظة إرادة حيال غزة وفرصة لن تستمر الى الابد، لرفع العلاقات مع القطاع الى مستويات أخرى. نصف وزراء الكابنت باتوا يفهمون بان هذه فرصة ذهبية: التحرر نهائيا من المسؤولية عن مصير غزة، تثبيت انقسام الفلسطينيين بين كيانين وربما ايضا الابعاد الحقيقي للحرب القادمة. ليس لدى أحد أوهام – حماس كانت وستبقى عدوا مريرا لاسرائيل. ولكن هذا عدو معني اليوم بهدنة طويلة الأمد، ووقف النار يتم مع الاعداء.

ينبغي لنا أن نكبر وأن نهجر القول الصبياني « نحن نتحدث فقط مع من يعترف بها كدولة يهودية ». دولة اسرائيل القوية لا تحتاج لاسماعيل هنية كي يحدد هويتها. هنية هو عدو مرير، ولكنه جار، وعندما تكون فرصة لحل مشكلة مع الجار بدون عنف – فمن المجدي فحصها.

أن نقاتل غزة هو أمر ممكن من ناحيتنا دوما. غزة الفقيرة وعديمة الخلفية للعالم لن تكون تحديا عسكريا هاما لاسرائيل. فهم لن يتمكنوا ابدا من هزمنا، الانتصار علينا او احتلالنا؛ في أقصى الاحوال يمكنهم أن يؤلمونا. اسرائيل، في كل لحظة معطاة يمكنها أن تهزمهم. ولكن الان توجد نافذة مفتوحة تسمح بترتيب العلاقات معهم، على الاقل للسنوات القادمة، ومن المجدي استغلالها قبل أن تغلق.

كلمات دلالية