خبر الشقاقي في ذكراه أحوال البلاد ... بقلم: عدلي صادق

الساعة 03:52 م|26 أكتوبر 2016

فلسطين اليوم

في جزيرة مالطا، وفي جُنح الظلام، وفي مثل هذا اليوم، من العام 1995 امتدت الأيدي الصهيونية الغادرة، الى أحد الفرسان القادة، وأطلقت الرصاص على الدكتور فتحي الشقاقي، مؤسس وقائد « حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين ». في تلك اللحظة، فقدت فلسطين أحد أنبل وأعز أبنائها البررة على مر تاريخ الكفاح الوطني المعاصر، وغاب عن المشهد الفلسطيني، قائد مثقف، رأي في وطنه فلسطين، قضية الإسلام المركزية، فاستحدث لهذه الرؤية شعارها للمرة الأولى على مستوى جماعات وجمعيات وأحزاب العمل الإسلامي، وأظهر من خلال مشروعه المتعلق بالمقاومة حصراً، أن سياقات الإيمان والعمل الطهراني، بالنسبة للفلسطيني حصراً، لا تحيد عن وُجهة المقاومة، ولا يصح أن تنعطف منها الى منعرجات التمكين للاستحواذ على سلطة، أو إبرام تحالفات ذات أهداف خارج حدود فلسطين، أو بعيداً عن محددات قضيتها، وخارج الاعتبارات الموصولة بعذابات شعبها !.

في رحلة كفاحه داخل الوطن، وفي مشاوير العمر في المنفى، كان فتحي الشقاقي لصيقاً بالجغرافيا الفلسطينية. ظل الطبيب ساهراً، كأنما يضع سماعة الفحص على بطن الوطن، ليرصد كل خلجة وحَشْرجةٍ وصوت. يتأنى وهو ينسج خيوط الثوب ويُحيك غطاءً للمقاوم الفلسطيني، يستدفيء به في الليالي الباردة. كان الأشد حرصاً على تحاشي المهاترات، والاستمساك بالعروة الوثقى، فلا تؤثر فيه تخرصات الآخرين ولا جهالة الجاهلين. هيأ نفسه لأن يقابل كل تحية بأحسن منها، وكل احترام باحترام، بغير دونية أو إسفاف. سمعنا منه وسمعنا عنه، الكثير من مواقف العز والكبرياء. كان دائماً، قبل أن تبدأ جلسته مع زعماء أي بلد ومرجعيات أي مجتمع، يتعمد تذكير إخوته بأن فلسطين هي الأصل، وكل الآخرين فروع.  يشرح درسه الأول والأخير، لمن معه منبها: لنرفع رؤوسنا عالياً، ولنتحدث بكبرياء يليق بمقاومتنا، فنحن.. فلسطين!

ظل العدو يركز في متابعة احداثيات حركته. فمهما ابتعد، كان المحتلون يرونه لاعباً خطيراً في أرض وطنه، يؤرق مضجعه. كثيرون، كانوا يتنفسون هواء فلسطين ويعيشون أوقاتها، أو ينشطون على مقربة منها ويثرثرون في السياسة، لكن العدو، رآهم خارج اللعبة، وغير ذي أهمية. في الوقت نفسه، رأى المحتلون في العديد من الفرسان الذين أوصلتهم الدروب إلى منافي أبعد عن وطنهم، أعداء خطرين، ينازلونه صراعاً، في الجغرافيا الفلسطينية، رغم وجودهم على مسافات بعيدة مكانياً. وفي كل مرة، كان هذا العدو يلجأ الى القصف أو التفجير أو ينفذ هجوماً خارج فلسطين، يكون الهدف رجلاً من اللصيقين بتراب الوطن بقطع النظر عن حساب المسافات. فأبو جهاد خليل الوزير، كان عندهم جديراً بأن يقطعوا آلاف الكيلومترات، بوسائل انتقال برية وبحرية وجوية وبمعاونة جواسيس، لكي يقتلوه هو حصراً، لأنه نديم الجغرافيا الفلسطينية. يومها، وفي لحظة الهجوم، مروا على منزل محمود عباس، كأنما مروا على بائع فجل، لا يستحق أن يزعجه أحد إن لم يستحق الدعاء له بالربح. ويوم أن انتقل العدو بالوسائل البرية والبحرية، وبمعونة الجواسيس، لكي يقتل القادة الثلاثة الأفذاذ، في العاشر من نيسان إبريل 1973 غاب أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، أي ترجل الفرسان الموصولون بفلسطين بحيل سُرِّيّ، يغذي المقاومة والكبرياء الوطني وحرارة الوعي بالصراع جيلاً بعد جيل.

قبلها، فخخ العدو وفجَّر سيارة الأديب الثائر غسان كنفاني، لما لروحه وقلمه من وشائج حميمة مع فلسطين لا يتوقف نبضها على مدار الساعة.

في رثاء غسان كنفاني، سُمعت قصيدة عز الدين المناصرة، التي تصلح في أوقاتنا الرمادية الراهنة، لرثاء الشقاقي والشهداء الأفذاذ الذين قضوا على طريق الشجاعة والكبرياء. كانت تلك القصيدة ترثي للحال المزرية وهي بعنوان: « تُقبل التعازي في كل منفى ». ربما يومها، لم يكن التردي قد بلغ مداه مثلما هو في وقائع الحال اليوم، ولم يكن الخائفون هم الغالبية العظمى. وقطعاً يكن الشاعر يتوقع أن يسقط فارس فلسطيني بحجم فتحي الشقاقي في مالطا. لكنه الشعر الذي يرى أو يتخيل.. وكان الشعر من بين الفنون التي أحبها فتحي الشقاقي:

ماذا إذا الوجه منك تناثر كالعُمر، من قمة شاهقة...

ماذا إذا جار هذا الزمان علينا، وصارت نوافذنا مغلقة.. تُؤذّن في المؤمنين

وأوجُهنا في الرمال، وأدمُعنا كاللظى مُحرَقة

وآذاننا بانتظار الذي سيدق النوافذ عند المساءْ:

لقد عبروا يا أبي.. ليعتقلوا غيرنا..

نؤذنُ في جرة الخوف.. نُرضِعُ أطفالنا من نهود الجبال.. ونرقبُ السفن المارقة!

 

نقلاً عن : احوال البلد

كلمات دلالية