يحتدم الجدال في إسرائيل هذه الأيام، حول مسائل يرونها جوهرية تتعلّق بدور المستوطنين في التأثير على سياسة الحكومة، وبالتالي على علاقات إسرائيل الدولية وخصوصاً مع الولايات المتحدة. ولكن هذا الجدال ليس سوى جزء من سجال أوسع حول وضع إسرائيل ومكانتها في ظلّ صيغة «الوضع القائم» في العلاقة بين الدين والدولة. ومعروف أن هذه المسألة كثيراً ما أثارت جدالات حول التوازن المطلوب بين العلمانية والدين والتناغم بين الديموقراطية واليهودية.
وعلى الرغم من أن الحركة الصهيونية أنشأت إسرائيل بناء على أيديولوجيا دينية، إلا أنها حاولت في البداية إظهار الطابع العلماني. غير أن هذ الطابع يتآكل بسرعة كبيرة لدرجة أن ما كان هامشياً قبل أقلّ من خمسين عاماً صار مركزياً وأساسياً يُحدّد الوجهة في الوقت الراهن. والأمر لا يتعلّق فقط بالأحزاب الدينية التي تكاثرت واشتدّ عودها، وإنما أساساً بالأحزاب غير الدينية التي صار بعضها يتبنّى الخطاب الديني.
وليس صدفة أن مُفاوضات كامب ديفيد بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك، بين أسباب مُتعدّدة، انهارت بعد إصرار «الزعيم العمالي» على السيطرة على ما تحت الحرم القدسي لأغراض دينية. كما أن تسيبي ليفني، عندما كانت زعيمة لحزب «كديما»، ووزيرة للخارجية، تفاخرت بأنها هي من أظهر تطرّف الفلسطينيين، عندما أصرّت على وجوب إقرارهم بـ «يهودية» الدولة العبرية. ومنذ ذلك الحين، واعتراف الفلسطينيين بهذه اليهودية صار شرطاً ومطلباً يُطرح في كل وقت باعتباره تعجيزاً للفلسطينيين وسداً يمنع التقدّم نحو أي اتفاق.
وفي ظلّ سيطرة اليمين على الحياة العامة في الدولة العبرية، يزداد السجال حول أولوية وثانوية الديموقراطية في علاقتها باليهودية. ولا يخفي كثيرون في الحلبة السياسية الإسرائيلية إيمانهم بأن لليهودية غلبة على الديموقراطية، وأن عدا ذلك يُقوّض الأساس الذي قامت عليه إسرائيل. وعلى الرغم من أن هذا يُناقض الادعاء الإسرائيلي أمام العالم بأن الدولة العبرية هي الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، وأن أساس العلاقة مع الغرب عموماً وأميركا خصوصاً هو التماثل في القيم الديموقراطية والليبرالية، فإن ذلك لا يمنع انتشار هذه الرؤية وتداولها على كل لسان.
وفي الآونة الأخيرة، كان هناك من جازف بالوقوف أمام التيار كما فعل الأمين العام لمنظمة «بتسيلم» لحقوق الإنسان، حاجاي ألعاد، عندما قدم شهادته أمام نقاش جرى في مجلس الأمن الدولي وفضح فيها الاحتلال وسياسة الاستيطان. وظهر أن الحملة ضد ألعاد ليست إلا حملة ضد كل منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية التي تتعرض لحملات شديدة من جانب اليمين الذي يعمل ليس فقط على كبح نشاطها وإنما لإخراجها عن القانون. وبلغ الحد برئيس الائتلاف الحكومي إلى حد الدعوة إلى اسقاط الجنسية الإسرائيلية عن كل من يدلي بشهادة تخالف الموقف الرسمي.
ولا يدور الحديث عن مواقف جهات هامشية في اليمين الإسرائيلي وإنما عن مواقف الجهات المركزية. فقد كان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو هو أول من رفع الصوت عاليا مطالبا بكبح منظمات حقوق الإنسان اليسارية. ولم يتوقف نتنياهو عند ذلك بل أظهر عداءه لحرية الصحافة في الدولة العبرية. ومعروف أن نتنياهو يشجع أنصاره من كبار الرأسماليين على شراء وسائل الإعلام بقصد التحكم بها وتسييرها وهو ما تجلى أساسا في إنشاء صحيفة «إسرائيل اليوم» المجانية من قبل راعيه، شلدون أدلسون لتغدو سوطا له في مواجهة وسائل الإعلام الأخرى.
ومؤخرا احتدم السجال داخل الحلبة السياسية والحكومة الإسرائيلية حول ما عرف باتحاد الاذاعة العامة. وكان هناك من سعى إلى محاولة تحديث البث العام في إسرائيل من خلال تطوير ما يعرف بـ «سلطة الإذاعة والتلفزيون» عبر تشكيل هيئة جديدة ومنحها صلاحيات تطويرية لتقديم برامج مجدية. ولكن نتنياهو وقف ضد هذا المشروع رغم إقراره في الحكومة ما خلق وضعا سجاليا حادا داخل وخارج الائتلاف. ولم يعد كثيرون ينظرون إلى الموضوع بوصفه مسألة تتعلق بهيئة محددة بقدر ما هو أمر يتعلق بحاضر ومستقبل الديموقراطية في إسرائيل.
ويرى كثيرون أن المعركة القائمة حاليا هي معركة وجودية بالنسبة لإسرائيل. وقد كتب بن كسبيت في معاريف أنه إذا لم تتحد الجهود والقوى لمنع نتنياهو من حل اتحاد الإذاعة فإن وجهة إسرائيل هي تركيا أردوغان خصوصا بعد الانقلاب الفاشل. وهذا يعني أن إسرائيل تتجه نحو ما يعرف بـ «الديموقراطية القومية» والتي خلافا للديموقراطية الليبرالية التي فيها السيادة للفرد، يتم تغليب مصلحة الدولة، كما يراها رجالها، على مصالح الأفراد.
ويرى الكاتب اليساري، جدعون ليفي، في «هآرتس» أن المشكلة ليست جديدة وأن الحديث عن مستقبل اتحاد الإذاعة هو حديث منقوص لأن الإعلام الرسمي الإسرائيلي في الأصل مجنّد لخدمة أغراض الدولة وأحزابها. وهو يؤمن أن الإعلام الحكومي لم يسبق له أن أدى رسالته وأنه فقد أهميته مع ظهور الإعلام التجاري. ومع ذلك فإن الإعلام التجاري الذي يمتلك «حرية نسبية» مقصر أيضا وهو يسهم في غسل الأدمغة ما يشكل خطراً على حرية التعبير.
ومع ذلك لا ريب أن ما يقوم به نتنياهو على هذا الصعيد يندرج في إطار سياسة تكميم الأفواه ومحاولة توجيه الجمهور نحو وجهة واحدة ومحددة تناقض التعددية وتخدم الأجندة اليمينية. وهذا كله يتعلق بالسياسة الداخلية الإسرائيلية التي تتحكم بالسياسة الخارجية وهي سياسة تعمل على إقصاء المُخالفين وتكريس رؤية التيار الواحد.