خبر أسئلة سيناء الحائرة والموجعة

الساعة 05:20 ص|26 ابريل 2016

فلسطين اليوم

 

فهمي هويدي

ما عادت سيناء أرض الفيروز والبطولات فقط، لأنها أصبحت مسكونة بالهم وغارقة في الدم.

حين انقطع التيار الكهربائي لمدة 13 ساعة عن منطقة التجمع الخامس بأطراف القاهرة، خصصت إحدى القنوات التلفزيونية في اليوم نفسه حلقة نقاشية حول الموضوع شرحت أبعاده وحذرت من تداعياته. وهو ما أثار انتباه ودهشة أهالي شمال سيناء، لأن الكهرباء ومياه الشرب مقطوعة منذ 30 عاما عن رفح والشيخ زويد، ولم يحرك ذلك شيئا لدى أهل القاهرة أو منابرها الإعلامية.

الملاحظة أبداها زميل سيناوي اعتبرها شهادة كاشفة للمدى الذي بلغه تجاهل القاهرة لمدن سيناء التي وضعت في دائرة الاشتباه على حد تعبيره، وأصبحت تقدم في وسائل الإعلام بأنها جبهة قتال ووكر كبير للإرهابيين لا يذكر إلا على لسان المتحدث العسكري بين حين وآخر، أما بقية مسؤولي الدولة فلا يذكرونها إلا في ذكرى تحرير سيناء التي تحل في 25 نيسان من كل عام.

هذا العام أضيفت فقرة جديدة إلى برنامج الاحتفال بالمناسبة. إذ تنافست بعض الصحف في نشر تقرير تم توزيعه عن انجازات القوات المسلحة التي وصفت بأنها «تاريخية» في مجالات تنمية سيناء. وهي انجازات جديرة بالتنويه حقًا، لأنها قدمت صورة مفصّلة للجهود التي بذلت في مجالات الإعمار المختلفة، فشملت الإسكان وحفر الآبار وتوفير المرافق واستصلاح الأراضي وتمهيد الطرق...إلخ. وربما كان ذلك هو البيان الرسمي الوحيد الذي طالعناه خلال السنتين الأخيرتين عن سيناء ولم يتحدث عن «تصفية» الإرهابيين وإجهاض عملياتهم. وبرغم أن البيان الذي صدر عن قائد قوات شرق القناة كان وافيا، إلا أنه لم يكن كافيا أو شافيا. ذلك أنه إذا كان علينا أن نستقبل بيانات المتحدث العسكري كما هي، حتى صارت في مقام كلمة القضاء التي اعتبرت إعلانا عن الحقيقة لا يجوز التعليق عليها أو نقضها، فإن الأمر ينبغي أن يختلف حين يتعلق الأمر بالأعمال المدنية والعمرانية. إذ أزعم أن تقرير قائد شرق القناة كان يمكن أن يكون أكثر اقناعا وإشباعا إذا كان قد طرح للمناقشة في حضور ممثلين عن المستفيدين من تلك المشروعات، كي لا يضم التقرير إلى قائمة الوثائق التي تحتفي بها وسائل الإعلام في حين يختلف مردودها على الأرض، ناهيك عن المشروعات الأخرى التي تنشر أخبارها في الصحف ولا يُرى لها أثر على الأرض. وهي ملاحظة بنيتها على تحفظات عدة سمعتها من بعض المثقفين السيناويين عبروا فيها عن انتقادهم لبعض المشروعات التي تم الإعلان عنها.

صدور التقرير في الذكرى الرابعة والثلاثين لتحرير سيناء يفتح شهيتنا لتقليب صفحات الملف الملغوم المحاط بالخطوط الحمر بسبب طبيعة العمليات العسكرية الجارية هناك، وهو ما يدعوني إلى طرح بعض الأسئلة المتراكمة، في مقدمتها ما يلي: هل تم تحرير سيناء حقا، أم أنها تحررت من الاحتلال الإسرائيلي ثم احتلها الإرهابيون بعد ذلك؟ وهل تم تقييم حملة مكافحة الإرهاب وتحديد نجاحاتها واخفاقاتها؟ ولماذا استمرت العمليات الإرهابية طوال السنوات الثلاث الماضية من دون أن تنجح عملية القضاء على الإرهاب في سيناء؟ وهل تتحول الاشتباكات المستمرة هناك إلى حرب لاستنزاف الجيش والشرطة؟ ومن هم هؤلاء الإرهابيون، وهل جاؤوا من سيناء أم من خارجها وما مصادر تسليحهم؟ ثم كيف تسير حياة المجتمع السيناوي الذي أصبح ضحية الحرب الدائرة، حين تكالبت عليه ضغوط الإجراءات الأمنية وقبضة الجامعات الإرهابية؟

قبل الخوض في التفاصيل أنبّه إلى الملاحظتين التاليتين:

ـ الأولى، إنني تمنيت أن تطرح هذه الأسئلة وغيرها مما هو مسكوت عنه بسيناء في لقاء موسع يضم ممثلين عن سيناء والمعنيين بأمرها والمدافعين عنها، لأن القضية أكبر من أن يسمع فيها رأي واحد أو تحمل همها جهة واحدة. وحبذا لو تم ذلك تحت سقف البرلمان، الذي رتّب زيارة سيناء وألغيت لأسباب أمنية ثم اقترح استبدالها بجلسة استماع لأهالي سيناء بعد عوتهم إلى المجلس، وهذه لم تتم أيضا. وبالتالي فإن مجلس النواب لم يشاهد ولم يسمع ولم يتكلم في الموضوع!

ــ الثانية، إنه لا مفر من الاعتراف بأن شحّ المعلومات المتوفرة عما يحدث في سيناء لا يتيح لنا أن نفهم ما يجري فيها، ذلك أن اعتبارها مسرح عمليات عسكرية ضيق كثيرا من فرصة الفهم والإحاطة بالتفاصيل، كما دفع كثيرين إلى الابتعاد عن الموضوع تجنبا لاحتمالات الوقوع في المحظور. لذلك فإنني أجد صعوبة في الإجابة على بعض الأسئلة التي ذكرتها. وأجد حرجا في التطرق إلى أسئلة أخرى، خصوصا تلك التي تعلقت بالجوانب العسكرية وقد عرضتها لكسر الصمت المحيط بها والإبقاء عليها حية في الذاكرة، في حين أن ثمة أسئلة أخرى أزعم أن في الإجابة عليها أداء لواجب تأخر الوفاء به كثيرا.

في محاولة الرد على التساؤلات أزعم بأن السؤال الأول مسكون بالمبالغة، فلا تحرير سيناء من الاحتلال كان كاملا ولا بسط الإرهابيين سيطرتهم عليها. ذلك ان المادة الرابعة من معاهدة السلام قيّدت من سيطرة مصر على سيناء، بعد تقسيمها إلى أربع مناطق (أ وب وج ود) وتركز الوجود العسكري المصري في المنطقة «أ» المحاذية لقناة السويس، ولكنه يضعف في العدد والعدة في الوسط وبدرجة أكبر بمحاذاة الحدود مع إسرائيل. من ناحية ثانية، فإن العمليات الإرهابية تتركز في شمال سيناء فقط، بوجه أخص في شريط بطول 50 كيلومترا يضم العريش والشيخ زويد ورفح، الذي يضم الكتلة الكبرى من السكان (نحو 300 ألف نسمة). أما وسط سيناء وجنوبها فهي مناطق مؤّمنة ولا عمليات إرهابية فيها.

موضوع تقييم حملة مكافحة الإرهاب شأن عسكري لا نعرفه ولا يجوز أن نخوض فيه بغير علم. بالتالي فليس لي فيه كلام سوى التعبير عن التمني، لأن التجربة أثبتت أن الحاجة ملحة لإجراء ذلك التقييم بما يستصحبه من مراجعة ونقد للذات وعلاج للأخطاء والثغرات.

أما استمرار العمليات الإرهابية طوال السنوات الثلاث الأخيرة وتأخر القضاء على الإرهاب برغم الوعد بذلك أكثر من مرة، يفسرهما ارتفاع الكفاءة القتالية للإرهابيين مع تزايد أعدادهم ووفرة سلاحهم وتطوره، وبسبب القيود التي وضعتها معاهدة السلام فإن حضور القوات المسلحة في سيناء كان متواضعا ومعرفتها بخرائطها كانت محدودة، ولم يمكن للقوات المسلحة من إثبات حضورها الحقيقي على الأرض إلا بعد عزل الدكتور محمد مرسي في الثالث من تموز 2014. لذلك فإنني حين ألقيت على أحد الخبراء السؤال الماضي باحتمال تحول الصراع الدائر في سيناء إلى حرب استنزاف للجيش والشرطة، كان رده ان الاستنزاف حاصل بالفعل وذلك هو الوصف الدقيق لما يجري هناك.

خلاصة الإجابة على السؤال المتعلق بهوية الجهاديين أو الإرهابيين تتمثل في ما يلي:

ـ إن الظاهرة الدينية عموما والحالة السلفية خصوصا لها وجودها التاريخي في شمال سيناء، بخلاف جنوبها الذي تنتشر فيه المنتجعات السياحية، فالإخوان كان لهم حضورهم في العريش في حين انتشرت السلفية الدعوية في رفح والشيخ زويد.

ـ تحدي الوجود الإسرائيلي كان له صداه في تلك الأوساط، وهو ما تبلور في ظهور السلفية الجهادية ممثلة في جماعة «التوحيد والجهاد» التي قامت بعمليات التفجير في طابا (2004) وشرم الشيخ (2006)، الأمر الذي أدّى إلى إلقاء القبض على عدد كبير منهم خصوصا أن عددهم آنذاك كان في حدود 200 شخص.

< من عباءة «التوحيد والجهاد» خرج أنصار بيت المقدس الذين حاولوا استهداف الإسرائيليين في «إيلات» العام 2011 واستهدفوا أنبوب الغاز الموصل لإسرائيل مرات عدة بعد ذلك، وخلال تلك الفترة كانت انشطتهم موجهة ضد إسرائيل. وظلت عناصرهم سيناوية بالأساس. وقد سمحت لهم وفرة الأنفاق بالتدريب واكتساب الخبرات من أقرانهم في غزة، الذين كانوا على خصومة مع «حماس» منذ أعلنوا «ردتَّها»، ودخلوا معها في صدام مسلح في العام 2009 أدى إلى قتل زعيمهم الملقب بأبي النور المقدسي و11 من أنصاره إثر اعتصامه بمسجد في رفح وإعلانه قيام «الإمارة الإسلامية في أكناف بين المقدس».

ـ شهدت تلك الفترة تطورين مهمين عززا من موقف أنصار بيت المقدس، الأول ان المجلس العسكري الحاكم أطلق سراح قياداتهم وعناصرهم الذين اعتقلهم نظام مبارك، فعاد هؤلاء إلى سيناء واستأنفوا نشاطهم. الثاني أن سقوط النظام الليبي فتح الباب لنقل ترسانة سلاحه المتطور والنوعي إلى سيناء، بعدما أتاحها القذافي للجميع لإفشال الثورة ضده. وشكّل إغراق سيناء بتلك الأسلحة النوعية نقطة تحول في القدرات القتالية للجهاديين.

ـ بعد عزل الدكتور محمد مرسي غيّر «أنصار بيت المقدس» استراتيجيتهم بحيث استهدفوا النظام المصري الجديد، وكانوا قد التزموا الهدوء النسبي طوال السنة التي حكم فيها «الإخوان» كي لا يكرروا الاشتباك المسلح معهم كما حدث مع حماس في غزة. ورغم أنهم لم يعلنوا مسؤوليتهم عن قتل الـ16 جنديا مصريا آنذاك، إلا أن مختلف القرائن تشير إلى ضلوعهم في العملية.

ـ في أعقاب العام 2013 حدث تطور آخر مهم أضيف إلى عودة قياداتهم وتوفير تسليحهم وتطويره. ذلك أن الصدام الدموي الذي حدث آنذاك بين السلطة الجديدة والإخوان، دفع أعدادا غير قليلة من شباب الجماعات الإسلامية في أنحاء مصر إلى اللجوء إلى سيناء والانضمام إلى «أنصار بيت المقدس». وهو ما وفّر للجماعة رصيدا بشريا لم تتوقعه، الأمر الذي مكنها من تعزيز صفوفها وبسط سلطانها في شمال سيناء. كما ان الحملات الأمنية التي جرى شنها في سيناء دفعت بعض الشباب إلى الالتحاق بالجماعة، سواء للثأر والانتقام أو لسبب انتشار البطالة. وإزاء ذلك أصبح أنصار بيت المقدس هم الأقوى حضورا ونفوذا بين الجهاديين، الأمر الذي طغى على أي دور للمجموعات الأخرى.

ـ في العام 2014 أعلن «أنصار بيت المقدس» مبايعة زعيم «داعش» والانضمام إلى «تنظيم الدولة الإسلامية»، وأقاموا كيانا افتراضيا أسموه «ولاية سيناء»، ونجحوا في السيطرة على الشيخ زويد ذات صباح، بمظنة أنهم يكررون تجربة الموصل في العراق، إلا أن القوات المسلحة أحبطت محاولتهم، فتركوا المدينة وعادوا إلى مكانهم في الجبال، ولا يزالون.

طول الوقت تتحدث السلطة ووسائل الإعلام عن جهود الجيش والشرطة وعمليات الإرهابيين، ولا يذكر في أغلب الأحوال الطرف الثالث الذي يعاني من الصراع ويدفع ثمنه، وهو المتمثل في جماهير الشعب الذين أصبحت حياتهم جحيما بسبب استمرار الصراع ولا يرون له نهاية في الأجل المنظور. إذ صار أهل شمال سيناء بين مهجرين أجبروا على ترك دورهم في رفح، أو نازحين دمرت بيوتهم وزراعاتهم جراء قصف الغارات فهاموا في العراء يبحثون عن ملاذ، أو معذبين حبسوا في دورهم بلا مياه أو كهرباء أو اتصالات من أي نوع، احتياجاتهم المعيشية عند حدود الكفاف، وموت المريض عندهم أرحم من عذاب الوصول إلى مستشفى والتعرض للاحتجاز والتحقيق عند الكمائن وأمام نقاط التفتيش. ناهيك عن ان المجتمع أصبح يعاني من البطالة، فلا زراعة ولا تجارة ولا رعي للأغنام. وحدهم موظفو الحكومة ضمنوا رواتبهم. وفى كل الأحوال، فإن من يغامر بالخروج من بيته لقضاء أي مصلحة لم يعد واثقا أنه سيعود إلى بيته حيا.

تستطيع أن تقول إننا ميتون إلا ربعا، بهذه العبارة لخص رجل ستيني اسمه سلمان أبوعبيد أحوال المواطنين العاديين في سيناء، في ما نقلته عنه صحيفة «المصري اليوم»، التي شذت عن القاعدة وخصصت صفحتين كاملتين (يوم 24/4) استعرضت فيهما عذابات السيناويين.

هي مشكلة أن يكون المرء إرهابيا في سيناء، ومشكلة ألا يكون كذلك!

كلمات دلالية