خبر إسرائيل والمقاومة.. حدود القوة والضعف ..د. عبد العليم محمد

الساعة 11:16 ص|19 مارس 2016

من البديهى أن أى مستقبل لا يتشكل فى الفراغ، كما أنه لا يأتى من المجهول، أو يهبط من السماء، وإنما يستند إلى المعطيات القائمة فى الواقع واحتمالات تطورها فى هذا أو ذاك من الاتجاهات، ويرتكز على حقائق وعناصر الموقف الراهن وآفاق تطورها الممكن القصدى والعفوى فى آن واحد، فإرهاصات المستقبل توجد جذورها فى الواقع، ولكننا نراها الآن جزءاً من الحاضر، وعندما نضعها فى منظور المستقبل يمكنها أن تنبئنا بصورته التقريبية أو على الأقل تعطينا فكرة عن مسار تطور الحاضر والواقع القائم.

يخلق الخلل فى توازن القوى المتغير بين إسرائيل والعالم العربى نوعاً من علاقات القوة والضعف، علاقة الأقوياء بالضعفاء، وهى علاقة مركبة تفضى فى الكثير من الأحيان بالطرف الثانى أى العرب إلى الانبهار بعناصر القوة التى تحظى بها إسرائيل، وهذا الانبهار بالقوة يخلق نوعاً من الردع الذاتى أى أن يقوم العرب بخلق صورة لأنفسهم وعن أنفسهم تتناسب مع مضمون هذه العلاقات كما ينظرون إليها، أى صورة تمتزج فيها عناصر اليأس والقبول بالأمر الواقع ومجاراة القوى وتجنب استفزازه خوفاً من ردة فعله.

بيد أن هذا الانبهار ليس مساراً حتمياً لعلاقات الأقوياء بالضعفاء فمن الممكن أن تقود هذه العلاقات إلى تخليق الرغبة فى محاكاة الأقوياء وتملك عناصر القوة التى تمكنوا من الحصول عليها والوصول إلى درجة من توازن القوى، كما أنه من الممكن أن تفضى علاقة القوة الضعف بالطرف الأضعف إلى البحث عن نقاط الضعف فى الخصم وفقاً لقاعدة أنه ليست هناك بالضرورة قوة مطلقة أو ضعفاً مطلقا فالأقوياء أيضاً لهم نقاط ضعفهم كما أن للضعفاء أيضاً نقاط قوتهم.

غير أن العرب اختاروا طول هذه العقود الانبهار بقوة العدو واكتفوا بالردع الذاتى لأنفسهم ومجاراته، وعجزنا عن رؤية نقاط الضعف الواضحة للعيان فى إسرائيل والتى تتناسب طرديا مع نمو عناصر القوة وبلوغها فى إسرائيل مستوى من التفوق العسكرى التكنولوجى لا يقارن بمستواها فى العالم العربى.

فإسرائيل حتى الآن دولة بلا حدود كبقية الدول ولم تستطع أن تعين حدودها بشكل قاطع، وقد يكون مصدر ذلك إضمار التوسع وضم الأراضى العربية المحتلة، بيد أنه يمكن القول أيضاً إنها تعجز عن السيطرة على الأسطورة التى أطلقتها بحيث أصبحت هذه الأسطورة هى التى توجه سياساتها ورغم علمها بمطالب الآخرين المشروعة فى تحرير أراضيهم وإقامة دولتهم ومقاومتهم لمشروع التوسع فإنها ليست قادرة على لجم هذه الأسطورة المؤسسة والتى تدفع ثمن الانسياق وراءها يوماً بعد يوم.

أما نقطة الضعف الثانية لدى إسرائيل فإنها رغم حديثها عن الأمن أى أمن الإسرائيليين وأمانهم فإن هذا الأمن مفتقد حتى الآن والحال أنها أصبحت دولة من 1948 وحتى الآن تبحث عن الأمن الذى لن تجده - طالما بقيت الأمور على حالها فالأمن المطلق وهم والأمن على حساب فقدان الآخرين للأمن وهم أيضاً.

من ناحية أخرى فإن إسرائيل تزعم أنها دولة اليهود يستطيع اليهود فيها التمتع بحياة يهودية كاملة، ورغم قانون العودة فإنها مازالت حتى الآن الجالية اليهودية الثانية بعد نيويورك حيث بقى معظم اليهود حيث هم مواطنون فى دول أخرى ينعمون بالأمن والمواطنة فى البلاد التى اختاروا العيش فيها.

تعلم إسرائيل أن ثمة مطالب إقليمية ودولية للسلام، وكل ما تستطيع أن تفعله حتى الآن هو الالتفاف حول هذه المطالب وتفريغها من مضمونها بحيث يأتى السلام وفق مصالحها ومطامعها ولا يحقق للآخرين أى شىء لا الأمن ولا السيادة ولا تقرير المصير، ذلك أن السلام بالنسبة لإسرائيل ليس خياراً استراتيجياً كما هو الحال بالنسبة للعرب، بل هو غطاء وتمويه للخيار الحقيقى لإسرائيل الذى يتمثل فى القوة المطلقة والتفوق المطلق والهيمنة المطلقة على المنطقة خاصة مع توحد الأجندة الإسرائيلية الأمريكية بعد 11 سبتمبر وبعد ثورات الربيع العربى وتآكل فاعلية الدول الوطنية وتفعيل آليات التقسيم والتفكيك.

والحال أن خيار العرب الاستراتيجى ليس كافيا لتحقيق السلام كما أن القوة المطلقة الإسرائيلية تخلق مقاومات شتى تعوق فرض مشروعها فى المنطقة وعلى شعوبها، ذلك أن الاستناد إلى أن السلام هو الخيار الذى ما بعده خيار فهمته إسرائيل على أنه الضعف الذى ما بعده ضعف، والحال أن الضعف المعلن من الجانب العربى الرسمى يغرى إسرائيل باعتماد القوة لفرض الحلول والمعالجات وصياغة أو بالأحرى إعادة صياغة المطالب العربية والفلسطينية وتكييفها وفق المصالح الإسرائيلية، كما أن تبنى خيار القوة من جانب إسرائيل يدفع نحو التمسك بهذه المطالب والدفاع عنها عبر المقاومة المشروعة للاحتلال والهيمنة.

فى هذا السياق تخلق المقاومة الباسلة الفلسطينية للعدوان الإسرائيلى تحديات هائلة الآن وفى المستقبل «فالجيش الذى لا يقهر» يتخبط ويرتبك ويفقد العديد من الإسرائيليين حياتهم نتيجة لاستمرار انتفاضة «السكاكين».

من المؤكد أن فقدان الثقة واكتشاف حدود القوة والسلاح لا يعنى بالضرورة توليد الاقتناع لدى النخبة الإسرائيلية بعدم جدوى القوة فى اللحظة والتو بل يعنى تراكم انعدام الثقة فى مراحل مختلفة قد تفضى إلى تجنب هذا الاختيار، ولكنه فى اللحظة الراهنة قد يفضى إلى مزيد من استخدام القوة والبحث مجدداً فى نقاط الضعف التى تم اكتشافها ولن تعدم إسرائيل السبل والوسائل لدعم فاعلية آلتها العسكرية.

بيد أنه على الجانب الآخر فإن هذه المقاومة للعدوان سوف تراكم خبرتها وتنتقل بها نقلة نوعية فى المستقبل وسوف تستخلص الدروس من أجل مزيد من الفاعلية، كما أن الباب مفتوح لتعميم هذه الخبرات على الصعيد العربى وتطويرها فى أية مواجهة مقبلة.

على صعيد آخر فإن تحدى المقاومة يثير لدى المواطن الإسرائيلى العديد من الأسئلة على شاكلة إلى متى؟ وما الهدف؟ من جراء هذه الحروب وأين الأمن؟ وكيف يتحقق؟ بعد فشل القوة فى تحقيقه على مدى هذه العقود.

هذه الأسئلة وغيرها سوف تجد منفذا للخروج إلى حيز النور والفضاء العام فى إسرائيل وسوف تطرح نفسها على الساسة وصناع القرار.