خبر عودةٌ إلى البدايات: إزالة الغمام عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ..سامي العريان

الساعة 10:11 ص|24 ديسمبر 2015

ـ هافينغتون بوست عربي ـ 24/12/2015

قدَّم المؤلف جورج أورويل في روايته «1984» معجماً للُغة «الأخ الأكبر» التي تعتمد على ازدواج المعايير؛ فيها «الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة». يُمكن للمرء أن يضيف مجموعة من العبارات الأخرى إلى «اللغة الجديدة» (Newspeak) التي ابتكرها أورويل إذا أراد أن يتحدَّث بلسان الدوائر السياسية الغربية، والتغطية الإعلامية السائدة لفلسطين أو إسرائيل، والصهيونية السياسية. التعبيرات التي قد تُستخدم لوصف هذا النوع من التغطية قد تشمل: «العنصرية هي الديمقراطية، والمقاومة هي الإرهاب، والاحتلال هو النعيم».

إذا اقتصرت مصادر معلومات المرء بشأن الوضع المتفجِّر في الأراضي الفلسطينية المُحتلَّة - وفي القدس بخاصةٍ - على وسائل الإعلام الغربية، فإنَّه سيقع ضحيةَ ليس فقط لتشوُّش في تصوير الضحية والجاني، ولكن أيضًا لخلطٍ في تاريخ الصراع وطبيعته.

على سبيل المثال، حذفت معظم وسائل الإعلام الغربية السائدة، مثل «نيويورك تايمز»، و«سي إن إن»، و«فوكس»، و«بي بي سي» في أسابيع المواجهات في القدس، حذفت عبارة «الاحتلال الإسرائيلي»، أو «المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية». لا تذكر هذه المؤسسات - إلا نادرًا - حقيقة أنَّ القدس تقع تحت السيطرة الإسرائيلية غير القانونية منذ 48 عامًا مضت، أو أنَّ المواجهات الأخيرة قد اندلعت نتيجةً للمحاولات الإسرائيلية لتغيير الوضع القائم وفرض إدارة مشتركة للمقدَّسات الإسلامية داخل أسوار القدس القديمة.

تحاول إسرائيل وداعموها في الساحتين السياسية والإعلامية في كثير من الأحيان تشويش الحقائق الأساسية عن طبيعة الصراع وتاريخه. وعلى الرغم من هذه المحاولات، فإنَّ الصراع ليس مُعقَّداً ولا يعود إلى قرونٍ طويلةٍ مضت؛ إنَّه ظاهرةٌ حديثةٌ بدأت منذ قرنٍ واحدٍ نتيجةً مباشرةً للصهيونية السياسية. هذه الحركة - التي أسَّسها الصحافي العلماني تيودور هرتزل في أواخر القرن التاسع عشر - حاولت دون كللٍ أو مللٍ تحويل اليهودية من أحد التقاليد الدينية الكبرى في العالم إلى حركة عرقية قومية تهدف إلى نقل اليهود من جميع أنحاء العالم إلى فلسطين وفرض تطهير عرقي للسكان الفلسطينيين الأصليين من أرض أجدادهم. هذا هو جوهر الصراع؛ وبالتالي لا يمكن فهم كافة السياسات الإسرائيلية والإجراءات التي تتخذها حكوماتها المتعاقبة إلَّا من خلال الاعتراف بهذا الواقع.

قد يكون مفهوماً أن تُروِّج إسرائيل والصهاينة المدافعون عنها توصيفات مغلوطة للتاريخ والأحداث لتوطيد أجندتهم السياسية. ولكن من غير المفهوم أن يسقط في فخ تلك الدعاية أولئك الذين يدعون إلى سيادة القانون، ويؤمنون بمبدأ الحق في تقرير المصير، ويدعون إلى الحرية والعدالة، أو أن يصبحوا من المتواطئين مع مثل هذه الدعاية. يُصاب المرء بالدهشة عند متابعة الكثير من التقارير الإعلامية أو التحليلات السياسية التي تتناول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لما تحويه من تغافل عن السياق التاريخي، وتجاهل مُتعمد للحقائق التجريبية، وازدراء للبِنَى والسوابق القانونية المُقرَّرة.

هل الأراضي الفلسطينية متنازعٌ عليها أم مُحتلَّة؟ هل للفلسطينيين حقٌ قانونيٌ مستقرٌ في القانون الدولي في مقاومة المحتلين، بما في ذلك استخدام الكفاح المسلح، أم تُعَد كافة وسائل المقاومة إرهاباً؟ هل لإسرائيل أي حقٍ في القدس القديمة ومُحيطها التاريخي والديني؟ هل يتعادل طرفا النزاع حقًا في إطالة أمد ما يُسمَّى بـ«دائرة العنف»؟ هل إسرائيل ديمقراطية حقيقية؟ هل ينبغي التعامل مع الصهيونية السياسية باعتبارها حركة تحررٍ وطنيٍ مشروعة (ممن؟) في الوقت الذي تُتجاهل فيه تجلياتها العنصرية الفجَّة؟ هل إسرائيل مُخلصة في السعي إلى حلٍ سلميٍ للصراع؟ هل يُمكن أن تكون الولايات المتحدة حقًا وسيط سلامٍ صادقٍ بين الجانبين بالصورة التي تُروِّج بها لنفسها باستمرارٍ في المنطقة؟ إن الإجابات الواقعية على هذه الأسئلة ستزيل الضباب بما لا يدع مجالاً للشك؛ وستؤدي بالمراقبين الموضوعيين ليس فقط إلى فهم كامل للصراع، ولكن أيضاً إلى تقديرٍ عميقٍ للسياسات والإجراءات اللازمة لإنهائه.

الاحتلال، وتقرير المصير، والقانون الدولي

لا ينبغي أن يكون ثمَّة خلاف على أن الأراضي التي استولت عليها اسرائيل في يونيو/حزيران 1967، بما فيها القدس الشرقية، هي أراضٍ محتلَّة. لقد مرَّرت عشرات من قرارات الأمم المتحدة منذ نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1967، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن المُلزمة التي دعت إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة، والتي رفضت الدولة الصهيونية بعنادٍ الامتثال لها.

في الواقع، إذا كان ثمَّة مناطق «متنازع عليها» فينبغي أن تكون الأراضي الفلسطينية التي استحوذت عليها إسرائيل في عام 1948 عبرَ حملةٍ من الإرهاب، والمجازر، والحملات العسكرية التي أسفرت عن طرد أكثر من 800 ألف فلسطينيٍ عنوةً وبطريقة غير قانونيةٍ من بيوتهم، وقراهم، ومدنهم من أجل إفساح المجال لآلاف اليهود القادمين من أوروبا وأجزاء أخرى من العالم.

وبناءً على ذلك، حَكَم قرار الأمم المتحدة رقم 194 بأنَّ «اللاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم ... ينبغي أن يُسمح لهم بذلك.» لكن هذا القرار بقى حبيس الأوراق منذ 67 عامًا. وليس أيضًا ثمَّة خلاف في القانون الدولي على أنَّ إسرائيل هي مُحتل عدواني؛ ممَّا يدعو إلى تطبيق كافة اتفاقيات جنيف ذات الصلة بما أنَّ الشعب الفلسطيني يقع تحت الاحتلال منذ أن «وقعت أرضهم تحت سلطة الجيش المعادي».

وعلاوةً على ذلك، إنَّ حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وحقه في مقاومة المحتلين بكل الوسائل أمران راسخان في القانون الدولي. في عام 1960، تبنَّى قرار الأمم المتحدة 1514 «إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المُستعمَرة». وذكر أنَّ «لجميع الشعوب الحق في تقرير المصير»، وأنَّ «إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي، وهيمنته، واستغلاله يُشكِّل إنكارًا لحقوق الإنسان الأساسية ويتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة».

وبعد عشر سنوات، اعتمدت الأمم المتحدة القرار 2625 الذي دعا الدول الأعضاء إلى دعم الشعوب المُستعمَرة أو الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في مواجهة المُستعمِرين والمُحتلِّين. وجاء قرار الأمم المتحدة رقم 3246 في عام 1974 ليؤكِّد «شرعية كفاح الشعوب في سبيل التحرُّر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية والقهر الأجنبي بكافة الوسائل المتاحة» بما في ذلك الكفاح المسلح.

وبعد أربعة أعوام أكَّد قرار الأمم المتحدة رقم 3324 بقوة على «شرعية كفاح الشعوب من أجل استقلالها، وسلامة أراضيها، ووحدتها الوطنية، والتحرُّر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة وخصوصاً الكفاح المسلح» و«أدان بشدة كل الحكومات» التي لم تعترف بـ«حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير».

أمَّا عن القدس المحتلة، فقد اعتمد مجلس الأمن في الأمم المتحدة في عام 1980 قرارين ملزمين، هما 476 و478، بأغلبية 14-0 بعد امتناع الولايات المتحدة عن التصويت دون استخدام حق الفيتو ضد أيٍ من القرارين. أدان القراران كلاهما محاولة إسرائيل تغيير «الطابع العمراني، والتكوين الديموغرافي، والهيكل المؤسسي، (و)وضع مدينة القدس الشريف». وأكَّدا أيضًا على «الضرورة المُلحة لإنهاء الاحتلال المُطوَّل للأراضي العربية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، بما فيها القدس»؛ وخاطب إسرائيل باعتبارها «القوة المُحتلَّة». واعتبر القرار أيضاً أيَّة تغييرات على مدينة القدس «انتهاكاً للقانون الدولي».

استخدام العنف، والمقاومة، وعملية السلام الخادعة

بعد حياةٍ تحت ظل الاحتلال الغاشم لما يقرب من نصف قرن دون أي احتمال لنهايته في الأفق، هبَّ الشعب الفلسطيني، وخاصة في القدس، منذ أواخر سبتمبر/أيلول في احتجاجات جماعية جديدة ضد التوغلات الإسرائيلية الأخيرة في مواقعهم المقدسة، وثاروا مرةً أخرى ضد الاحتلال المتواصل. ونتيجةً لذلك، كثَّف الجيش الإسرائيلي، بمساعدة الآلاف من المستوطنين المسلحين الذين يجوبون الضفة الغربية، استخدامهم العنف؛ مما أسفر عن أكثر من 100 قتيل، و2200 مصاب، و4000 معتقل في أقل من شهرين. استخدم الجيش الإسرائيلي والعصابات المسلحة المُتمركزة في المستوطنات بانتظامٍ مختلف الوسائل العنيفة لإجبار الفلسطينيين على الفرار إلى المنفى أو فرض الاستسلام للاحتلال، على الرغم من أنَّها وسائل محظورة بموجب القانون الدولي واتفاقيات جنيف.

وتشمل التكتيكات القاسية التي تستخدمها إسرائيل: عنف المستوطنين، والاستفزاز تحت حماية الجيش الكاملة، واستهداف الأطفال بما في ذلك الخطف والقتل، فضلًا عن القبض على الأطفال الذين لم يتجاوزوا الخامسة، وحرق الأطفال أحياءً، واستخدام العقاب الجماعي وهدم المنازل باستمرار، واستخدام أحكام سجنٍ مشدَّدة على أي فعل من أفعال المواجهة، بما في ذلك: رمي الحجارة، واقتحام المواقع الدينية المُقدَّسة، والاستهداف المتعمَّد للصحفيين الذين يتجرَّؤون على تحدي الهيمنة الاسرائيلية.

يملك الشعب الفلسطيني بمختلف حالاته، سواء تحت الاحتلال أو الحصار، أو في المنفى بسبب وقوف إسرائيل حائلاً يمنعهم من العودة إلى ديارهم، أو محرومين من حقهم في تقرير المصير، يملك حقاً مشروعاً في مقاومة الاحتلال العسكري ومظاهره، مثل الحرمان من الحرية وحقوق الإنسان، ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات الإسرائيلية وتوسعتها على أراضيه. وعلى الرغم من أنَّ معظم الفلسطينيين يختارون استخدام المقاومة السلمية باعتبارها تكتيكاً حكيماً ضد وحشية الاحتلال، فإنَّ القانون الدولي لا يحصر تكتيكات المقاومة المتاحة أمامهم في استخدام الوسائل السلمية فحسب. إنَّ القانون الدولي يُكرِّس، في جوهره، الحق في المقاومة المسلحة المشروعة، ما دامت تخضع إلى القانون الإنساني الدولي؛ فلا يمكن أن ننكر على أيِّ شخصٍ - بما في ذلك الفلسطينيين - النضال من أجل الحصول على الحرية وممارسة الحق في تقرير المصير.

وعلاوةً على ذلك، فإنَّ القانون الدولي لا يمنح أي حقٍ لسلطة الاحتلال في استخدام القوة ضد الرعايا المُحتلِّين بهدف الحفاظ على الاحتلال وإطالة أمده، بما في ذلك حق الدفاع عن النفس. باختصار، يُحرَمُ المعتدون ومغتصبو الأرض، من حيث التعريف، من الحق في استخدام القوة لإخضاع ضحاياهم. ونتيجةً لذلك، فإنَّ الهجمات الموجهة ضد أهداف عسكرية، بما في ذلك الجنود، والمستوطنين المسلَّحين، أو غيرها من أدوات الاحتلال ومؤسساته - بحسب ما ترسَّخ في القانون الدولي وبصرف النظر عن جدواها السياسية - لهي أمورٌ مشروعة؛ وأيَّ إجراء يُتخذُ ضد تلك الأدوات والمؤسسات - سلمي أو غير ذلك - لا يُمكن إدانته أو وصفه بالإرهاب.

وبالإضافة إلى ذلك، تقف الحجج الداعمة لمشروعية استخدام الكفاح المسلح ضد الاضطهاد والحرمان من الحقوق السياسية من قِبَل الأنظمة المستبدة والاستعمارية على أساس راسخ. حشد المناضل الوطني الأميركي باتريك هنري مواطنيه قبل الثورة الأميركية عام 1775 في دعوته الشهيرة «أعطني حريتي أو أعطني الموت». ورفض رمز الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ الابن السلمية في مواجهة العدوان، متشككاً فقط في أهميته التكتيكية حين قال: «لقد دفعتُ بأنَّ الجدل بشأن مسألة الدفاع عن النفس غير ذات جدوى منذ أن قال البعض إنَّ الزنوج لا ينبغي أن يدافعوا عن أنفسهم كأفرادٍ عندما يتعرَّضون إلى اعتداء».

لم يكُن السؤال قط بشأن ما إذا كان ينبغي للمرء أن يستخدم بندقيته حين يُهاجم أحدهم منزله، ولكنَّه كان عمَّا إذا كان من الحكمة - من الناحية التكتيكية - استخدام السلاح أثناء المشاركة في تظاهرة منظَّمة». وحتَّى المهاتما غاندي كان يرى أنَّ المقاومة النشطة أشرف من السلمية حين قال: «أُفضِّلُ أن تحمل الهند سلاحها من أجل الدفاع عن شرفها إذا كان البديل هو أن تقف عاجزةً لتشهد عارها أو أن تبقى فيه بلا حولٍ ولا قوة». نيلسون مانديلا أيضًا قدَّم طرحه بخصوص الأمر حين أكَّد أنَّه لجأ إلى الكفاح المُسلَّح فقط حين «أُغلق الباب أمام كافة أشكال المقاومة الأخرى»؛ ليطالب نظام الفصل العنصري بـ«ضمان حرية النشاط السياسي» للسود قبل أن يدعو رفاقه إلى تعليق الكفاح المسلَّح. وعليه، فإنَّ الجدل بشأن ما إذا كانت المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي تُقوي قضية حصول الفلسطينيين على العدالة ليس مسألة شرعية، بل مسألة تقييمٍ لسلامة الاستراتيجية السياسية في ظل عدم التوازن بين القوة العسكرية التي يملكها الإسرائيليون وبين الدعم الشعبي الهائل الذي تقدمه شعوب العالم لنضال الفلسطينيين العادل.

ومع ذلك، فإن حقيقة الصراع تكشف أنَّ الشعب الفلسطيني قد بات محبوساً بشكل كبير في الطرف المُتلقي للعنف الإسرائيلي الوحشي والعدوان منذ عام 1948. وباستثناء حرب 1973 التي بدأتها مصر وسوريا لاستعادة الأراضي التي خسراها في حرب 1967، بدأت كل الحروب العربية الإسرائيلية في العقود السبعة الماضية (حروب 48، و56، و67، و78، و82، و2002، إلخ) من الجانب الإسرائيلي؛ لتسفر عن مزيدٍ من البؤس للفلسطينيين باقتلاعهم من أراضيهم.

ومع ذلك، شنَّت إسرائيل منذ عام 2008 ثلاث حروبٍ وحشيةٍ ضد قطاع غزة كانت لها عواقب وخيمة. في الحرب التي دارت في عامي 2008 و2009، قتلت إسرائيل 1417 فلسطينياً، وفقدت 13 شخصًا من بينهم 9 جنود. أمَّا في حرب 2012، فقد قتلت إسرائيل 167 فلسطينياً وخسرت 6 بينهم اثنين من الجنود. وفي حرب عام 2014، قتلت إسرائيل 2104 فلسطينياً، من بينهم 539 طفلاً، وشرَّدت 475 ألف شخص، ودمَّرت 17500 منزل، بالإضافة إلى تدمير 244 مدرسة وعشرات المستشفيات والمساجد. في هذه الحرب خسرت إسرائيل 72 شخصاً بينهم 66 جندياً. باختصار، منذ أواخر عام 2008 قتلت إسرائيل 3688 فلسطينياً في ثلاث حروبٍ مُعلنة بينما خسرت 91 شخصاً بينهم 77 جندياً.

وممَّا يدعو إلى العار أنَّ الاستهداف المتعمد للأطفال الفلسطينيين قد جرى توثيقه بوضوح بعد مقتل أكثر من ألفي طفلٍ بأيادٍ إسرائيلية منذ عام 2000. لقد جرى التحقيق في استخدام إسرائيل العنف المكثَّف عمداً ضد الفلسطينيين، خصوصًا في قطاع غزة - الذي ظلَّ تحت حصارٍ خانقٍ منذ عام 2007- وتأكَّد تشكيلها جرائم حرب، وندَّدت بها الأمم المتحدة في تقرير غولدستون، فضلاً عن غيرها من جماعات حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية و«هيومن رايتس ووتش».

فتحت العملية التي أنتجت اتفاقية أوسلو 1993 الباب أمام وعود لإنهاء عقود من الاحتلال الإسرائيلي. ولكن تلك العملية كانت مُزوَّرة من البداية كما اعترف العديد من المشاركين فيها أخيراً. كانت أوسلو خدعةً إسرائيلية لوقف الانتفاضة الفلسطينية الأولى؛ فتعطي إسرائيل فرصةً كانت في أمس الحاجة إليها لالتقاط الأنفاس واستعمار الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بشكل دائم. عُقِدت اتفاقية أوسلو بميزان قوة مُختل؛ يملك فيه جانبٌ واحدٌ كل الأوراق دون أن يُقدِّم أيَّة تنازلات حقيقية، ويُجرَّد فيه الجانب الأضعف بكثير من كل ورقةٍ يمكنه المساومة بها. قفز عدد المستوطنات خلال هذه الفترة في الضفة الغربية إلى أكثر من الضعف وارتفع عدد المستوطنين بأكثر من سبعة أضعاف ليصل إلى أكثر من 600 ألف مستوطنٍ بما في ذلك مستوطني القدس الشرقية.

لم يكُن ينقُص العالم إلَّا اعتراف بنيامين نتنياهو نفسه بأنَّ إسرائيل ليس لديها نية لسحب احتلالها أو إنهائه. وبعد أن أمضى فترته الأولى رئيساً للوزراء، أقرَّ نتنياهو (كما هو موضح هنا في شريط فيديو مُسرَّب) أثناء زيارته إلى مستعمرة في عام 2001 بنيته الحقيقية في الاستيلاء على 98 % من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية ووقف عملية أوسلو الاحتيالية. تحدَّث نتنياهو بصراحةٍ مع مجموعة من المستوطنين حول رؤيته الاستراتيجية، والخطط، والتكتيكات التي ينوي تنفيذها ظناً منه بأنَّ الكاميرا كانت متوقفة عن التصوير.

فبالحديث عن رؤيته، أكَّد نتنياهو للمستوطنين أنَ «المستوطنات هنا. إنَّها في كل مكان.» وقال: «لقد أوقفت تنفيذ اتفاقات أوسلو. من الأفضل أن تعطي اثنين 2% بدلاً من أن تعطي 100%. لقد تنازلتم عن 2% من الأرض لكننا أوقفنا الانسحاب.»

وأضاف في وقت لاحق: «لدي تفسيراتي الخاصة للاتفاقيات التي نوقعها بطريقة تسمح لي بوقف سباق العودة إلى حدود 1967.». أمَّا بالنسبة إلى تكتيكات نتنياهو، فقد اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي بتعمُّد التسبُّب في الكثير من الألم للفلسطينيين بطريقة لا تترك أمامهم خياراً إلا الاستسلام للاحتلال لا مقاومته.

وقال: «الأمر الرئيسي هو ضربهم ليس مرةً واحدةً بل عدة مرات بشكلٍ مؤلمٍ يجعل الثمن الذي سيدفعونه غير محتملٍ؛ ممَّا يسبب لهم الخوف من أنَّ كل شيءٍ على وشك الانهيار.» وعندما قوبل بالاعتراض الذي يقول إن هذه الاستراتيجية قد تدفع العالم للنظر إلى إسرائيل باعتبارها البادئة بالعدوان قال باستخفاف: «فليقولوا ما يشاؤون.» وألمح نتنياهو أيضًا إلى عدم شعوره بالقلق إزاء الضغوط الأميركية.

فعلى العكس من ذلك، أكَّد أنَّه يستطيع التلاعب بسهولة بالدولة صاحبة الفضل الأكبر على إسرائيل حين قال: «يمكنك المناورة مع أميركا بسهولة ودفعها إلى الاتجاه الصحيح. لم أكن خائفاً من مواجهة كلينتون. لم أكن خائفاً من مواجهة الامم المتحدة.» وعلى الرغم من أنَّ زعماء العالم ينظرون إلى نتنياهو بوصفه «كاذباً» «لا يُمكن تحمُّله» كما يظهر في هذه المراسلة بين الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وباراك أوباما، فإن زعيماً غربياً واحداً لم يقف في وجه إسرائيل، حتَّى بعد أن ذكر عضو بالبرلمان البريطاني أنَّ 70 % من الأوروبيين يعتبرون إسرائيل «خطراً على السلام العالمي». لكن المواقف الإسرائيلية المُعرقلة لعملية السلام والسياسات التوسعية التي يتبنَّاها القادة الإسرائيليون لا تقتصر على ما تعدُّه إسرائيل حقًا لها؛ فقد كان زعيم حزب العمل السابق إيهود باراك مُصراً بشدة في محادثات كامب ديفيد في عام 2000 على عدم الانسحاب من الضفة الغربية والقدس وعدم تفكيك المستوطنات.

على مدى عقود انتظر العالم إسرائيل أن تُقرر مصيرها عن طريق اختيار اثنين من أصل ثلاثة عناصر تعريف: طابعها اليهودي، وادعائها الديمقراطية، وأراضي ما يُسمَّى بـ«إسرائيل الكبرى». إذا أرادت إسرائيل الاحتفاظ بأغلبية يهودية مع ادعاء الديمقراطية، فكان عليها أن تنسحب من الأراضي التي احتلَّتها في عام 1967. وإذا ما أصرَّت على ضم الأراضي وإقامة دولة ديمقراطية كان سيتوجَّب عليها دمج السُكَّان العرب والتخلي عن التمييز الاستثنائي لليهود في دولة علمانية. ولكن، مع الأسف، جاءت خيارات إسرائيل متسقة مع طبيعتها الصهيونية؛ فقد أصرَّت على أن تكون دولةً يهودية تُمارس سلطاتها على كامل فلسطين التاريخية لتتحوَّل بالتبعية إلى دولة فصل عنصري بشكل واضح.

الصهيونية السياسة وحقيقة دولة إسرائيل

أثارت الصهيونية السياسية المشاعر والعواطف الشديدة على طرفي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لأكثر من قرنٍ من الزمان، بين أنصارها المُتحمسين وكذلك نُقادها وضحاياها التُعساء. يُمجد الصهاينة مشروعهم باعتباره حركة تحرر وطني للشعب اليهودي، في الوقت الذي يدين المعارضون هذا المشروع باعتباره قائمًا على أيديولوجية عنصرية مارست التطهير العرقي، وأضفت الطابع المؤسسي على التمييز العنصري والديني، وارتكبت جرائم حرب لتحقيق أهدافها.

في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1975 تبنَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3379 الذي اعتبر الصهيونية «شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري»، ولكن ألغي القرار في وقت لاحق بعد 16 عاماً تحت ضغوط هائلة من الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى في أعقاب حرب الخليج الأولى في عام 1991. عادةً ما لا تصل إلى الجمهور معلومات موضوعية بشأن الطبيعة الحقيقية للصهيونية السياسية ودولتها المُعلنة. ولا تنقل كبرى وسائل الإعلام - للأسف - إلا نادرًا هذا الجانب من الصراع، ممَّا يُسهم في إرباك الرأي العام وسخطه.

سنَّت إسرائيل منذ إنشائها في عام 1948 قوانين ونفَّذت سياسات أضفت الطابع المؤسسي على التمييز ضد الأقلية الفلسطينية العربية. وضعت إسرائيل في أعقاب عدوان عام 1967 نظام احتلال عسكري حرم ملايين الفلسطينيين حقوق الإنسان والحقوق المدنية الأساسية رغم أنَّ عددهم الآن يتجاوز عدد اليهود الإسرائيليين في أراضي فلسطين التاريخية. وبالإضافة إلى ذلك، رفضت إسرائيل بعنادٍ، في تحدٍ للمجتمع الدولي، السماح لأحفاد الفلسطينيين ممَّن طردتهم في 1948 و1967 بالعودة إلى منازلهم، في حين يُسمح للملايين من الناس من جنسيات أخرى أن يصيروا مواطنين في دولة إسرائيل الدولة بمجرَّد وصولهم لأنَّهم ببساطة من اليهود.

يزعم قادة الصهاينة، من بن غوريون إلى نتانياهو، أنَّ إسرائيل دولة ديمقراطية مُماثلة لغيرها من الديمقراطيات الليبرالية الغربية. ولكن ربَّما تكون أفضل طريقة لاختبار هذا الادعاء وتوضيح طبيعة الدولة الصهيونية الحديثة هي القياس المُقارن، الذي يمكن الرجوع إلى مثالٍ مشابه له في كتاب المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند).

ماذا لو أعلنت إحدى الدول الغربية التي تزعم أنها ديمقراطية، مثل الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، تغيير دستورها ونظامها رسمياً لتصبح «دولة البيض الأنجلوسكسونيين البروتستانت»؟ وبفرض أنَّ مواطني تلك الدولة ذوي الأصول الأفريقية، واللاتينية، والآسيوية، والكاثوليكية، والمواطنين المسلمين واليهود وكذلك الأقليات سيحتفظون بالحق في التصويت، وتولِّي المناصب السياسية، والتمتُّع ببعض الحقوق المدنية والاجتماعية، فإنَّه سيتوجَّب عليهم أن يمتثلوا إلى الطابع الحصري لدولة البيض الأنجلوساكسونيين البروتستانت.

وعلاوةً على ذلك، لن يُسمح لمواطن لا ينتمي إلى طبقة البيض الأنجلوساكسونيين البروتستانت بشراء أو بيع أي أرض، وستُفرض قوانين دستورية دائمة من شأنها أن تمنع أي من أعضاء تلك الطبقة من بيع أيَّة ممتلكات لمن ينتمون إلى الأعراق أو الديانات الأخرى في الدولة. سيُمرِّر الكونغرس أو مجلس النواب قوانين من شأنها أيضاً أن تمنع أي أبيض أنجلوسكسوني بروتستانتي من الزواج من خارج الطبقة الاجتماعية، وإذا تمَّ أي زواج «غير قانوني» من هذا النوع فلن يٌعترف به من قِبَل الدولة. أمَّا بالنسبة إلى الهجرة، فإن من ينتمون إلى الطبقة المذكورة فقط من جميع أنحاء العالم سيكونون محل ترحيب دون فرض أيًّة قيود على البيض الأنجلوسكسونيين البروتستانت من جميع أنحاء العالم (دون أيٍ من الأعراق الأخرى)؛ فبإمكانهم التقدُّم للحصول على جنسية البلاد فور وصولهم إلى أراضيها مع التمتُّع بكافة المزايا الاقتصادية والاجتماعية التي تمنحها الدولة. ليس هذا فحسب، بل إنَّ معظم الأقليات الموجودة في الدولة ستتعرَّض إلى بعض إجراءات «الأمن» من أجل إفساح المجال للبيض الأنجلوسكسونيين البروتستانت.

واستكمالاً لهذه الإجراءات، ستُنشأ مستوطنات ومستعمرات في أنحاء كثيرة في البلاد فقط للمستوطنين الجدد من الطائفة المُميَّزة؛ وبالتالي يجب أن تُقيَّد حُرية بعض السكان من الطوائف الأخرى في التنقُّل، أو حتى نقلهم قسراً من أماكنهم. في هذه المستوطنات الجديدة ستُخصص الدولة طرقاً، ومدارس، وعيادات صحية، وحدائق وحمامات سباحة فقط للبيض الأنجلوسكسونيين البروتستانت دون غيرهم. سيُستحدث أيضًا مستويان منفصلان لكل خدمات ومهام الدولة: نظام الرعاية الصحية، ونظام التعليم، ونظام العدالة الجنائية، ونظام الرعاية الاجتماعية.

في هذا النظام المزدوج، على سبيل المثال، إذا اعتدى مواطن من الطائفة المميَّزة على مواطنٍ من غيرها أو قتله فستٌفرض عليه غرامة ضئيلة أو حكماً مُخفَّفاً لن يتجاوز بضع سنوات، في حين إذا كان القتيل من الطائفة المميَّزة والقاتل من غيرها، حتى عن طريق الخطأ، فسيُحكم عليه بالسجن مدى الحياة عقوبةً مُشدَّدة أو إجبارية. في ظل هذا النظام، حيث لا ينضم إلى جهاز الشرطة إلا أعضاء الطائفة المُميَّزة، تُجيز المحكمة العليا بشكل روتيني استخدام التعذيب ضد أيٍ من أفراد الطوائف الأخرى وتترُك ذلك خاضعاً لتقدير رجال الأمن.

من شأن هذا النظام أن يكون فجَّ العنصرية، وواضح الإجرام، ومكروه على الصعيد العالمي لدرجة أنَّ أحداً لن يقف موقف المتفرج أو المدافع عنه. ولكن هل يمكن لهذا النظام أن يوجد فعلاً أو أن يكون مقبولاً في عالمنا اليوم؟ أدرك أنَّ بعض الناس قد يقولون إنَّ العديد من هذه الممارسات قد وقعت فعلاً في الماضي ضد شرائح معينة من السُكَّان في بعض المجتمعات الغربية، ولكن أي حكومة تلك التي ستجرؤ اليوم على تبني هذا النموذج أو الدفاع عن سياساته؟

ومع ذلك، وبسبب الطبيعة الصهيونية للدولة الإسرائيلية، يعيش الشعب الفلسطيني بدرجاتٍ متفاوتةٍ كافة مظاهر هذا المثال السخيف واقعاً يومياً، سواء كانوا من مواطني الدولة ولو بالاسم، أو يعيشون تحت الاحتلال أو الحصار، أو كانوا ممنوعين لعقودٍ من العودة إلى بيوتهم، ومدنهم، وقراهم. إنَّ هذا النظام لا يجب أن يكون مُداناً فحسب، بل إن إنساناً كريماً أو دولةً تحترم سيادة القانون لا يجب أن يقترن اسمها باسمه أو أن تتصالح مع وجوده.

لقد أدان مثقفون يهود بارزون الطبيعة العنصرية للدولة الصهيونية منذ نشأتها الأولى. كتب ألبرت أينشتاين وحنَّا أرندت في عام 1948 ليدينا قادة إسرائيل الصهاينة الذين «بشَّروا علنًا بعقيدة الدولة الفاشية». واعتبر العالم المُفكِّر الإسرائيلي إسرائيل شاحاك دولته «دولةً عنصريةً بالمعنى الكامل لهذا المصطلح، حيث يعاني الفلسطينيون من التمييز بطريقة دائمة، وراسخة في القانون الإسرائيلي، وفي أهم مجالات الحياة، فقط بسبب أصلهم». ويعتبر المُفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي الإجراءات الإسرائيلية في فلسطين «أسوأ بكثير من نظام الفصل العنصري» من أي وقت مضى في جنوب أفريقيا. ويقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه إنَّ «الهدف الصهيوني كان، من البداية، الاستحواذ على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من فلسطين مع الاحتفاظ بأقل عددٍ ممكنٍ من الفلسطينيين»؛ في حين يعتقد المؤرخ الأميركي هوارد زِن أنَّ «الصهيونية خطأ».

أمَّا الأكاديمي المؤلِّف الأميركي نورمان فنكلستين فقد اعترض علناً على طبيعة الدولة الصهيونية وأدان استغلالها للمحرقة النازية لشرعنة احتلال فلسطين. ووصف المؤرخ البريطاني طوني جودت إسرائيل بـ« بسبب طبيعتها الحصرية في مكوُّنها اليهودي بالمقارنة مع «المواطنين غير اليهود» المقيمين فيها. ووصف المبعوث الأممي لفلسطين المحتلَّة سابقاً البروفيسور ريتشارد فالك السياسات الإسرائيلية بأنَّها «جريمة ضد الإنسانية»؛ وقارن معاملة إسرائيل للفلسطينيين بالمعاملة التي تلقَّاها اليهود إبَّان العهد النازي قائلاً: «أعتقدُ أنَّ الفلسطينيين الآن هم أكثر شعوب الأرض معاناة.» ومنذ وقت قريب للغاية، طرح كبار الأكاديميين اليهود الأميركيين سؤالاً يقول: «هل يمكننا الاستمرار في تبنِّي قضية دولة تحرم شعباً آخر من حقوقه الأساسية باستمرار؟» وجاء ردهم بدعوة مُحدَّدة لمقاطعة الدولة الصهيونية مقاطعةً تامَّة.

ليس هذا فحسب، فالسياسيون الإسرائيليون والزعماء الدينيون لا ينفكون عن استخدام الخطاب العنصري لاستمالة ناخبيهم وتوضيح سياساتهم. كتب رئيس الوزراء نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة في مارس/أذار تغريدةً على موقع «تويتر» للجمهور الإسرائيلي يقول فيها: «إنَّ الحكومة اليمينية في خطر. الناخبون العرب يخرجون بأعداد كبيرة إلى صناديق الاقتراع.» ودعا وزير الخارجية السابق أفيدور ليبرمان إلى تطهيرٍ عرقيٍ جديدٍ من خلال «نقل» المواطنين الفلسطينيين من الدولة.

واعتبر أحد أبرز الحاخامات إنَّ «قتل الفلسطينيين واجب ديني»، في حين أعلن آخر أنَّ «قتلهم ليس مندوباً فحسب، وإنمَّا هو واجبٌ دينيٌ أن تضرب رأس الفلسطيني بالأرض حتَّى يلفظ أنفاسه الأخيرة». وأفتى رئيس اليهود الشرقيين (السفارديم) السابق الحاخام مردخاي إلياهو، أحد أبرز الزعماء الدينيين في إسرائيل، بأنَّه «ليس ثمَّة حظر أخلاقي مطلقاً على القتل العشوائي للمدنيين خلال هجوم عسكري مُوسَّع مُحتمل على قطاع غزة.»

تفشَّت العنصرية في إسرائيل إلى الحد الذي جعل مستوطناً يهودياً يطعن يهودياً آخر، ومستوطناً يقتل زميله المستوطن اليهودي لا لسببٍ إلَّا أنَّ الضحايا كانوا من ذوي الملامح العربية دون أن يُمثِّلوا أي تهديد لمن اعتدوا عليهم. إنَّها عنصريةٌ منتشرة حتى بين سُكَّان إسرائيل؛ فقد أشار الصحافي ماكس بلومنتال - في دراسته لاتجاهات المجتمع الإسرائيلي نحو الفلسطينيين - إلى أنَّ الجماعات والشخصيات التي تأسر قلوب المجتمع الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية يتشابهون نفسياً وفكرياً بشكلٍ ملحوظ مع اليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأميركية والحركات الفاشية الجديدة في جميع أنحاء أوروبا.

وباختصار، أثبتت الأيديولوجية الصهيونية السياسية، كما تجلَّى في داخل دولة إسرائيل، بما لا يدع مجالاً للشك أنَّها تُمثِّل بقايا حقبة تفتقر تمامًا إلى السلوك المتحضر أو أيَّة دلائل تُدعم مزاعمها بكون دولة ديمقراطية؛ فهي تتميز برؤية إقصائية وسياسات متواصلة لاحتلال الأرض وإخضاع شعبها. ولذلك، فإنَّ أي مناقشة، أو تغطية إعلامية، أو تحليل، أو مناقشة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يحاول الالتفاف حول طبيعة الدولة الإسرائيلية وفِكرها ليست خدعة ومحاولة تفتقر إلى المصداقية فحسب، بل تُسهم أيضاً في تعميق الصراع، ومعاناة الضحايا المُستمرَّة، وتعزيز وهم إمكانية التوصُّل إلى نتيجة عادلة وسلمية.