خبر المُقدّس الوحيد عند الكيان الصهيوني هو الإنسان وليس الأرض

الساعة 07:34 ص|10 ديسمبر 2015

فلسطين اليوم

بقلم د. وليد القططي

في نقاش مع بعض الأصدقاء تناول الأهداف التي يمكن أن تحققها الانتفاضة الحالية فيما لو استمرت , وكان رأيي أنه لو قُدّر لهذه الانتفاضة أن تستمر وتتصاعد باتجاه جعل الاحتلال باهظ الثمن بشرياً ومادياً وأخلاقياً , وتحويل الاستيطان إلى مشروع خاسر ومُكلّف أمنياً واقتصادياً , فإن الكيان الصهيوني في نهاية المطاف سيكون أمام مأزق وجودي يضطر فيه إلى الانسحاب من الضفة الغربية وتفكيك المستوطنات حفاظاً على وجوده داخل حدود فلسطين المحتلة عام 1948 . وقد اعترض هؤلاء الأصدقاء على هذا الرأي رافضين لإمكانية انسحاب الكيان الصهيوني بهذه الطريقة مستندين في ذلك لأهمية الضفة الغربية من الناحيتين الدينية والاستراتيجية للكيان الصهيوني , باعتبارها المكان الذي أُقيمت فيه دولتا اليهود ( يهودا والسامرة ) سابقا , ولأنها تحتوي على الرموز الدينية اليهودية  كهيكل سليمان والحرم الإبراهيمي وقبر يوسف وقبة راحيل وغيرها , وهي مركز أرض الميعاد التي أعطاها الرب لهم وجعلها حكراً على نسلهم حب زعمهم .

هذه الأهمية لــ ( أرض إسرائيل ) التي تضفي عليها الحركة الصهيونية صفة القداسة مستندة إلى التوراة هي لأغراض استعمارية بالدرجة الأولى , فقد سبق أن ناقشت الحركة الصهيونية مقترحات غربية لجعل مكان الدولة اليهودية في دول أخرى غير فلسطين كالأرجنتين وأوغندا ومدغشقر ووسط روسيا وسيناء , غير أنهم اختاروا فلسطين لبُعدها الديني الذي يحرّك مشاعر اليهود ويدفعهم للهجرة والاستيطان فيها , فالتقت بذلك أهداف المشروع الصهيوني مع أهداف المشروع الغربي الذي كانت رأس حربته بريطانيا والتي أخذت على عاتقها تنفيذ المشروع الصهيوني باعتبارها الدولة التي تحتل فلسطين ليصبح الكيان الصهيوني ركيزة للمشروع الغربي في المنطقتين العربية والإسلامية , وليلتقي في فلسطين المشروعين الاستعماريين الصهيوني والغربي اللذان يقف خلفهما اليهودية الصهيونية والمسيحية الصهيونية , ليصبح البُعد الديني موّظفاً لخدمة البُعد الاستعماري , وفي نفس الوقت يتم توظيف البُعد الاستعماري لخدمة البُعد الديني اليهودي والمسيحي , فنجد أنفسنا أمام علاقة وظيفية تبادلية لا يُعرف فيها المقدّس  من غير المقدّس .

وهذه القداسة لأرض الميعاد ليست مطلقة لدى الكيان الصهيوني ,فهي تخضع لعوامل واعتبارات كثيرة في مقدمتها الحفاظ على الوجود اليهودي ككيان والحفاظ على حياة الإنسان اليهودي كأفراد , فلقد سبق أن زعموا أن سيناء هي جزء من أرض الميعاد التي وعدهم الله بها أو على الأقل من العريش حتى جبل الشيخ كما ورد في إحدى أسفار التوراة , ولذلك أقاموا بها المستوطنات بعد احتلالها عام 1967 م وأكبرها بلدة ( ياميت ) التي أخلوها ودمروها بعد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر مقابل إخراج مصر من الصراع لحماية الوجود الصهيوني في فلسطين , وسبق أن انسحبوا من قطاع غزة ودمروا المشروع الاستيطاني فيها عام 2005 تحت ضغط المقاومة التي أفشلت المشروع الاستيطاني فيها مع أن قطاع غزة جزء لا يتجزأ من ( أرض الميعاد ) حسب زعمهم  مقابل تعزيز مشروع الاستيطان في الضفة وبقية فلسطين , وسبق ان انسحبوا من جنوب لبنان عام 2000 تحت ضغط المقاومة مع أن هناك من زعم منهم أنها جزء من أرض إسرائيل التوراتية التي تمتد من ( صيدون ) أي صيدا حتى وادي العريش , ولو استقر لهم الأمر هناك لأقاموا المستوطنات فيها , فكل هذه الأمثلة تعني أن قدسية الأرض عند الكيان الصهيوني مجرد رمال متحركة تخضع للمصالح الاستراتيجية والوجودية له .

فقدسية الأرض عند الكيان الصهيوني ليست من الثوابت التي لا يمكن تغييرها إذا ما وجدت اعتبارات أخرى تهدد الوجود اليهودي الجماعي والفردي , فقدسية حياة الانسان اليهودي مُقدَمة على قُدسّية الأرض اليهودية , بل تكاد تكون الشيء المقدّس الوحيد لهم , فالإنسان  اليهودي حسب التلمود يعتبر عند الله أفضل من الملائكة لأن اليهود جزء من الله مثلما الابن جزء من أبيه فهم أبناء الله وأحباؤه وهم شعب الله المختار من بين كل الشعوب ليكون شعب الرب .

وحبهم الشديد للحياة وحرصهم عليها بأي ثمن يؤكد ذلك , بل إن حرصهم على الحياة مهما كانت ذليلة هو ديدنهم عبر التاريخ , فقد قال من خرج منهم من مصر مع موسى – عليه السلام – حينما اقترب  فرعون وجيشه  من إدراكهم « خير لنا من أن نخدم المصريين على أن نموت في البرية » كما ورد في التوراة ولذلك وصفهم الله تعالى في القرآن الكريم بأنهم أحرص الناس على حياة « وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ » أي حياة , وكذلك رفضهم للقتال مع موسى – عليه السلام – خوفاً من الموت وقولهم له « فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ » . ولعل كلام أحد آباء الجنود الصهاينة الذي هرب من حراسة بوابة الموقع الذي يخدم فيه يلخص ذلك « أريد ابني حياَ جباناَ خير من أن يكون ميتاَ بطلاَ » .

وتأكيداً لقدسية حياة الانسان اليهودي وتقديمها على قُدسّية الأرض سبق وان أصدر الحاخام العنصري المتطرف (عوفاديا يوسف ) زعيم حركة شاس والحاخام الأسبق لليهود الشرقيين فتوى في هذا المعنى قال فيها « إنه اذا اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أنه سيحدث سلام حقيقي بيننا وبين جيراننا العرب إذا ما أُعيدت لهم الأرض , وفي حين يوجد خطر نشوب حرب إذا لم تُعد هذه الأرض فيجب إعادة الأرض لهم , فالحفاظ على حياة الانسان يتقدم على أولوية الاحتفاظ بالأرض »  فهذه الفتوى وإن لم تلق تأييداً من معظم الحاخامات الصهاينة إلا أنها من الناحية العملية هي السائدة في الممارسة السياسية الاستراتيجية للكيان الصهيوني التي من الممكن أن تتكرر في ظروف مماثلة يتم فيها  تقديم أولوية الوجود على الحدود .