خبر النكبة السورية-هآرتس

الساعة 09:21 ص|07 نوفمبر 2015

فلسطين اليوم

بقلم: شلومو أفنري

(المضمون: مخزون الشباب السوري المثقف والميسور لم يتمكن من القتال في سبيل بديل عن الخيارين القمعيين للاسد من جهة وداعش من جهة اخرى. هذا هو السبب للكارثة التي تحل بسوريا - المصدر).

الصور الكارثية تمزيق نياط القلب: جموع من الناس يهربون من وادي القتل السوري ويشقون طريقهم في الحقول نحو حدود تكون احيانا مغلقة في وجوههم. يكتظون في قوارب متهالكة يفترض بها أن تنقلهم الى شاطيء الامان، يتجمعون في محطات القطار. اوروبا التي على مدى سنوات تعاطت مع الحرب الاهلية في سوريا كأمر يجري في الجانب المظلم من القمر، تكتشف بان الاجراس تقرع لها ايضا: قصور الصمت لديها يهدد بتقويض انغلاقها على نفسها. فانعدام الوسيلة يميز سياسة الخارجية للرئيس الامريكي براك اوباما، الذي رسم بهرائه خطوطا حمراء اذا ما استخدم الرئيس السوري بشار الاسد السلاح الكيميائي، وبعد ذلك تراجع وشكك بذلك بمصداقية الولايات المتحدة كقوة عظمى. ونصب هذا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مكانة المخرج والمدخل في موضوع الحل المحتمل في سوريا.

 

ولكن هذه الجوانب الانسانية والسياسية لا تتعلق بأسس المأساة الجارية في الدولة التي حتى وقت اخير مضى كانت من أبرز الدول في الشرق الاوسط والان هي تتفكك الى عناصرها الدينية والعرقية. سكانها يتمزقون بين نظام الاسد الدموي والوحشي والقمعي وبين حركة دينية متزمتة تستخدم تكنولوجيا حديثة كي تنقل للعالم رسائل مخيفة تذكر بالقرون الوسطى.

 

هذه هي النكبة السورية.

 

ستكون لهذه النكبة آثار بعيدة المدى على صورة الشرق الاوسط، وليس كلها ممكنة التوقع مسبقا. صحيح أن مصر، أقوى واكبر الدول العربية، هي التي كانت الدولة المركزية في العالم العربي، ولكن سوريا كانت دوما عاملا مثيرا ومتصدرا في الحركة القومية العربية. في سوريا وفي لبنان، اخيها غير الشقيق، برزت شرارات الحركة القومية العربية في اواخر القرن التاسع عشر. في اعقاب الثورة العربية في الحرب العالمية الاولى، كان يخيل للحظة ان مملكة عموم عربية بقيادة فيصل، ابن الشريف حسين من مكة، ستقوم في دمشق وتؤدي الى تكتل قومي لعموم العرب.

 

ميشيل عفلق، رجل دمشق ومؤسس حزب البعث، سعى الى منح القومية العربية العامة، التي تتغلب على فوارق الدين والطائفة، اساسا ايديولوجيا يدمج القومية والاشتراكية وترافقت معه احيانا ايضا اصداء شبه فاشية؛ ونظاما البعث في دمشق وفي بغداد، رغم العداء الذي نشأ بينهما على مدى السنين، كانا يريان في نفسيهما نواة الوحدة العربية.

 

مفكرون سوريون، متأثرون بالحركات القومية في اوروبا، رأوا في سوريا الشمالية بروسيا وسبويا الشماليتين هما ايضا، واللتان كانتا اساس وحدة المانيا وايطاليا. من هنا وحتى اعتبار الاسد الاب في نظر مؤيديه كبسمارك العرب، كانت المسافة قصيرة. حقيقة أن دمشق كانت عاصمة خلافة الامويين منحتها هالة تاريخية محوطة بالاساطير والرموز، ورغم طابعه العلماني، استمد نظام البعث الشرعية من الذاكرة الاسلامية.

 

الى أين اختفى كل هذا؟ من ينظر الى اللاجئين السوريين الذين يتدفقون الان نحو اوروبا يلاحظ أن معظمهم شباب من الطبقة الوسطى، كما يشهد لباسهم وحقيقة ان بوسعهم ان يدفعوا الاف الدولارات للمهربين الذين جاءوا بهم الى اوروبا. ويتجه الاهتمام الاعلامي بشكل طبيعي اليهم، ولكن معظم اللاجئين السوريين هم معدومون كل شيء وليس في وسعهم أن يجندوا المبالغ الطائلة اللازمة لتمويل رحلة العذاب الى اوروبا.

 

أما الفقراء والمساكين حقا فيكتظون في مخيمات اللاجئين في تركيا (مليوني نسمة)، في لبنان (1.5 مليون حسب تقديرات غير رسمية) وفي الاردن (نحو 700 الف). وحسب معطيات وكالة الامم المتحدة للاجئين (UNHCR)، فان نحو 5 مليون سوري نزحوا من منازلهم وهم لاجئون في بلادهم. نحو ربع مليون سوري، معظمهم مدنيون، قتلوا في الحرب. هذه المعطيات قاسية، ولكنها بعيدة عن الاهتمام الدولي لان هؤلاء اللاجئين اقل قدرة على الوصول الى كاميرات التلفزيون.

 

ان اللاجئين الشباب الذين يتدفقون الى اوروبا هم المفتاح للتدهور الفظيع في سوريا نفسها. فسكان سوريا قبل الحرب الاهلية كان يبلغ عددهم اكثر من 17 مليون نسمة، ومن الصعب الا نتساءل كيف حصل أنه في دولة مع هذا العد الكبير من السكان، لا يوجد سوى جهتين قويتين: قوات الاسد من جهة، وقوات داعش من جهة اخرى. كيف لم ينشأ بين سكان من 17 مليون نسمة قوى معارضة فاعلة، سواء للنظام القمعي أم لداعش، ولماذا لم تنجح قوى المعارضة المعتدلة (ويوجد كهذه) في تجنيد عشرات الاف المقاتلين الذين يتمكنون من ايجاد بديل لهاتين الجهتين؟

 

مخزون القوى هذا، كان يمكنه لو انه تحقق، ان يعرض بديلا للخيارين الاجراميين اللذين يقاتلان الواحد الاخر في سوريا. هذا لم يتحقق لان الاسس الاجتماعية التي كانت قادرة على ان تشارك فيه قررت أن تهرب، اذا كان مممكنا الى اوروبا. هذا هو السبب الحقيقي للنكبة السورية.

 

لا يحق لاحد أن يحكم على الناس الشباب، وبعضهم ذوو عائلات، ممن قرروا الا يقاتلوا في سبيل اولادهم بل أن يسعوا الى ملجأ آمن، بعيدا عن وطنهم النازف. ولكن النتيجة هي أنه لم يتبقَ في الدولة المخزون البشري الذي كان يمكنه أن يشكل اساسا لسوريا ديمقراطية، ليبرالية ومتسامحة نسبيا.

 

ان الرؤيا الايديولوجية للهوية السورية في أنها جزء لا يتجزأ من العالم العربي، تفككت. واولئك الذين كانوا مستعدين لان يقاتلوا، فعلوا ذلك في اطار الميليشيات القبلية، الدينية والعرقية.

 

وبضغط الاحداث يتبين أن الهوية السورية لم تعد قائمة. يوجد سنة وعلويون، مسيحيون واكراد، شيعة ويزيديين، وكل يده تطال غيره. واستعارة للغة السياسية العربية، فان « الشعب السوري الاصيل لم يعد ببساطة قائما، وليس هناك من هو مستعد لان يكافح في سبيله. وحتى الاسد اضطر لان يعتمد على مقاتلي حزب الله من لبنان وعلى الحرس الثوري الايراني، وداعش يجند مؤمنين سُنة من كل العالم. سوريا، عرش القومية العربية، تآكلت بين هذه القوى.

 

يمكن أن نجد تشبيهات واضحة بين البعد الاجتماعي للنكبة السورية وما حصل للفلسطينيين في 1948 مثلما أظهر د. ايتمار رداي في كتابه »بين مدينتين – يافا والقدس في 1947/1948« . عندما تدهور الوضع الامني في البلاد في اواخر عهد الانتداب، هربت البرجوازية الفلسطينية الميسورة والمثقفة في يافا والقدس (وحيفا ايضا) في معظمها الى مصر ولبنان. اما معظم القتال فخاضه متطوعون (ومرتزقة) من الدول المجاورة، ممن لم يكن دافعهم للتضحية كبيرا على نحو خاص. وعندما لا يكون العمود الفقري للمجتمع – الطبقة الوسطى، المثقفة والميسورة – مستعدة لان تقاتل في سبيل وجوده ( »الدفاع عن الوطن« )، فانه لا يكون قادرا على البقاء.

 

في »فلسفة التاريخ" تساءل هيغل عن جذور افول هبوليس اليونانية الكلاسيكية. برأيه حصل هذا عندما لم يعد المواطنون مستعدين للقتال في سبيل مدينتهم، وفضلوا الاعتماد على المرتزقة وفداء أنفسهم بفدية من الخدمة العسكرية، التي كانت تاريخيا رمز المشاركة المدنية. ودون الحكم على اولئك الشباب السوريين الذين يفضلون ظروف دول الرفاه في اوروبا على الاستعداد للقتال في سبيل بديل للاسد وداعش، فان النتيجة هي تفكك الدولة السورية.

 

يحتمل أن يكون في اعقاب التدخل العسكري الروسي سينشأ تحالف دولي ينقذ نظام الاسد ويضمن استمرار وجود سوريا كدولة، وان كان ربما في حدود ضيقة وبدون الاسس الاجتماعية الاهم لوجودها وادائها. يحتمل أن بدلا من سوريا التي تأسست في أعقاب اتفاق سايكس بيكو تقوم سوريا جديدة لاتفاق بوتين – روحاني، تحظى بدعم اوباما ايضا (مع صك على الاسنان). ماذا يعني هذا بالنسبة للبنى التحتية، الحصانة والمستقبل للقومية العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص؟ هذا سيبقى لكُتّاب الأزمنة.