خبر خضر عدنان، رجل مقابل دولة.. بقلم: خالد جمعة

الساعة 03:52 م|04 يونيو 2015

فلسطين اليوم

خضر عدنان، رجل مقابل دولة.. بقلم: خالد جمعة

خضر عدنان يلملمُ ما تساقطَ من رجولةٍ ويجمعُها في مِخلاتِهِ ويتركُنا صغاراً نكتبُ فيه القصائد ونتطاول على عراقيب أقدامِهِ، يقفُ وحيداً بجسدٍ هزيلٍ وجلدٍ ناشفٍ، وعينين زائغتين، ليقابلَ دولةً بعنفوانِها وجبروتِها وأساطيرها وتوراتها وأسلحتها وسجونها وجدرانها العازلة وجيوشها ومخابراتها وأبنيتها وأفكارِها وسجّانيها وقضبانِها وبساطيرِ جنودِها، ليقولَ لنا جملةً قصيرة: إذا كانت الإرادة كانت الطريق.

لم أكن يوماً من المعجبين بالرموز السياسية، على عكس إعجابي الشديد بالرموز النضالية، أحببت محمد الأسود « جيفارا غزة »، وعماد عقل، وأحببت رائد الكرمي وعلم الدين شاهين، أحببت جميع المناضلين، سواء أولئك الذين ضحوا بحياتهم أو أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة، فليس الموت هو ما يصنع البطل في وجهة نظري بل الإرادة.

في التاريخ اليوناني القديم، واجَهَ ثلاثمائة جندي يوناني جيشاً من الفرس قوامُهُ ألف ألف جندي، بمعدل ثلاثة آلاف وخمسمئة جندي فارسي لكل جندي يوناني، ولم يكن السبب في ذلك عدم وجود جنود من الإغريق كي يواجهوا الفرس، ولكن العرّافة قالت إن الوقت غير ملائم للحرب وأن من يحارب في هذا التوقيت سوف يُهزَم وسيجرُّ الويلات على شعب الإغريق كلِّه، لكنّ رجلاً واحداً رفضَ نبوّةَ العرافةِ ودعا الرجال الذين يقبلون بالذهاب معه إلى الحرب، فلم يقبل بالذهاب معه إلا مئتين وتسعةٍ وتسعين رجلاً فاكتملوا ثلاثمئة به، وقد سببوا أذىً كبيراً لجيش فارس العظيم، وليس من الغريب أن نعرف أنهم قُتِلوا جميعاً ما عدا رجل واحد عاد جريحاً ليروي الحكاية، وأظنُّ أنَّ هذه هي القصة الأكثر تعبيراً عن الإرادة في التاريخ البشري كلّه، وهي التي حوّلت هؤلاء الرجال إلى أبطال منذ ثلاثة آلاف عام إلى اليوم.

ما فعله خضر عدنان يبدو جنوناً بالنسبة للكثيرين، وربما حتى بالنسبة لخضر عدنان نفسه، ولكن من هو الذي قال إن العقل يصنع البطولة؟ ومن قال إن الحسابات الصغيرة تصنع المجد؟ ومن قال أن ظلَّ النملة الهائل على الحائط سيجعل النملة أكبر حجماً في الحقيقة؟ خضر عدنان اكتشفَ النملةَ واكتشفَ الظلّ، واستطاع التمييز بينهما، فعرف كيف يواجه.

وإن كان هناك ثمة رسالة فيما فعله خضر عدنان، فلا هي متعلقة بالأرقام حيث قضى خمسةً وستين يوماً في كل يومٍ أربعاً وعشرين ساعةً وفي كلِّ ساعةٍ غولُ جوعٍ، يقابلُهُ الشاطر حسن الذي خلقته الإرادةُ فقتل الغول، ولم تكن هذه الرسالة في تحقيق مجد شخصي في الوقت الذي يستحق فيه الشيخ خضر عدنان أكثر من المجد الشخصي بكثير، بل الرسالة الأكثر وضوحاً هي أن المواجهة ممكنة حين نقرر أننا سنواجه، دون سلاح، دون خطط حربية، دون معونات من الخارج، دون تمويل، دون فلسفة، قرر المواجهة، وقام بالمواجهة وانتصر في المواجهة، خضر عدنان كان رجلاً ضدَّ دولة، كان فكرةً ضدَّ مجموعة من الأفكار التي تستند إلى تاريخ من القمع يقول إن ما لا تأتي به القوة يأتي به استخدام مزيد من القوة دون الركون إلى فهم المعطى الحقيقي للإرادة، الإرادة التي تسقط أمامها نظريات القمع حتى لو كانت ممنهجة على طرازها الأعلى كما هو الحال في إسرائيل.

وما يضيف بعداً آخر لتجربة الشيخ خضر عدنان، هو أن موقفه هذا، يجيء بالذات في الوقت الذي صارت فيه المواقف النابعة عن الإرادات هي مواقف نقرأ عنها في التاريخ، ولم نعد نلمسها في حاضرٍ أعرج، أصبحت البطولة فيه لمن يتكلم أكثر، والزعامة فيه لمن يستطيع أن يشتريها، والواقعية فيه أن ترضخ لمطالب من هم أقوى منك، فأثبت الشيخ عدنان أن مفهوم القوة هو مفهوم نسبي تماماً، وأخضع النارَ للحطبِ عاكساً مفهوم الطبيعة ذاتها الذي يقول إن النار يجب أن تأكل الحطب، لقد جعل النارَ تأكل نفسها لأنها لم تجد ما تأكله.

لا أعتقد أن تجربة الشيخ عدنان ستمر عبر التاريخ مروراً شاحباً، بل ستبقى إلى الأبد، كما بقيت قصة الفرسان الثلاثمئة الذين واجهوا جيش فارس، وأقول جازماً أن الفرق بين قصته وقصتهم ما هو إلا فرق في التفاصيل، أما في عمق التجربة الإنسانية التي خاضها الشيخ، فإنما يتشابهان إلى حد التوأمة.