خبر أخاف أن أدفن في أرض غريبة.. قاسم قاسم

الساعة 02:41 م|15 مايو 2015

في مثل هذه الأيام قبل 67 عاماً، تحصّن والدي وبعض أبناء عكا في قلعة المدينة البحرية. كان الهدف منع «اليهود» من السيطرة على المدينة، خصوصاً بعد وصول أخبار عن مجازر إرتكبت في القرى المحيطة. في مثل هذه الأيام من عام 1948 نفذت «عصابات الهاغاناه» عملية «بن عمي» العسكرية، جزء من «الخطة دالت»، التي قضت باحتلال كامل شمال فلسطين من عكا إلى الناقورة، وذلك قبل رحيل الاحتلال البريطاني عن فلسطين في 15 أيار.

أذكر ما رواه عمّي رجب قاسم عن تلك الأيام، وكيف تحصن هو وجدي ووالدي وعدد من أبناء المدينة في القلعة. قال «كان معنا ثلاثتنا بندقية واحدة، وكان المطلوب منا الصمود، لأننا سمعنا أن جيش الإنقاذ في طريقه إلينا». مرت الأيام، واشتد القصف الصهيوني على المحاصرين في القلعة، «لم نملك ماءً أو طعاماً، وسقط عدد كبير من الشهداء في صفوفنا، فاضطررنا إلى الهرب». كان يوم الهروب فجر 15 أيار يوم إعلان قيام الكيان الصهيوني. «تركنا والدك ولم نستطع إخباره بانسحابنا بسبب تمركزه في نقطة بعيدة عنا. لم نعرف شيئاً عنه، وهربنا إلى قرية والدتي في جنوب لبنان»، قال. هناك انتظرت العائلة عودة والدي. مرت الأيام، لكنه لم يعد. «كنا قد اتفقنا في حال انسحابنا على الالتقاء في قرية عين قانا اللبنانية، قرية جدتك، لكنه لم يأت، فقلنا إنه استشهد»، أضاف. بعد شهرين، عاد والدي إلى عين قانا. روى ما جرى معه. قال إنه «عاد إلى منزل العائلة الملاصق للطريق الرابط بين عكا وبيروت، مكث فيه، ثم استغل ظلمة إحدى الليالي للهرب إلى لبنان». أما طول رحلة التهجير إلى لبنان فسببها مكوثه أياماً عدة في كل قرية مرّ بها.
في لبنان اجتمعت العائلة مجدداً في عين قانا. هذه المرة لم يكن حضورهم لزيارة قرية الحجة إم أحمد (جدتي)، فهم الآن لاجئون ممنوعون من العودة إلى ديارهم. مرّت الأيام، وأصبحت أشهراً، والأشهر أصبحت أعواماً، وبدأ الأمل بتحرير فلسطين بالضمور. انتقلت العائلة إلى بيروت، وتحديداً إلى محيط مخيم برج البراجنة، حيث استأجر جدي منزلاً وسكن مع العائلة فيه.
رفض أبو أحمد العيش في المخيم، فقد اعتبر أن هناك من هم أولى منه بمساعدات «الأونروا». في مخيم البرج الذي أنشئ عام 1949، لم تكن حياة اللاجئين مريحة؛ فقد عاش الفلسطينيون في المرحلة الأولى على تلال رملية. عملوا على نزع أشجار الصبّار التي كانت منتشرة في المكان. الأرض التي سكنوها كانت ملكاً لشخص من آل الحركة في البرج، وقد تبرع بها لاستضافة اللاجئين. في تلك المرحلة «خرجنا لنشوف الفلسطينيي. قالولنا إنهم هربوا من بيوتهم. أخدنا معنا حرامات وفرش. الله لا يفرجيك المنظر يا ستّي»، كما تستذكر جدتي (والدة أمي) ابنة منطقة البرج. تقول إن أبناء المنطقة ساعدوا «المهجرين» كما كانوا يصفونهم. في عام 1949 بدأت «الأونروا» بتقديم المساعدات إلى الفلسطينيين، وعوضاً عن النوم في العراء نام اللاجئون في الخيم التي ثبتت أطرافها بعلب حليب معبّأة بالرمال. مع الأيام تطوّرت الخيمة، وأحيطت بمدماكين (صفّين من الحجارة) لحمايتها من الرياح (منعت القوانين اللبنانية حينها بناء أكثر من مدماكين، لأن ذلك يعتبر مأوى، ممّا يعني توطيناً). بعد عام 1969، وقّعت «الأونروا» اتفاقية مع الحكومة اللبنانية لبناء بيوت للفلسطينيين، فتحولت الخيم إلى منازل، ثم إلى أبنية من طوابق عدة. تطور مخيم البرج، جاءت الثورة إلى بيروت ورحلت. عايش جدي كل ما جرى، مؤمناً بأنه سيعود إلى دياره. أما والدي وأعمامي فقد تركوا لبنان، وهاجروا، مؤمنين بأن علمهم سيحرر فلسطين وأنهم من العائدين إلى أرضهم.
مرّت السنوات وبقي الأمل بالعودة، رغم كل النكسات التي مرت بها القضية الفلسطينية. توفي جدي ودفن في جبانة «الرادوف». توفي والدي ودفن في أميركا. كذلك توفي عمي ودفن في ألمانيا. وتوفي عمي الثاني ودفن في السعودية. أما بالنسبة إلي، فإنني على يقين بأنني سأشهد تحرير فلسطين، هذا إذا افترضنا أنني سأعيش المعدل العمري المتوقع للذكور في لبنان وهو 78 عاماً. ولكنني في بعض اللحظات، عندما أرى اختلافات الفصائل الفلسطينية، يتملكني اليأس وأرى تحرير فلسطين أمراً مستبعداً. هكذا، ورغم إيماني بتحرير «سيدة الأرض»، أخاف حقاً أن أموت وأدفن مثل باقي أفراد عائلتي في أرض غريبة، بينما يدفن الغريب في أرضي.