خبر سورية ولعبة الكبار والصغار ..علي عقلة عرسان

الساعة 02:22 م|15 مايو 2015

 

يبدو أن الإفلاس متعاقد مع السيد ستيفان ديمستورا أو ملازم له، فبعد الزيارات واللقاءات والتصريحات والمبادرات، التي كان على رأسها « وقف إطلاق النار في حلب »، وبعد مشاورات جنيف التي يجريها حول المسألة أو الكارثية السورية، مع أربعين « طرفاً »، قاطعها عدد مهم منهم.. يبدو أن أقصى ما يمكن أن يقدمه الوسيط الدولي الثالث من نتائج، بعد هذا الركض، لن يتجاوز هوامش استشارية « استطلاعية؟ » ضئيلة القيمة، تضاف إلى هوامش الهوامش في ملف جنيف ١ الذي بقي صامداً، بوصفه مرجعية للحل السياسي للمسألة السورية، وللحوار الديبلوماسي الجاد حولها. كما يبدو أيضاً أن العودة إلى تلك المرجعية، في مؤتمر قادم، يشار إليه من آن لآخر هذه الأيام، ، تحت عنوان « جنيف ٣ »، عقيمة أو شبه عقيمة. ويأتي في حكم ذلك تقريباً عقد دورة جديدة في إطار بيان موسكو. ذلك لأن الحلول السياسية التي يتحدثون عنها بإسهاب، هي إمَّا تغطية لعجز، وإما استمراراً لتواطؤ وتنازع، عربي وإقليمي ودولي، وإما محاولة من الأطراف المتصارعة لكسب الوقت من أجل تحقيق أوضاع أفضل على الأرض في المعارك الدائرة في سورية وعليها. والنتيجة المقترنة بذلك كله: استهلاك سورية وإهلاكها، ذلك الذي يشارك فيه أبناؤها وأعداؤها وأصدقاؤها.

إن كل الأطراف المعنية بالمسألة السورية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وحتى تلك المتابعة لها باهتمام.. تعرف أن ما يجري على الأرض هو الأساس، وتدرك أن ما يجري على الأرض من اقتتال وحشي فظيع وسيلة وغاية، هو وسيلة لتحقيق غَلَبَة، وغاية لتفتيت شعب وتدمير بلد، تحكم أعداؤه وأغبياؤه في اتخاذ قرار إنهاكه وإنهائه، وصنع الظروف والأوضاع التي تفرض حلولاً عسكرية لا حلولاً سياسية، وتبقى الشعب مفتتاً، ومتعادياً، وموغلاً في فتنة مذهبية يستدعي فيها الدم الدم، إراقة ونزفاً، إلى ما شاء الله. ويدرك كثيرون أن من يعنيهم الحل ينخرطون في التأمر والقتل والاقتتال، ويستعدّون لمعارك بعد معارك، ويطيلون أمد الكارثة لتأتي على ما تبقى من البلد والشعب.. وتبقى أحاديثهم عن الحلول السياسية أقنعة في « كرنفال » دموي مرعب، يدخله ويدفع تكاليفه الشعب السوري بالدرجة الأولى، ومن ينخرط في محنته، بوصفها فتنة مذهبية، سنية شيعية، ليطال الموت والتفتيت والضعف والشقاق والشقاء، العرب والمسلمين كافة.

ما من تفسير مقنع، لإطالة أمد مأساة شعب وبلد، امتد زمنها، وبلغت من القسوة حداً لا يطاق، وشتت ملايين البشر في أرجاء الأرض وتركتهم من دون وطن ومن دون أمل.. وتغذية فتنة مذهبية - طائفية - عرقية.. إلخ، استعرت نارها وانتشرت، وكثر ضحاياها، وهددت الأمن والسلام والاستقرار، في منطقة من أشد مناطق العالم حساسية، وخطورة، وتأثيراً، على مصالح الدول.. إلا صراعات الكبار من أجل الهيمنة، والنفوذ، والطاقة، والمصالح الخاصة، وأسواق السلاح والتقنيات العالية، والسِّلع بأنواعها؛ ولعبهم غير المسؤول، بل عبثهم الكارثي الكريه المجنون، بمصائر الشعوب والدول.. وتخويفها، وتهديدها، ونهبها، وإبقائها تابعة وخانعة.. ومن طرقهم إلى ذلك مد الطغاة والبغاة والفاسدين، والقصّر من الحكام والأزلام والأتباع والمتآمرين.. مدهم بما يحميهم ويغذيهم ويقويهم، ويبقيهم خائفين من شعوبهم، ومن بعضهم بعضاً، يستقوون بأعدائهم على أخوتهم وأبنائهم، ويطلبون البقاء ولو ألحقوا بكل الناس الشقاء والفناء.. إن الأقوياء يستقطبون المتسلطين الخائفين، والخونة والمغامرين والمتطرفين والإرهابيين، ليكونوا مادة أحلافهم؛ يخوضون حروباً بالوكالة عنهم في طول العالم وعرضه، لكي يسطر أولئك الكبار على مصائر الصغار وبلدانهم ومستقبلهم، وتكون لهم الكلمة الأولى والأخيرة في مناطق حساسة، لا سيما مناطق الثروات الطبيعية، والأسواق البشرية، والمنافذ الاستراتيجية، مثل: قناة السويس، وباب المندب، ومضيق هرمز وغيرها.. ولتكون لهم سطوة وسلطة، حتى على العقيدة والتربية والثقافة إلخ.

إن لعبة الكبار في منطقتنا أصبحت أكثر من حاكمة، وأن دهاء أولئك الكبار وخداعهم من جهة، وتسميمهم لساستنا وسياساتنا، ولسلطاتنا ومعارضاتنا، ولإعلامنا، وحتى لثقافتنا وبعض فقه ديننا.. عن طريق أجهزة الاستخبارات، والمعلومات، ووسائل الإعلام، وتصدير المفاهيم، والشخصيات، و.. إلخ، من جهة أخرى.. أفقدنا التوازن والتمييز، وأدخلنا في المحظور من القول والفعل والجرم والإثم، وأعشى منا الأبصار وأعمى البصائر، وأدخلنا في عتمة الدهاليز.. فأخذ بعضنا يرى الصهيونيةَ العنصرية المحتلةَ لأرضنا، المهددةَ لديننا، وهويتنا، ووجودنا كله، يراها « حليفاً؟! »؟!، أو أنها ليست هي العدو الأول للأمة والدين، وأنها أرحم ببعضنا من بعضنا، وأنها ليست الخطر المحدق بنا، بل هي أقل خطراً علينا مما صُوِّر ويُصَوَّر لنا، ومن بعضنا على بعضنا؟! وبلغ ذلك منا ما بلغ.. فيا لله، كم هي الطامة أكبر من كبرى؟!. وعلى صعيد آخر، مضى بعضنا إلى أبعد مما كان بعيداً عن رؤية الحقيقة.. فرأى أن الولايات المتحدة الأميركية، رأس البلاء الذي يصيبنا، والدولة العظمى التي لم تترك وسيلة، ولا فرصة، ولا مناسبة، إلا وظهرت فيها تأييدها التام للمحتل الصهيوني ومشاريعه العدوانية والتوسعية، وعززت مساندتها له في أساليب قهره وإبادته للشعب الفلسطيني: « مادياً ومعنوياً »؛ ورفعت ذلك العدو المجرم، فوق القانون والمساءلة، وجعلته، في ميزان القوة النووية وغير النووية، أقوى من العرب والمسلمين مجتمعين - هذا إذا سمحت لعرب ومسلمين أصلاً بأن يجتمعوا، فالفرقة سلاح بيدها، وحروبهم الداخلية يضع نيرها على رقابهم - فذهب كثيرون منا إلى اعتبار تلك الدولة: قوة حماية له، ووسيطاً نزيهاً في قضية فلسطين، وقوة دولية عادلة، ونصيراً للحرية والشعوب، و.. إلى آخر معزوفات موسيقا الولاء السياسي - الإعلامي - الرسمي - الشعبي..؟! فيا للهول؟! وجعلتنا، لعبة الكبار تلك، نسقط على جوانب الطرق التي نسير فيها، فترانا أعجاز نخل منقعر عن يمين وشمال، وفي حال تزري بكل الأحوال: رهائن، ونبحث عمن يرتهننا ويرتهن مستقبلنا، ويشترينا بقتلنا؟!.. فصرنا بضائع في سوق الأمم والسياسات والتحالفات والثقافات.؟! وها نحن اليوم أمام تحالف نوعي، بعد كامب ديفيد أوباما، وحيال تحالف نوعي آخر، كان أو سيكون نوعياً، يقابله بكل قوة؛ تحالف فيه روسيا وإيران والعراق وسورية وبعض لبنان واليمن وبعض المقاومة الفلسطينية.. وما أدراك من سيلتحق من العرب والمسلمين بالتحالفين، ممن لم يلتحق بعد.. لتبدأ حرب الاستنزاف الدولية بنا وببلداننا، حيث تأتي على كل ما نملك، ومن نشكل في نسيج المنطقة والعالم، وحتى معالم الحضارات التي ورثناها وكناها، فالتدمير لذلك على قدم وساق، التهريب لكل ما تقع عليه يد المهربين المحميين وغير المحميين، على قدم وساق أيضاً؟!     

المهالك مستمرة، والهوة ليست إلى ضيق، بين فريق سوري وآخر، وبين فريق يقاتل في الأرض السورية فريقاً آخر في مسار الفتنة المذهبية، والأحابيل السياسية.. نحن في معمعان الفوضى المتوحشة، والجنون المطبق، والعبث الذي يَقْصُر عنه كل عبث.. عبث بالدم البشري، وبمصير الشعب السوري، وبمصير البلد ، وبما يشكل خطراً على الأمة والهيوية والوجود والدين. ولا يبدو أن الآتي يبشر بحلول سياسية من نوع: عادل، دائم، ينطوي على حكمة وأنصاف وقيم، يجتث العنف والحقد والكراهية، وما سببته وتسببه الحرب، الكارثة، المستمرة في التفاقم والتدحرج، وتوليد العنف ومراكمة الدمار والعار.. بل يبدو أنه ينذر بشرور منها استمرار الحرب بتطورات نوعية، قد تؤثر سلبياً على الجغرافية السياسية السورية، وعلى النسيج السكاني، لا سمح الله.. لأن كل من يعمل، أو يدعي أنه يعمل، لحل سياسي للمسألة السورية، يضعُ، أو يُجبَر على أن يضعَ، قناعاً، وأن يَدخل في كرنفال الدم والموت، الكذب والخداع، الضحك والبكاء، الذي يستمر على الأرض السورية منذ سنوات وسنوات، تحت نظر العالم وبصره.

هل نحن مسؤولون عن لعبة الكبار، أو عن لعبة الأمم، بنا وبمصيرنا ومستقبلنا، وعلى أرضنا؟! نعم، وبالدرجة الأولى.. لأن من يُدخل الدبَّ إلى كرمه، يتحمل المسؤولية، ونتائج الفعل.. ونحن الذين أدخلنا الدب إلى كرمنا بصورة ما، ونحن أعنى الجميع، كل بدرجة فعله ومسؤوليته عن ذلك!! وهل تنهتهي تلك اللعبة الوحشية الفظيعة على أيدينا وبأيدينا، بفرَض أننا أردنا ذلك.. وهذا أمر افتراضي، ولا يبدو واقعياً بحال من الأحوال، وكل توهم يجعله من النوع الواقعي بالمطلق، أو يجعله يصب في هذا المجرى، لا يعبر عن واقع الحال، بل ربما يزيد الأمور تعقيداً وتوهماً، ووبالاً على وبال. ذلك لأنه علينا أن ندرك أن حقائق الواقع على الأرض غدت أكبر منا بكثير، وجعلتنا أحد اللاعبين بكرة مصيرنا وبمصير بلدنا، على أرضنا، ولسنا حتى اللاعب الأول، فكيف نكون الأول والأخير، ومن يتخذ القرار النهائي ويقرر المصير؟!. لقد أصبح جزء هام من قضيتنا بيد غيرنا، وأصبحنا مرتهنين للعبة الكبار، ولمن هم في ركابهم وفي هوامشهم ومدارهم، وأصبحنا جزءاً من كرة النار التي تتدحرج، وندحرجها فوق جثثنا مع آخرين، معنا وضدنا.. وأصبحنا مرتهنين لثارات وأحقاد من نوع كبير عميق، كريه منتن مثير.. وهو ما يلتقي مع حقد آخرين علينا، سواء أكانوا من كبار اللاعبين على أرضنا أو من صغارهم، أو ممن يقف وراء اللاعبين.؟! هذا وضع مؤلم مؤسٍ مؤسف، أكاد أهرب منه، ومن نفسي إذ أقاربه وأتخيله.. أهرب إلى متخيل بديل عنه، وإلى تفاؤلي المزمن، وثقتي المطلقة بشعب وبلد، طالما رأيت فيهما خلاصاً وأملاً، حتى في أحلك الأوقات والظروف.. ولكن أهرب كيف، وإلى أين، وممن، وإلى من.. وأنا الجرح والسكين، الطاعن والطعين، الوطن والنتماء، الطفل والعاجز، القتيل والجريح والمقعد، المفجوع والفجيعة.. وذاك الذي يحلم بسورية الأم، حضن العروبة والإسلام؟! إن ما تابعته واطلعت عليه وسمعته، وتمعنت به، من أقوال وأفعال، ومن كتابات ومواقف ومتابعات، كانت لمواطنين مدنيين، « مواطنين مدنيين »، مشكونين بالمصيبة، مشحونين بما لا يوصف من عداء وبؤس وخوف ومقت ويأس، لا سيما في الأشهر الأخيرة، أو الشهر الأخير، خلال وبعد المعارك الضارية التي دارت في: إدلب، وجسر الشغور، وسهل الغاب، وجبل الأربعين فوق أريحا، وفي حوران، والقنيطرة، وحلب، وريف اللاذقية الشمالي، وأخيراً في السُّخنة، وعلى مشارف تدمر التاريخ والإرث الحضاري العريق.. إلخ، إن كل ذلك جعلني أنغمس فيما هو أكثر من القلق، والرَّهق، والهم، والغم.. وأنا أتابع بعض أبناء شعبي من المدنيين، نعم « بعض أبناء شعبي من المدنيين »، ينادون باجتثاث بعض أبناء شعبي الآخرين، من المدنيين أيضاً؟! ويتوعدونهم بفعل يشبه الإبادة، ويحرضون من يوالونهم على القيام بذلك الفعل الشنيع.. على أرضية فكرية وشعورية مقيتة، فتنوية بامتياز.؟! فإلى أي درك وصلنا؟! وألى أين أَوصلنا الحريصون علينا وعلى الوطن والمواطنة والدولة و.. من كل ألوان الطيف البشري في سورية وخارجها، من سياسيين وغير سياسيين؟! ومَن/وما الذي يخرجنا من خنادق الكراهية المقيتة تلك، ومن دوامة الفتنة المذهبية الصريحة الشنيعة، ومن عقابيلها الفظيعة وهول ما تحمله من نُذُر، تلك التي سَقطنا أو أُسقطنا فيها، وجعلتنا وحوشاً تنقض على وحوش، وجاءت بمن يفتك بنا، ويتبادل الفتك مع غيره فوق أرضنا، لنصبح الجرح والسكين، والقاتل والقتيل؟!

لا أكاد أصدق ما سمعت وما قرأت، ولا ما وصلنا إليه من حال هو أبأس البؤس على أية حال؟!.. ولا كيف ينقض بعضُنا على بعض بأدوات الموت، وبالحقد والموت.. في الوقت الذي نترك فيه ويتركون عدونا الصهيوني المحتل يفتك بنا، ويجرعنا أنواع الموت، ويرتاح على جثثنا، وفي مستنقعات دمنا؟! أحقاً وصلنا إلى هذا المقت، وإلى حال لا نستطيع أن ندفع به عن أنفسنا عدوان عدونا، بَلْهَ احتلاله وتوسعه وتهديده؟! لا أكاد أصدق، ولكن الصدمة على أرض الواقع، وفي تفاصيل ما نعيش، أكبر من الصدق والتصديق، ومن الكذب والتلفيق.. فالموت طليق العنان في أرضنا، والجثث تملأ الرحب.. ولا دروب خير وأمن ونور، أمام خلقٍ أُغلقت عيونُهم، وقولوبهم، وعقولهم، علي الكراهية والفتنة والقتل والثأر، إلا هذه الدروب.. ؟!.

فلله الأمر من قبل ومن بعد. والحمد لله رب العالمين، على كل حال، وفي كل زمان ومكان.

دمشق في الجمعة، ١٥ أيار، ٢٠١٥

علي عقلة عرسان