خبر عن بعض مواجعنا .. فهمي هويدي

الساعة 08:19 ص|04 مايو 2015

مناسبة يوم حرية الصحافة ذكرتنا بمواجعنا.. وتزامنها مع ذكرى مرور 65 عاما على وفاة جورج أورويل الذي خلد فضيحة دولة التكميم التي أنشأت وزارة « الحقيقة » يشجعنا على البوح ومواصلة دق أجراس التنبيه والتحذير.

أمس الثالث من مايو حلت المناسبة الأولى التي أعلنتها الأمم المتحدة. أما جورج أرويل فقد رحل عن عالمنا في عام 1950، واشتهر بروايته عام 1984، التي حذر فيها من تحول بريطانيا إلى دولة الحزب الواحد، التي أسماها دولة « الأخ الأكبر »، التي أصبحت في زماننا نموذجا شائعا في عالمنا العربي.

منظمة فريدوم هاوس (بيت الحرية) أصدرت يوم الأربعاء الماضي 29/3 بيانا في المناسبة ذكرت فيه أن عام 2014 شهد تراجعا في حرية الصحافة لم تبلغه منذ عشر سنوات. إذ تعرض الصحفيون خلال ذلك العام إلى ضغوط مكثفة وانتهاكات عديدة لحقوقهم. أضاف التقرير أن الحكومات استخدمت الدواعي الأمنية وحملة مكافحة الإرهاب ذريعة لإسكات الأصوات الناقدة. كما لجأت مجموعات الضغط والعصابات الإجرامية إلى أساليب متعددة لترهيب الصحفيين. أما أصحاب رءوس الأموال الذين يهيمنون على وسائل الإعلام فقد لجأوا إلى التلاعب بمضمون المعلومات لخدمة مصالحهم السياسية والاقتصادية، وذكرت جنيفر دنهام المسؤولة عن التقرير أن من التطورات المقلقة أن الأنظمة الديمقراطية بدلا من أن تشجع الصحافة النزيهة والموضوعية وتكفل حرية الإعلام باعتبارها من تجليات وضمانات الممارسة الديمقراطية، فإنها لجأت إلى الرقابة ومحاولة فرض آرائها وأفكارها. وكانت النتيجة أنه من أصل 199 دولة وكيانا شملها التقرير فإن 63 دولة فقط وصفت بالحرة ــ و71 وصفت بأنها حرة جزئيا ــ و65 اعتبرت غير حرة. مما ذكره التقرير في هذا الصدد أن 14? فقط من سكان الأرض يعيشون في بلدان الصحافة فيها حرة و42? في بلدان الصحافة فيها حرة جزئيا، و44? في بلدان تعاني تقييد الصحافة.

في هذا السياق، تستوقفنا الندوات التي نظمتها في الوقت الراهن مكتبة مارتن لوثر كنج في واشنطن بمناسبة مرور 65 عاما على وفاة الكاتب البريطاني جورج أورويل، وشارك فيها نخبة من المثقفين الأمريكيين الذين ضاقوا ذرعا بالإجراءات التي أصبحت تهدد الحرية الشخصية في الولايات المتحدة، خاصة بعد انكشاف أمر شبكات التجسس العملاقة التي تديرها وكالة الأمن الوطني (إن. إس. ايه).

قرأت تقريرا عن تلك الندوات نشرته جريدة الشرق الأوسط (في 28/4) لمراسلها من واشنطن الزميل محمد علي صالح. وقد أشار فيه إلى أن الأمريكيين لا يخشون من ديكتاتورية الحزب الواحد التي حذر منها أورويل في كتابه، إلا أن سيطرة حزبين على الحكومة جعلت كثيرين من المثقفين يشكون من زيادة تدخل الحكومة في الحريات الشخصية للمواطنين، خصوصا فيما يتعلق بحرية التعبير. وهي المشكلة التي ظهرت بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2011 وإعلان الرئيس السابق جورج دبليو بوش ما أسماه بالحرب العالمية ضد الإرهاب. وفي حواراتهم حول الموضوع استدعى مضمون كتاب أورويل (1984) ووصفه لحياة الناس عندما تتدخل الحكومة في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم.

من بين الذين شاركوا في تلك المناقشات أستاذ القانون في جامعة جورج واشنطن نيل ريتشاردز مؤلف كتاب « الخصوصية الفكرية » (انتليكتشوال بريفاسى) الذي نبه فيه إلى قرار المحكمة العليا الذي حمى حرية التعبير حتى وإن كانت خطأ أو كانت مسيئة لبعض الشخصيات العامة. طالما أنها تمت في إطار حوار شعبي حر. وكان ذلك الحكم التاريخي قد صدر في قضية رفعتها وزارة الدفاع الأمريكية ضد صحيفة نيويورك تايمز، لمنعها من نشر تقرير سري كتبه خبراء بالوزارة المذكورة توقعوا فيه فشل التدخل العسكري في فيتنام الذي استمر عشرة أعوام (من 1963 إلى 1973) ــ وقد طال أمد النزاع حتى وصل إلى المحكمة العليا المختصة بتفسير الدستور. فحسمته لصالح الجريدة بقرارها المتقدم.

في تلك الندوات دعا بعض المثقفين إلى الضغط على أعضاء الكونجرس لوقف تجسس وكالة الأمن الوطني (إن. إس. إيه) وغيرها على الشعب الأمريكي. وقارن آخرون بين بريطانيا التي لا تزال التحقيقات فيها مستمرة حول ملابسات اشتراك رئيس وزرائها توني بلير في غزو العراق، وبين الولايات المتحدة التي لم يجرؤ أحد في الكونجرس على المطالبة بالتحقيق في ذلك الغزو.

هذه الخلفية قد تريح البعض وتلقى ترحيبا منهم، إذ بوسعهم أن يقولوا إننا في مصر جزء من ذلك العالم الذي يضيق على الحريات والصحفيين ويتم فيه التجسس على الجميع، وهو ما لا تستثني منه دولة ديمقراطية كبرى كالولايات المتحدة، وتلك حجة تبدو وجيهة في ظاهرها، لكن يعيبها عدة أمور، منها أننا حين نقارن بين ما يحدث في بلادنا وبين ما يحدث في الديمقراطيات المتقدمة، فإننا ننتقي أسوأ ما عندهم وننزعه من سياقه العام لكي نبرر به سوءاتنا. الأهم من ذلك أن تعاملهم مختلف مع أمثال تلك السوءات. فهناك مؤسسات تمثل المجتمع أو الرأي العام ترصدها وتكشفها وتحاسب المخطئين المسؤولين عنها، إلى جانب أن الدولة لا تتردد في الاعتراف بالخطأ إذا وقع (موقف أوباما من التعذيب أو من عنصرية الشرطة)، ثم إن هناك قضاء مستقلا بوسعه أن يحاسب الدولة وينصف المظلوم. وهذه الملابسات كلها تعطي الناس ثقة في الحاضر وأملا في الإصلاح يطمئنهم إلى المستقبل. وهي عوامل إذا وضعت في الاعتبار فسوف نكتشف أننا قد نشترك حقا مع ذلك العالم في بعض سوءاته، لكننا ننفصل عنه في كل ما عدا ذلك. وهي شهادة علينا وليست لنا.