خبر الخوف المُعَمَّم : ظاهرة مرضية قد يكون لها علاج

الساعة 06:33 م|13 ابريل 2015

فلسطين اليوم

” لا أستطيع إزالة الذكرى من ذهني، في كل مرة أتخيل أنني عدت إلى فيتنام، في منتصف موسم الرياح الموسمية، أتخيل نفسي في نقطة الحراسة، يداي تتجمدان، ولكن العرق يتصبب من كامل جسمي، اشتم رائحة الكبريت الرطبة، وفجأة أرى ما تبقى من صديقي (تروي) بجانبي، أرى رأسه على طبق الخيزران”

هذه إفادة لجندي سابق، من الجيش الأمريكي، خدم في فيتنام، لديه ذكريات مكثفة من الماضي عن صديقه مقطوع الرأس، حيث يستعيد هذه الذكرى كلما سمع هدير الرعد، أو لمس حصيرة خيزران، أو رأى امرأة شرقية (فيتنامية)، وعلى الرغم من أن هذه الصدمة وقعت منذ عقود في ساحة المعركة في النصف الآخر من العالم، إلا أن ذكريات الجندي عنها ما زالت حية، وتنتج لديه حالة من فرط وشدة الخوف بشكل دائم، تشبه حالة الخوف والتوتر التي تعرض لها في يوم الحادث .

تعتبر ذكريات الخوف آلية دفاعية مهمة وحاسمة من أجل بقاء الإنسان، فالخوف هو عارض طبيعي ينشأ لدى الإنسان ويساعده على تجنب الأشياء والمواقف الخطرة، وبالتالي فإن هذه الآلية هي ضرورية من أجل بقاء الانسان، ومع ذلك، فإن الإفراط بالخوف من هذه الذكريات، أو ما يسمى بتعميم الخوف أو الخوف المُعَمَّم (Generalized Fear)، والذي قد يؤدي إلى عدم التمييز بين المحفزات الخطرة والمحفزات الآمنة، هو أمر شائع في اضطرابات القلق، ومؤخراً تم تحديد مجموعات عصبية في اللوزة المخية مسؤولة عن إرسال إشارات الخوف المعمم، وتوفر هذه النتائج الأساس الخلوي في اللوزة المخية الذي يعمل على تحويل الحالات العاطفية من الشكل الطبيعي إلى الشكل المرضي، والذي يتمثل بهذه الحالة بالخوف المرضي.

في حالة الجندي السابق فإن صدمة معينة تحولت إلى حالة من الخوف والقلق المعمم، وهذا أدى إلى معاناة الجندي من اضطراب الكرب ما بعد الصدمة (PTSD)، وهو اضطراب ناجم عن تجربة مؤلمة أو مهددة للحياة، وغالباً ما يعاني منه ضحايا العنف الجنسي، أو الأشخاص الذين يعانون من حوادث أليمة، أو يشهدون كوارث طبيعية أو يكونون ضحية للإرهاب، ويعاني هؤلاء من إعادة تذكر الحادث الأصلي بشكل متكرر، كما أنهم يستجيبون بخوف شديد ومفرط، لأي موقف أو محفز يشبه الحدث الأصلي.

بناء عليه فقد نُشرت حديثاً دراسة في علوم الاعصاب قام بها البروفيسور (سومنترا شاترجي)، عالم الأعصاب في المركز الوطني للعلوم البيولوجية (NCBS) في بنغالور وتلميذه (سوبريا غوش)، وهذه الدراسة تعطي نظرة جديدة عن التغيرات التي تطرأ على قدرة الدماغ في التمييز ما بين المنبهات الخطيرة والمنبهات الآمنة، والتي تؤدي إلى حالة من تعميم الخوف.

التجارب التي قام بها الباحثون تتضمن إجراء تجارب خوف اشتراطي على الفئران الحية، وهذه التجارب هي عبارة عن طريقة تعليم جمعي، تعتمد على تجميع الخبرات، وأشهر نوع من أنواع هذا التعليم هي تجربة (بافلوف)، والتي تتضمن وضع كلب أمام صحن طعام، وكان كلما يتم وضع الطعام أمامه يرتبط ذلك برن جرس ذو صوت معين، في البداية لم يكن الكلب يستجب إلى رنين الجرس من تلقاء ذاته، ولكن عندما تم تعويد الكلب على أن الطعام يتبع رنة الجرس، أصبح صوت الجرس لوحده يسبب سيلان لعاب الكلب، لأن هذا الصوت أصبح يرتبط بذاكرته مع المكافأة (الطعام)، ومن المثير للاهتمام،  أن كلاب بافلوف لم تستجب فقط لصوت الجرس الأصلي، بل كانت الأصوات الأخرى التي تشبه صوت الجرس الأصلي تؤدي أيضاً إلى سيلان لعابها، وبعبارة أخرى، فإن الحيوانات قامت بتعميم التحفيز من محفز إلى آخر، لأنها لا تستطيع التمييز بين المحفزات، ولأنها تتوقع أن هذه المحفزات من المحتمل أن تكون لها ذات نتيجة المحفز الأصلي.

في هذه التجربة لم تكن النتيجة التي تُعطى للحيوانات مكافأة، بل كان المحفز يرتبط بعذاب أو بألم أو بوضع خطير يتعرض له الحيوان، وهنا تصبح الحيوانات أمام موقفين صعبين، فإذا لم يعمم الحيوان تجربته القاسية على كافة المحفزات الأخرى، فإنه قد يتعرض لأخطار، أما إذا أفرط في تعميم الخطر على المحفزات، فهذا قد يحد قدرته على الاستكشاف نتيجة لخوفه الشديد، مما قد يفوت عليه فرص التغذية أو التزاوج، وما إلى ذلك، وبالتالي فإن الحيوانات تكون مجبرة على اختيار التوازن الصحيح  من الخوف والإقدام من أجل البقاء.

في هذه الدراسة قام (غوش) و (شاترجي) باستخدام نموذج (بافلوف) مع بعض التغييرات، حيث بدلاً من الجرس، تم تعريض الفئران لصوتين مختلفين بشكل واضح، الصوت الأول كان يقترن مع صدمة كهربائية خفيفة، والصوت الآخر كان آمناً، وبالفعل تعلمت الفئران بسرعة التمييز ما بين الصوتين، حيث أظهرت استجابة للصوت الذي يرتبط بالصدمة الكهربائية، تتمثل بالخوف منه، وفي أثناء تعلم الحيوانات للاستجابة للمحفزات، قام الباحثون بتسجيل الإشارات الكهربائية الصادرة عن الخلايا العصبية الفردية في اللوزة الدماغية لدى الفئران، وهي البنية الدماغية المسؤولة عن حفظ الذكريات المرتبطة بالتجارب المخيفة.

بالنتيجة تبين أن تجربة التعلم التي تقوم بها الفئران، تغيّر من النشاط الكهربائي للخلايا العصبية في اللوزة الدماغية، حيث ازدادت الإشارات الكهربائية في معظم الخلايا العصبية في اللوزة عندما كانت الفئران تستجيب للمحفزات الخطرة، بينما بقيت هذه الإشارات طبيعية عند سماع الفئران للصوت الآمن، وبعبارة أخرى، فإن الخلايا العصبية المنفردة في اللوزة كانت قادرة على التمييز بين المحفزات الخطيرة و المحفزات الآمنة، كما لاحظ العلماء أنه يوجد عدد صغير من الخلايا العصبية ضمن اللوزة لا تمتلك القدرة على التمييز بين المحفزات، كون هذه الخلايا تحفزت بشكل عشوائي سواء عند سماع النغمة الخطرة أو النغمة الآمنة، ولكن هذه الخلايا كانت قليلة جداً ولا تقارن بالعدد الكبير للخلايا التي تستطيع التمييز بين المحفزات.

اللافت للنظر أنه عندما تمت تقوية الصدمة الكهربائية المرتبطة بالنغمة الخطيرة، فقدت الحيوانات قدرتها على التمييز بين المحفزين، حيث بدأت تظهر استجابة خوف من النغمة الآمنة، على الرغم من أن النغمة الآمنة لم تقترن مع الصدمة الكهربائية في أي مرحلة من مراحل التجربة، وبالغالب فإن الحيوانات فضلت أن تستجيب لكلا المحفزين بالخوف، تجنباً لاحتمال فشلها بالتمييز بشكل صحيح بين المحفزين، مما دفعها للتصرف بطريقة أكثر أمناً، وبالتالي أصبحت تستجيب لكلا النغمتين بالخوف، وبالنظر إلى النشاط الكهربائي للخلايا العصبية في اللوزة، تبين أن الكثير من الخلايا العصبية فقدت قدرتها على التمييز بين المحفزات، وأصبح عدد الخلايا التي لا تستطيع التمييز أكبر بكثير من الخلايا العصبية التي احتفظت بقدرتها على التمييز بين النغمات الآمنة والخطيرة ، وهذا ما أدى إلى استجابة الفئران بالخوف للنغمة الآمنة والنغمة الخطيرة على حد سواء.

وجدت الدراسة أن الخلايا العصبية التي كانت في البداية قادرة على التمييز ما بين المحفزات الآمنة والخطرة، فقدت قدرتها على التمييز عندما قامت الحيوانات بتعميم خوفها، لهذا ففي حال تعريض الفئران لاحتمالات خطر أكبر، فإن الخلايا العصبية في اللوزة تعكس ميل الحيوان للتصرف بالطرق الأكثر أماناً، وبالتالي يقوم بتعميم خوفه على جميع المحفزات.

أخيراً، فإن هذه الدراسة تقدم فهماً جديداً لكيفية معالجة الخوف في اللوزة الدماغية، حيث تبين الدراسة كيف تقوم اللوزة بالحفاظ على التوازن الدقيق ما بين المواقف الآمنة والمواقف الخطيرة التي يجب أن يكون الشخص خائفاً منها، كما أن هذه الدراسة تقدم أفكاراً جديدة للأساس العصبي للاضطرابات النفسية مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، حيث يبين البحث أن التعميم المفرط لمحفز الخوف الأصلي هو أحد أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وأن انحراف الإشارات الكهربائية في الخلايا العصبية الفردية في اللوزة الدماغية، يمكن أن يؤدي إلى فرط نشاط اللوزة مما يؤدي إلى تعميم الخوف لدى مرضى اضطراب ما بعد الصدمة، وعلاوة على ذلك، فإن الدراسة استطاعت تحديد آلية الإشارات البيوكيميائية الموجودة داخل الخلايا العصبية في اللوزة الدماغية والتي تعمل على تعميم الخوف، وبذلك فتحت الطريق لتصميم علاجات جديدة لمرض اضطراب ما بعد الصدمة تستهدف الإشارات البيوكيمائية في اللوزة الدماغية.