خبر هل يمكن أن ننسى ذكريات الألم؟

الساعة 06:23 م|13 ابريل 2015

فلسطين اليوم

عندما نقوم بزيارة إحدى النساء اللواتي وضعن أطفالهن حديثاً، ونسألها عن آلام الولادة، غالباً ما يكون ردها يتضمن عبارة مثل “لن أقوم بهذا الأمر مرة ثانية أبداً”، ولكن بعد بضع سنوات نجد تلك المرأة ذاتها وقد اقتربت من موعد وضع طفلها الثاني.

عادة ما يكون التفسير الذي يعطى لهذه الحالة هو أن النساء ينسون ببساطة ما هو مدى الألم الذي تعرضوا له في المرة السابقة بشكل دقيق، وذلك لأن الدماغ يعمل على محو تلك الذكريات، ولكن على الرغم أن هذا الأمر يبدو منطقياً من الناحية التطورية وخاصة إذا ما كانت آلام الولادة ستردع الإنسانية من التكاثر، إلّا أنه وللأسف يبدو أن هذا الأمر ليس بهذه البساطة.

تشير إحدى المراجعات للدراسات التي تم إجراؤها قبل عام 2000، والتي تناولت موضوع آلام الولادة، إلى أن النساء لا ينسين آلام الولادة تماماً، ولكن لا بد من الاعتراف بأن هذا الموضوع يعتبر من الموضوعات التي تصعب دراستها، فعلى الرغم من أن هناك مقياس يسمح للأشخاص بأن يقيّموا مقدار شعورهم بالألم، إلّا أن آلام الولادة تميل لأن تستغرق عدة ساعات، ولذلك لا يكون من الواضح دائماً أي من مراحل الولادة يركز عليها المشاركون في الدراسة، فحتى التقلصات التي تشعر بها المرأة يمكن أن تختلف في شدتها من تقلص إلى آخر، وهذا يجعل من تسجيل آلام التجربة برمتها أمر ليس بالسهل، ولكن ما يمكنك القيام به هو دراسة ما إذا كانت مجموعة ذكريات النساء عن آلامهن تتغير مع مرور الوقت.

في هذا السياق قامت دراسة سويدية شملت أكثر من 2,000 أم بمقارنة درجات تقييم الأمهات لذكرياتهن عن الألم وتجربة الولادة بعد شهرين من الولادة مع تقييمهن له بعد 12 شهر، وقد جاءت الأدلة لتشير مرة أخرى بأن معظم النساء لم تنسين آلام تجربة الولادة، حيث كانت ذكرى تجربة الولادة هي ذاتها بالنسبة لـ 60٪ من النساء سواء بعد شهرين أو بعد 12 شهر، في حين نسيت ثلث الأمهات فقط مقدار الألم الذي شعرن به أثناء الولادة بعد مرور 12 شهر، ولكن في المقابل كان هناك 18٪ من الأمهات اللواتي حدث لهن العكس، حيث أن ذكرياتهن عن آلام الولادة أصبحت في أذهانهن أكثر إيلاماً بعد مرور 12 شهر.

بعد مرور خمس سنوات، قام الباحثون بإعادة تقييم ذكريات النساء أنفسهن مرة أخرى، ولكن النتيجة هذه المرة كانت مختلفة قليلاً، حيث كانت ذكرى آلام الولادة قد انخفضت بالفعل لدى بعض النساء – كان تقييم نصف الأمهات تقريباً للألم أقل حدة مما كان عليه بعد شهرين من الولادة – ولكن بينت النتائج أنه بالنسبة للنساء اللواتي كان تقييمهن للتجربة أكثر سلبية من غيرهن بعد شهرين من الولادة، فإن ذكريات الألم بقيت معهم ولم تذهب أبداً، ولكن هذا الشيء ليس بالضرورة أن يكون أمراً سيئاً، حيث بينت بعض الدراسات أن النساء اللواتي يتذكرن آلام الولادة يعتبرن أن قدرتهن على التعامل مع هذه التجربة كانت بمثابة إنجاز يبقى معهن طوال حياتهن، أي بمعنى آخر فإنه إذا ما استطاعت المرأة التعامل مع ألم المخاض فإنه بإمكانها التعامل مع أي شيء.

إنه لأمر مفاجئ أن نعرف أن ذكريات الآلام لا تتغير في كثير من الأحيان مع مرور الزمن، وخاصة بأن العديد من الأبحاث النفسية التي تخص الذاكرة والتي أجريت على مدى عقود من الزمن تشير إلى أننا نعيد تذكر ذكرياتنا بشكل مختلف قليلاً في كل مرة نتذكرها فيها، فذاكرتنا ليست عبارة عن مكتبة من الأقراص المدمجة التي يمكننا تصفحها وقت أردنا، لنعيد  تذكر حدث وقع في الماضي كما حدث تماماً، بل في الواقع الذكريات الأصلية والطريقة التي نروي بها قصص الماضي تختلف في كل مرة نتذكرها بها، ولكن فيما يخص آلام الولادة، فإن هذه الآلام تعتبر آلام ذات هدف سامي، فهي تهدف إلى انجاب الطفل بأمان إلى العالم، ولهذا ينبغي لهذه النتيجة الإيجابية – من الناحية النظرية – أن تقلل من ذكرى الألم، ولكن من الواضح أنه بالنسبة لبعض الأمهات فإنه حتى حدث سعيد مثل ولادة الطفل لا يمكن أن يقلل من ذكريات الولادة المؤلمة.

إذا كان هذا النوع من الألم “الإيجابي” لا يمكن نسيانه، فكيف سيكون الأمر مع التجارب الأكثر سلبية؟

 في بعض الأحيان يكون من المهم أن نشعر ببعض الألم وأن نتذكر السبب الذي جعلنا نشعر به، حيث أن هذه الذكريات المؤلمة يمكن أن تبقينا بأمان وتمنع وقوع الحوادث المسببة لها مرة أخرى، فمثلاً تعرضك لجرح أثناء فتح علبة التنك سيضمن عموماً جعلك أكثر حذراً في المرة القادمة التي ترغب فيها في إعداد العشاء، أو إذا أمسكت بغطاء القدر المصنوع من المعدن وهو موضوع على النار بكامل يدك، فإن الحرق المؤلم الذي ستتعرض له سيضمن أن لا تفعل ذلك مرة أخرى، كما أنه إذا ما نظرنا إلى الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات تمنعهم من الشعور بالألم على الإطلاق نجدهم أكثر تعرضاً لحوادث الحروق والإصابة بالجروح من غيرهم من الأشخاص، لذلك فقد يكون من المفيد أن لا ننسى كل أنواع الألم.

ولكن من جهة ثانية، قد يكون نسيان بعض أنواع الألم أمراً مفيداً، وخاصة الآلام المزمنة التي غالباً ما تترافق مع الإصابة بحالات مرضية مثل مرض السكري، وقد ظهرت مؤخراً أدلة جديدة على إمكانية السيطرة والقضاء على هذا النوع من الألم على المستوى الجزيئي.

في عام 2006، زعم باحثون في كلية الطب من جامعة أريزونا بأن هناك جزيء يسمى (PKMzeta) هو المسؤول عن استرجاع الشعور بالألم الذي يترافق مع المرور بجانب الباب الذي ضربت فيه مرة إصبع قدمك أو الذي يترافق مع استعمال الباب الذي أغلقته مرة على يدك، وذلك من خلال تدعيمه للوصلات المشبكية بين الخلايا العصبية في الدماغ عندما نقوم بتعلم شيء جديد، كما أن هذا الجزيء هو المسؤول أيضاً عن خلق حساسية مادية تجاه الأشياء بعد اضطلاعها بتجربة مؤلمة حصلت لنا.

بين الباحثون باستخدام الفئران، أنهم إذا ما قاموا بإيقاف عمل هذا الجزيء المحدد في العمود الفقري، فإن هذا يمكن أن يؤدي إلى محو الحساسية المفرطة للألم عند الفئران، ومع ذلك، فقد شكك باحثون آخرون بهذه النتيجة، حيث أنهم بينوا أن الفئران التي تولد بدون جزيء (PKMzeta) يكون ما يزال بمقدورها الشعور بالألم.

ماذا عن آلام التي تنتج عن عدم الارتياح أو الصدمة التي يمكن أن تترافق مع بعض الإجراءات الطبية؟

بعد الانتهاء من عملية تنظير القولون تحت تأثير التخدير النصفي، عادة ما يتم إعطاء المرضى دواء يدعى (ميدازولام) وهو دواء لمعالجة التوتر والقلق ويعزز أيضاً من تسريع عملية فقدان الذاكرة – فهو يمنع تشكيل الذكريات الجديدة -، وعلى الرغم من أن المرضى قد يجفلون أو يتلوون ويشعرون بعدم الراحة أثناء إجراء التنظير، إلّا أن الأطباء يأملون أنه من خلال إعطائهم لهذا الدواء سينسون شعورهم بالألم والانزعاج بعد الانتهاء من الإجراء، ولكن مع ذلك فقد شكك البعض في أخلاقيات هذا النهج أو بشكل أكثر تحديداً من آثار هذا النهج.

قام (اندرو ديفيدسون)، وهو طبيب تخدير في المستشفى الملكي للأطفال في ولاية فيكتوريا، أستراليا، بنشر بحث في العام الماضي حذر فيه من أنه على الرغم من أن الأدوية التي تشبه (ميدازولام) يمكن أن تجعل من الصعب على الشخص تشكيل ذكريات واعية، إلّا أنها يمكن أيضاً أن تترك الذكريات الضمنية بحالتها السليمة، وهذه الذكريات هي التي تؤثر علينا على الرغم من أننا لا يمكن أن نتذكرها بطريقة واعية تماماً، فنحن عادة ما نتذكر كيف نقوم بتبكيل أزرار القميص أو نقوم بتذكر طريقنا لمحطة الوقود دون أن نفكر في الوقت الذي قمنا فيه بتشكيل هذه الذكريات، ولذلك يشير (ديفيدسون) أنه على الرغم من عدم تذكرنا للألم الذي مررنا به أثناء إجراء فحص للقولون بالمنظار، إلّا أننا قد نشعر بعدم الارتياح بشكل غريب عند المرور بجانب خرطوم مياه مثلاً، لذلك سيكون أكثر أخلاقية إذا ما تم تحذير المرضى مقدماً بأن هذا يمكن أن يحدث.

بالنتيجة فإن المناقشات حول مدى أخلاقية هذه الأدوية ما يزال قيد البحث، ولكن هذا للأسف لا يلغي حقيقة أن نسيان الألم بالنسبة للأشخاص الذين مروا بتجربة الولادة أو أي نوع آخر من التجارب التي تتضمن الشعور بالألم هو مجرد خرافة.