خبر بؤس الأمة وحرب اليمن .. علي عقلة عرسان

الساعة 05:19 م|27 مارس 2015

 

حرب التحالف العشري في اليمن، رداً على تمدد الحوثيين وحلفائهم نحو عدن، بعد السيطرة على صنعاء وكل مؤسسات الدولة و مرافقها، والانتشار في أرجاء اليمن بقوة السلاح.. تضيف إلى مأساة اليمن مآسٍ للأمة تزيدها محناً ولا ينجو منها اليمن الذي لن تتوقف محنته عند حدوده، ولن تنتهي حين تنتهي.. بل ستؤسس لحروب وعداوات، وتجدد ما يختمر في النفوس من صراعات وثارات، وستجعل الوطن العربي كله، وليس الخليج واليمن فقط، يغرق أكثر مما يغرق الآن، في الدم والوحل. لم نعد نتكلم اليوم عن ضعف الأمة وغياب التضامن العربي، ولا عن جامعة عربية كسيحة متهالكة لا تنقذ ولا تستنقذ، بل وتساهم أحياناً في استعداء قوى على أقطار عربية ومن ثم على الأمة بدلاً من أن تحمي وتدافع وتحل المشكلات وتقف ضد العدوات والاحتلال بحزم وحكمة.. بل عن هيكل عظمي لجامعة نحافظ عليه، لعلنا نستعيدها وتستعيد حياة وحياء، بعد أن أصبحت عبئاً علينا وعلى الحياة والحياء فينا..؟!

لقد أصحنا نتحدث اليوم عن إخماد بعض النار التي تكتسح الأمة وتوشك أن تجعل بعض الأقطار العربية أشلاء وبقايا دول ومجتمعات.. أما فلسطين فلم يتم خذلان شعبها ومقاوتها ونسيانها فقط، بل وُهبت للصهاينة مع تحالف عربي يناصرهم سراً أو علناً، مضافاً إلى ذلك التحالف الغربي الذي يقيم « إسرائيل » على صدر الأمة العربية كابوساً منذ عقود من الزمن، ويعطيها كل الفرص والإمكانيات لتتوسع وتهود وتهيمن.؟!

إننا نتابع اليوم بذهول حمية وشهامة وشجاعة وقوة وشراسة عربية وإسلامية، بل ووحشية في صراعات دامية تمتد منذ سنوات بين عرب وعرب، وبين عرب ومسلمين، ومسلمين وعرب.. لكننا لم نر شيئاً من ذلك، ولا صبراً على مكاره الحرب والاستمرار في خوضها، رغم الدمار والتضحيات الكبار، في مواجهة لعدوان الصهاينة على العرب، وعدوان التحالف الأميركي على بعض البلدان العربية؟! إننا نقف على ذلك الحجم من الشدة والرجولة والبطولة حين يتعلق الأمر بهجوم العرب بعضهم على بعض، وفي تقتالهم ضمن إطار عداوات وخلافات وسياسات مرت عليها القرون وما زالت حية ومصدراً للثأر، وسبباً في حروب عرب ضد عرب، ومسلمين ضد عرب، وعرب ومسلمين ضد عرب ومسلمين.. أما حين يتعلق الأمر بعمل لتحرير أرض محتلة، أو دفع عدوان غاشم، أو استنقاذ مقدس، أو وضع حد لظلم وقهر وطغيان وفساد يهلك الأمة وينال من القومية والهوية والدين.. فهم الضعف والتخاذل والهشاشة والغيبوبة والغياب.. وإذا فرضت عليهم حرب أو خاضوها فلأيام معدودات فقط، يلقون خلالها السلاح ويتنازلون عن حق وأرض وكرامة، وينسون الأمر من بعد في عملية كبت جماعي غير معهودة في تاريخ الشعوب والأمم.

حرب عام ١٩٤٨ مع الصهاينة كانت لأيام وسلمنا الأرض وسكتنا على ذهاب الحق وتشرد الشعب، وحرب حزيران ١٩٦٧ دامت عملياً ساعات وسجلناها أياماً ستة وخسرنا فيها أرضاً وقوة وكرامة، وحرب رمضان - تشرين/ أكتوبر ١٩٧٣ لم تستمر أكثر من عشرة أيام خضناها بعزم ثم نمنا ولم نحقق فيها الحسم.. والحروب الأخرى منذ اجتياح لبنان واحتلال بيروت حتى آخر عدوان على غزة، بما في ذلك زمن المحنة بتدمير العراق واحتلاله، كان المتفرجون والمتآمرون منا أكثر بكثير ممن يشاركون أو يتصدون ويؤيدون.. أما صراعات « الربيع العربي الكئيب »، فهي مستمرة بوحشية وتتجدد بعنجهية، وتحصد مئات آلاف الأرواح وتدمر المدن والقرى وتستنفد الطاقات وتدوم سنوات وسنوات؟! 

لقد هددت الحرب في اليمن مضيق باب المندق وتجارة النفط وأسواقه، وأنذرت بتقويض الدولة وأمن الدول المجاورة لليمين لا سيما دول الخليج العربي.. ولم يلح في الأفق وفاق ولا اتفاق ولا ردع من أي نوع لمن يشعلون النار ويريدونها حرباً مذهبية.. فولد تحالف « »عشري« ودخلت أكثر من ١٧٠ طائرة حربية عربية في غارات على اليمن.. من قبل رأينا طائرات عربية تضرب مواقع في سورية والعراق.. وقبل ذلك بسنوات سهل عرب من العرب مهام الأميركيين وتحالفهم العدواني عملية تدمير العراق واحتلاله وإشعال نار الفتنة فيه.. ويمكن الوقوف عند حالات وحالات من هذا النوع، بعضها معروف وبعضها يحتاج إلى زمن كي يُعرف.. ولكن لم نر على مدى سبعين عاماً قوى عربية جوية وبحرية وحتى برية، ولا تحالفات زادت على ثلاثية في حدود مقاومات شعبية، شاركت في رد عدوان »إسرائيل« على غزة ولا في كسر الحصار المفروض عليها منذ سنوات، ولا استنفرت جيوش عربية من أجل الأقصى والقدس، ولا مَن رفع اليد والصوت بوجه صراعات تنهك الأمة العربية وتضعفها وتحيق مخاطرها ببلد مسلم يستهدفه أعداء العروبة والإسلام.. بل رأينا العكس في حالات وحالات..

إن هذا يتخطى العتب، ويدخل في باب العجب ويثير ما هو أكثر من الغضب.. ولكن ما يشكل قهراً وعاراً وبلا ضفاف يوجد بوضوح أشد في تشجيع دول وقوى عربية للعدو الصهيوني على الاستمرار في العدوان والقتل وإطالة أمدهما، وعلى تشديد الحصار على شعب يرفض التنازل عن حقه في الحياة وتقرير المصير في وطنه التاريخي فلسطين، ووسمعنا مطالبة باستمرار العدوان على مقاومة تستهدف الاحتلال، حتى يتم اجتثاثها تماماً؟! ورأينا في ذلك تحالفاً مع العدو الصهيوني بصور ظاهرة وباطنة، خفية ومكشوفة.. على قضية عربية عادلة، وشعب طالت مأساته، ومواقف متشددة ومتشنجة ضد كل من يدعم قضية عادلة ومقاومة مشروعة لشعب ذاق الأمرين طوال عقود من الزمن، هو شعب فلسطين صاحب التضحيات والبطولات على طريق قضية العرب المركزية في نضالهم الحديث.؟!

نحن بعد الكوارث المستمرة في سورية والعراق أمام حرب في اليمن ذات أبعاد قد تخرج عن السيطرة فتشعل مناطق أوسع كما حصل ويحصل في سورية منذ نيِّفٍ وأربع سنوات.. ويبدو أن حرباً في اليمن أو عليه هي نذير شؤم على الأمة العربية.. فالحرب التي دخلتها مصر عبد الناصر في اليمن دعماً للثورة على الملكية ساهمت بقدر ما في هزيمتنا عام ١٩٦٧ حين هددت مصر بإغلاق مضيق باب المندب قبل استكمال الاستعدادات فشن الصهاينة عدوانهم المبيت بتلك الذريعة، بينما مصر ما تزال غارقة بشكل ما في حرب اليمن وآثارها.. والحرب في اليمن اليوم التي يخوضها التحالف »العشري" دعماً للشرعية في وجه الحوثيين والتطرف المذهبي والفوضى التي خلقوها، ربما تكون أشد ضرراً على الأمة إذا ما تطورت إلى فتنة سنية - شيعية واسعة النطاق، لا سمح الله، بتدخل إيراني مباشر فيها دعماً للحوثيين المحسوبين عليها الذين يتلقون الدعم منهم، لا سيما وأن تلك الفتنة المذهبية مشتعلة في العراق وسورية ولبنان منذ سنوات. لن يؤخذ الجانب السياسي - الاستراتيجي - الاقتصادي - الأمني، الإقليمي والدولي فقط في العتبار، وأنه سبب مرجح في ذلك الأمر، وإنما سيركز على جوانب أخرى لا سيما مع استمرار الشحن المذهبي وتعميق الكراهية في ذلك المنحى منذ سنوات، لا سيما بعد أن أصبح الاصطفاف المذهبي شديداً ووالغاً في الدم. إن هذه الأزمة كان وما زال يقتضي الأمر معالجتها سلمياً ورفع الصوت في وجه القائمين عليها قبل أن تستفحل.. وقد كان تمددها العنفي وتعديها على الشرعية أمام نظر الجميع.. ويقرأ من ذلك ما هو خطر قادم أوسع وأشمل.

بؤس الأمة وبؤس السياسة وبؤس التفكير والتدبير.. كل ذلك لا يكفي وصفاً للحال الذي نحن فيه، ولا لتقدير حجم الكارثة المحتملة التي تقبل عليها الأمة، وقد تفوق بكثير كل ما رأيناه وما سمعنا به حتى الآن في العراق وسورية ولبنان واليمن و..إلخ، إنها ستكون طامة كبرى.. ولا نتكلم عن الكارثة في فلسطين، ولا عن القضية والشعب المحاصر الملاحق بالقتل والبؤس في كل المواقع التي يجتاحها الاحتلال بعنصرية بغيضة.. فبؤس الموقف من فلسطين علة لا برأ منها كما يبدو.. بل نتكلم عن التفاعلات التي ستحدث من جراء الحرب المتعددة الأطراف في اليمن، وما تحمله من شرور داخلية وخارجية، وما يمكن أن يفضي إليه الوضع هناك من صراعات متعددة الأشكال والأنواع: أهلية قبيلية وعائلية، مذهبية، سياسية، وقطرية عربية، وربما دولية.. فتلك كفيلة بأن تقضي على الكثير الكثير مما يكوّن أمة، بل بلداناً قابلة للتفاهم والتعاون والحياة والنهوض في مساحات بشرية وجغرافية عربية وإسلامية على الخصوص.. وربما يعود الاستعمار المباشر إلى كثير مما يسمى اليوم بلداناً عربية مستقلة شكلياً.. بذرائع منها المحافظة على الممرات المائية الدولية، والقضاء على الإرهاب، ومواجهة الدول الفاشلة، والمحافظة على الأمن والسلم الدوليين.. وما لا يمكن التفكير به من ذرائع تملأ رؤوس المستعمرين وأصحاب المصالح والاستراتيجيات المتنافسة أو المتصارعة دولياً.. لا سيما في منطقة حساسة مثل باب المندب وقناة السويس وبحر العرب وصولاً إلى خليج هرمز.. فهناك اليوم في بعض بلداننا العربية المشتعلة فيها نار الحرب أو التي تخاف من اشتعالها فيها، من يطلب التدخل الأميركي والغربي والروسي و.. بقوات جوية وبرية لحسم صراع بين فرقاء يتطاحنون في بعض البلدان، ودول تستعد للتدخل في حروب، وهناك من يعلن أنه على استعداد لإعطاء من يناصرونه في قتاله الداخلي أو يحمونه ويتحالفون معه، قواعد عسكرية، جوية وبحرية.. وهناك من وقع منذ عقود من الزمن تحت رحمة القواعد الأجنبية المقامة في أرضه ومياهه وتحكمها في الكثير من مقدراته بصورة معلنة أو غير معلنة، حتى لم يعد له من أمر نفسه شيئاً، وغدا يقدم لمن يحتلون بلاده تكاليف احتلالهم لها، ويدفع ما لا يمكن تصوره من أموال، ويقدم ما لا يعد ولا يحصى من خدمات وتسهيلات، لمن يدعي أنه يحميه ويبقيه في موقعه، أو أنه سيشن حرباً من أجله، على أعداء له؟؟! وما هم سوى أبناء أمته ودينه.. وتلك في حقيقة الأمر الحروب المستمرة على العروبة والإسلام منذ ما قبل الحروب الصليبية وحتى الآن، بوسائل وأساليب وذرائع متعددة.!!

ما أعرفه أو أتوقعه أو أرجوه.. أن تكون هناك حدود تضعها الشعوب الواعية لمواجهة الأخطار التي تداهمها، ولانهيار العقل وتهافت السياسات والحكومات والتدابير، ولانتشار الفوضى والرعب والإرهاب، وسيطرة المتطرفين وأمراء الحرب وقطاع الطرق والفاسدين والمفسدين والمرتزقة والساسة الحمقى ومن في حكمهم.. لكي تُنقذ البلدان والأرواح والحضارة، وتحفظ الأمن والبقاء.. حين تنهض بوعي وقوة ووحدة من أجل ذلك.. لكن في وضعنا العربي اليوم لا يبدو أن هناك مناخاً ملائماً لوضع حدود لكل ما سبق، مما يهد الأمن والبقاء ولا للجم الخونة والمتآمرين والمتطرفين والإرهابيين والحكام الفاسدين المفسدين، ولا لرفض التبعية المستشرية، وإزاحة الغباء وانعدام المسؤولية بكل أشكالها وصورها ودرجاتها عن مواقع التحكم بالناس والبلدان والأمور.. لأن من يرجى منهم أن يخلقوا ذلك المناخ، وأن يشكلوا تلك القوة، ويضعوا تلك الحدود، ويفرضوا ما هو منقذ وفي الصالح العام.. مشتتون متنابذون متعادون.. ومنخرطون في ذلك الصراع بصورة ما، وغارقون في التجارة بالسياسة والناس، وفي الفوضى والدم والإثم والجرم  والجنون.. فهم يشكلون مادة المأساة.. وهم الحطب والنار ومن يحترقون بها.

كان الله في العون.

 

دمشق في الجمعة، ٢٧ آذار، ٢٠١٥

 

علي عقلة عرسان