خبر تحليل: الحرب الأخيرة على غزة من المنظور العسكري

الساعة 11:58 ص|22 مارس 2015

فلسطين اليوم

أطلس للدراسات

نواصل نشر المسح الاستراتيجي لإسرائيل (2014-2105) الصادر عن مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي - تل أبيب على حلقات، وبعد ان نشرنا في العدد السابق الحرب من المنظور السياسي؛ ننشر في هذا العدد الحرب من المنظور العسكري.

وتعرض الحلقة الثالثة للاستخلاصات والدروس المستقاة من الحرب، الصعوبات التي واجهت جيش الاحتلال والتحدي الكبير الذي شكلته الأنفاق الهجومية أو داخل القطاع نفسه، كذلك وحدات الكوماندوز البحرية وطائرات بدون طيار، وللجدل في المستوى السياسي حول تحديد أهداف الحرب، وتتعرض لمزاعم ومطالبات اليمين السياسي بالقدرة على تقويض سلطة حماس وقهر التنظيم، والجدل السياسي الجماهيري حول جدوى العمليات البرية، والمزاعم والتقديرات التي جرى طرحها وأسباب امتناع القيادة العسكرية والسياسية عن القيام بعمليات برية.

 

في معركة « الجرف الصامد » وعلى عكس جولات القتال السابقة بين إسرائيل وحماس، لم يكتفِ التنظيم بإطلاق الصواريخ ومدافع الهاون تجاه الأهداف الإسرائيلية، وخصوصاً البلدات المدنية، وإنما حاول مهاجمة أهداف إسرائيلية بوسائل قتال أخرى: تسلل قوات إلى داخل المناطق الإسرائيلية باستخدام الأنفاق الهجومية القاطعة للحدود إلى الداخل الإسرائيلي، وتسلل قوة كوماندوز بحرية عبر البحر وطائرات بدون طيار قامت بمهمات قتالية انتحارية؛ هذا التنوع في الأساليب العملية يدل على ان هناك فهم لدى حماس بأن عليها ان تعطي رداً على الحلول التي طورتها إسرائيل لمواجهة تهديد الصواريخ.

بدأت المعركة وفي حوزة حماس والفصائل الأخرى العاملة في قطاع غزة مخزون صواريخ أكثر مما كان في الجولات السابقة (أكثر من 10000 صاروخ) بما في ذلك صواريخ بعيدة المدى، وبأعداد أكثر بكثير، والتي غطت منطقة إسرائيل وصولا إلى القوس الشامل للقدس « زيخرون يعكوف »، الرد الإسرائيلي التنفيذي والمتكون من أجهزة دفاعية  ضد الصواريخ « القبة الحديدية » (بنسبة نجاح اعتراض زادت عن الـ 90%)، ومنظومة إنذار وصافرات مجدية، وكذلك ساحات محصنة أثبت انها فاعلة جداً، ووفرت التحصين المجدي للسكان في معظم المنطقة الإسرائيلية التي تبلغها صواريخ غزة، كذلك مكنت المنظومة الدفاعية الإسرائيلية غالبية سكان إسرائيل من مزاولة عملهم كالمعتاد، ولكن لا يوجد إلى الآن حل جيد أفضل للحاجات الدفاعية للبلدات في المنطقة القريبة من القطاع « غلاف غزة »، وهي المنطقة التي عانت من إطلاق مدافع الهاون التي لا توفر القبة الحديدية حلاً لها، وكذلك إطلاق الصواريخ قصيرة المدى المكثف، والتي يصعب على القبة الحديدية أيضاً أن تتصدى لها، كثافة النيران لم  تسمح  بممارسة الحياة الاعتيادية لسكان هذه البلدات، وأوقات الانذار القصيرة لم تمكنهم دوماً من الوصول إلى الساحات المحصنة.

إجمالاً، عدد المصابين من إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون على مدار 50 يوماً من القتال كان منخفضاً جداً، الدرس الأساسي من المعركة في هذا المجال انه يجب تطوير ردود مجدية لمدافع الهاون والصواريخ قصيرة المدى، وإلى ذلك  فيمكن التأكيد ان حماس لم تنجح  في إطلاق زخات ثقيلة من الصواريخ، ومن الممكن انه وبهدف مواجهة   أحداث خطيرة أكثر مثل إطلاق الطائرات بدون طيار والصواريخ وصواريخ أرض – أرض من قبل حزب الله في الشمال على سبيل المثال ستضطر إسرائيل إلى عدد أكبر بكثير من بطاريات « القبة الحديدية »، وكذلك إلى منظومة « العصا السحرية ».

نجحت إسرائيل ان تحبط وبفاعلية مجدية محاولات التسلل من البحر وهجمات الطائرات بدون طيار، ولكن القتال في مواجهة المتسللين عبر الأنفاق كان تحدياً صعباً جداً، في السنوات الأخيرة بنت حماس عشرات الأنفاق العابرة للمناطق الإسرائيلية، وجزء قليل منها اكتشف ودمر من قبل الجيش الإسرائيلي قبل الحرب، كان معروفاً بأن هناك أنفاق أخرى كثيرة، ولكن محاولات تطوير وسائل تقنية لتتبع الأنفاق فشلت، ولم يكن من الممكن تدميرها ما لم يحدد موقعها بشكل دقيق، نشأت خشية كبيرة من ان الأنفاق قد تستخدم في تسلل قوات تهاجم البلدات الإسرائيلية والرد التنفيذي  الأساسي الذي أعطي لهذا التهديد كان مضاعفة منظومة  التشخيص والمعدة لتعقب القوات المهاجمة عند خروجها على وجه الأرض، وكذلك مضاعفة منظومة الدفاع حول البلدات، لم يهاجم أي مواطن أو بلدة بهذه الطريقة لكن التسلل عبر الأنفاق مكّن رجال حماس من موجهة قوات الجيش الإسرائيلي وبظروف مريحة نسبياً من ناحيتهم والتسبب بخسائر في أوساط الجنود.

في هذه المعركة هوجم عدد أكبر بكثير من الأهداف بالنسبة للمواجهات السابقة، سواء بسبب نجاح المخابرات الإسرائيلية في جمع عدد كبير من الأهداف أو بسبب تواصل المعركة الطويل الأمد نسبياً، وقدرة المخابرات الفائقة على تعقب أهداف جديدة أثناء الحرب، في المقابل فإن ثلاثة عناصر حدت من فاعلية الهجمات: الأول هو الجهود الكبيرة التي بذلتها حماس في الدفاع عن غالبية أدواتها القتالية من خلال تكمينها تحت الأرض. والثاني كان استخدام حماس المضاعف للسكان بهدف عدم تمكين الجيش الإسرائيلي من المساس بقدراتها العسكرية، الوسائل القتالية ومخازن التسليح ومراكز القيادة وورشات الانتاج التابعة للتنظيم وضعت في أوساط السكان المدنيين، وفي بعض الأحيان قريباً من المؤسسات المدنية الحساسة مثل المدارس والمشافي والعيادات ومؤسسات الأمم المتحدة والمساجد؛ هذا السلوك من قبل حماس جعل من الصعب على الجيش الإسرائيلي منع وقوع الأضرار الواسعة، قدر بأن أكثر من 50% من المصابين في القطاع كانوا « غير مشاركين »، هذه النتيجة كان لها تأثير خطير على صورة إسرائيل في العالم. العنصر الثالث كان شبكة الأنفاق في داخل منطقة القطاع نفسها، إلى جانب الأنفاق الهجومية التي على الحدود مع إسرائيل، مقاتلو حماس كانوا محصنين بداخلها، وتمكنوا من التحرك بحرية والتزود بالقوات، وفاجأوا قوات الجيش الإسرائيلي بالعمل من داخل الأنفاق في مرحلة الحرب البرية.

منذ مرحلة مبكرة من المعركة جرى جدل في المستوى السياسي في إسرائيل حول تحديد أهدافها، وكدرس مستفاد من معارك غير متكافئة سابقة، حددت الحكومة أهدافاً متواضعة جداً؛ الهدف الأول كان « الهدوء مقابل الهدوء » و« تكبيد الثمن لحماس » هذه المصطلحات عكست الفهم بأن المواجهة هي نتيجة لانهيار الردع الإسرائيلي، والهدف الثاني هو ترميم هذا الردع، وأن من الممكن تحقيق ذلك بإحباط محاولات حماس التسبب بخسائر لدى الجانب الإسرائيلي وتدفيعه الثمن عندما يكتشف انه يدفع ثمناً باهظاً مقابل انجازات قليلة، إن أمكنه تحقيق انجازات أصلاً، ترجمت هذه الأهداف باستخدام منظومة دفاعية فاعلة، والرد بالهجمات المضادة، ولا سيما الهجمات الجوية، وكذلك البحرية والبرية.

سمعت في إسرائيل أصوات – ولا سيما في أوساط اليمين السياسي – نادت بتحديد أهداف أكثر طموحاً للعملية مثل تقويض سلطة حماس في غزة وقهر التنظيم، هكذا دار جدل وفق الحاجة لخطوات برية، بالإضافة إلى الرد المضاد، المزاعم المتعلقة بهذا الشأن كانت تقول انه لا يمكن قهر حماس وتقويض سلطتها من دون العمليات البرية، وكان هناك من تمسك بالقول ان ترميم الردع أيضاً يتطلب خطوات برية، إذ فعلاً لو ان حماس قدرت بأن إسرائيل غير مستعدة لدفع أثمان العمليات البرية فستضرر قدرتها في مشروع الردع، وحتى نهاية المعركة تقريباً واصلت القيادة السياسية، وعلى ما أظن القيادة العسكرية أيضاً في إسرائيل، تبني مفهوم الامتناع عن القيام بعمليات برية، وانه يكفي المساس الشديد ببنى حماس عبر الهجمات المضادة، بالإضافة إلى فاعلية المنظومة الدفاعية الإسرائيلية بهدف تحقيق ردع حقيقي، وإلى ذلك فإن تحقق التهديد الكامن في الأنفاق الهجومية أدى إلى الاعتراف بأن هناك حاجة  للعميات البرية المحدودة بهدف معالجة تلك الأنفاق وتدميرها؛ لتحقيق هذا الهدف دخلت قوات برية إلى القطاع على طول الحدود، وعلى عمق حوالي 3 كم، واكتشفوا الأنفاق ودمروها، وغادرت تلك القوات قطاع غزة بعد إتمام مهمتها التنفيذية.

الغالبية العظمى من بين القتلى الإسرائيليين الـ 74 في المعركة سقطوا في هذه العمليات البرية، وهو ثمن باهظ نسبياً في الأرواح، والسبب في ذلك كان انه في الكثير من مناطق القطاع المساحات المبنية موجودة بالقرب من الحدود مع إسرائيل؛ هذا الواقع اضطر القوات الإسرائيلية إلى القتال في مناطق مبنية لكي يتعقب الأنفاق ويدمرها، ولنفس السبب كان هناك الكثير من الضحايا من بين « غير المشاركين »، في حين اضطرت القوات الإسرائيلية إلى استخدام النيران الثقيلة لكي تنجو من الأوضاع الكارثية.

على هذه الخلفية ثار في الوسط السياسي والجماهيري في إسرائيل جدل حول العمليات البرية المطلوبة، من بين ذلك قيل انه كان من الأفضل استخدام قوات منأورة تتسلل عميقاً داخل قطاع غزة – وصولاً إلى شاطئ البحر إذا اقتضى الأمر – من خلال استغلال المناطق المفتوحة، تأسس هذا الزعم على التقدير بأن القتال في المناطق الأقل ازدحاماً كان سيجني ثمناً أكبر من حماس، وكان ذلك ليشكل عليها ضغطاً كبيراً أكثر مما حدث في الواقع، ليتوقف القتال، ولكن تأييد هذا الفهم التنفيذي لم يكن يختصر الحاجة إلى تتبع الأنفاق وهدمها، كذلك فمن غير الواضح إلى أي حد كان من الممكن تحقيق الأهداف التي توقعها من أيّد هذا الخيار في معركة غير متكافئة فيها، القوة المضادة تستخدم أسلوب حرب العصابات، إلى جانب مقاتلين نظاميين مستوعبين في وسط مدني.

معركة « الجرف الصامد » صقلت الفهم بأن الردع هو مقارنة ذات طرفين؛ في الطرف الأول القدرة على إحباط تجهيزات الطرف الثاني وفرض تهديد ذي مصداقية ومعاقبته في حال حقق مخططاته في الجانب الثاني، قوة الحوافز لدى الجانب الثاني للشروع في مواجهة عنيفة؛ إذ ان هذا الجانب لديه حوافز كبيرة لتغيير الوضع القائم لأنه لا يطاق بالنسبة إليه، ومن ثم فإن مصير جهود الردع هو الفشل، وفي كثير من النواحي كان هذا وضع حماس عشية المعركة، ومن المفترض فيما لو لم تتوصل كل من إسرائيل وحماس إلى اتفاق وقف نار طويل الأمد يكون من الصعب على حماس وفق شروطها تبرير تجدد إطلاق النار، ذلك عقب العدد الكبير من الضحايا – حوالي ألفان وثلاثمائة من القتلى – والكم الهائل من الدمار الذي حل بالقطاع أثناء المعركة، وإضافة إلى ذلك الفاعلية المصرية في إحباط تهريب الوسائل القتالية إلى تخوم القطاع يجعل من الصعب على حماس ترميم قدراتها العسكرية، وعلى أية حال فإن مدى نجاح الجهود في ترميم الردع الإسرائيلي تجاه حماس يمكن تفحصه على طول الوقت.

صورة الحرب غير المتكافئة بين إسرائيل وحماس تسببت بالإحباط في أوساط طبقات واسعة في الجمهور والمستوى السياسي الإسرائيلييْن، كان من الصعب على الكثيرين فهم أو قبول حقيقة ان جيشاً ذا قدرات هائلة مثل الجيش الإسرائيلي غير قادر على هزيمة وإخضاع قوة عسكرية لـ « جناح » مثل حماس، كذلك من الصعب الاقناع انه ولكي تهزم قوة عسكرية مثل قوة حماس ونزع سلاحها يجب احتلال  القطاع والسيطرة عليه لفترة طويلة، ستكون مطلوبة لكي تتعقب الخلايا وتحبط قدرتها على التحرك، وأثناء ذلك الاحتلال سيجري قتال إرهابي ضد الجيش الإسرائيلي، الحكومة الإسرائيلية فضلت عدم دفع هذا الثمن الكامن في احتلال القطاع والإقامة المتواصلة وكثيرة الدماء؛ إذ انه من غير الواضح كيف ومتى سيكون من الممكن العودة أو الخروج من هناك، ولأنه كان واضحاً ان احتلال غزة من جديد لن يخضع حماس، فهي حركة سياسية واجتماعية متجذرة عميقاً في المجتمع الفلسطيني.