خبر في غزة: « ضحايا » رهن الانتظار

الساعة 09:00 ص|11 مارس 2015

فلسطين اليوم

كل العيون متجهةٌ صوبه بترقب وأمل، فهناك من يتمنى تجاوزه، وغيره ينتظر بوابته لتفرجَ عن الغيّاب الذين طال بهم الزمان خارج حدود غزة وبعيداً عن ذويهم، فهنا في معبر رفح البري جنوب قطاع غزة تسمع من القصص ما يذهلك ويحزنك ويصيبك بالذهول، قصةً تحكي معاناة لمريض، وأخرى لطالب، وغيرها لعامل أو مقيم خارج البلاد وإقامته شارفت على الانتهاء، والكثير الكثير مما تضج به صالات وبوابات هذا المكان.

معبر رفح المنفذ الوحيد لقطاع غزة، يحتاج لمغادرته سنوياً مايقارب 200 ألف مواطن، تواصل السلطات المصرية إغلاقه بشكل متكرر، بحجة الأحداث الأمنية في سيناء، الأمر الذي يعيق تحركات المواطنين الماسة للسفر، ويضاعف من معاناتهم وآلامهم والخسائر التي يتكبدوها جراء تأخر سفرهم.

الحاجة صباح الشوربجي 52 عاماً التي أعياها انتظار إذن دخولها أو ظهور اسمها في أيّ كشفٍ للأسماء يأذن لها بالسفر والعودة إلى مكان إقامتها في السعودية حيث زوجها وأبناؤها الذين أضناهم البُعد وحرقت قلوبهم اللوعة إثر غياب أمهم الطويل.

الإقامة انتهت

بحزنٍ عميق وحسرة تقول الشوربجي لـ« وكالة فلسطين اليوم الإخبارية »، أنها جاءت لزيارة أخيها الوحيد الذي لم تره منذ عشرين عاماً ومشاركته فرحة عقد قران ابنه الذي لم تره منذ كان طفلاً، واليوم شارفت إقامتها في المملكة السعودية على الانتهاء فلم يتبق لها سوى بضع أيامٍبعد محاولات حثيثة للسفر باءت جميعها بالفشل، مما قد يفقدها حق السفر والعودة لرؤية زوجها وبناتها الست الذي قد يودي بأسباب الحياة والبقاء عندها إلى الهاوية كما تقول.

وتتابع الشربجي « أنا امرأة كبيرة في العمر وحياتي مرتبطة بزوجي وبناتي في السعودية، وهم كل حياتي فعلياً، وكان لدي أمل أن يُدوّن اسمي في سجل المسافرين الذين سيغادرون القطاع بعد أن أعلنت السلطات المصرية عن فتح معبر رفح يومي الإثنين والثلاثاء الجاري، ومجرد التفكير أنني لن أعود لزوجي وأطفالي يصيبني بالاكتئاب والوجع ».

ورغم كلّ ما ألمّ بها من خوف وقلق تبقى نبرة الأمل المجبولة بالألم غالبة على صوتها، فهي ما زالت تناشد وتنادي وتدق باب كل من يستطيع المساعدة، وترجو من الله أن يعيدها إلى أهلها وبيتها وأن يجد لها طريقاً ودرباً للمساعدة.

وليس ببعيد عن نبرة حزن الشربجي تسمع أنيناً خافتاً يداري وجعاً كبيراً حينما تحادث رائد الطويل 33 عاماً من مخيم النصيرات، الطويل الذي أنهكته رحلة المرض والعلاج داخل مستشفيات غزة ، فبعد 3 عمليات فاشلة لمعالجة القولون لدى رائد، بدأ بالسعي للخروج من القطاع لتلقي العلاج الذي لا ينتظر حتى لا تتفاقم حالته وتزداد سواءً.



رائد-الطويل

المرض الخبيث والعلاج بالخارج

« حصلت على اعفاءٍ من المدينة الطبية في عمّان بعد أن اطّلعوا على حالتي، وقالوا أنّ الانتظار أكثر قد يسهم في ظهور مرض خبيث يصعب جداً علاجه، وأنني أحتاج إلى العلاج خارج القطاع، لذلك سعيت كثيراً للخروج عبر معبر بين حانون »إيرز« لكن تمّ رفضي، ولا زلت أحاول حتى لا أفقد الاعفاء الذي ينتهي في 12- 3 من العام الحالي » يقول الطويل لـ« وكالة فلسطين اليوم الإخبارية ».

لم يكتفِ الطويل بمحاولة السفر عبر معبر « إيرز » وحاول جاهداً الحصول على تحويلة طبية للخروج عبر معبر رفح البري، لكن محاولته ذهبت أدراج الرياح، لكن عزيمته وخوف أهله عليه وقفا دون استسلامه، ليقوم بعمل نموذج للعلاج على حسابه الشخصي حتى يتسنى له الخروج، ذلك الذي لم يفلح بعد أن وقف معبر رفح حائلاً دون خروجه لعدم ظهور اسمه في كشف المسافرين.

ومن واقع حسرته وسخطه على الحال التي آل إليها يقول الطويل « أنا عامل ورزقي محدود ومرضي يمنعني في كثير من الأحيان أن أباشر عملي أو الحركة حتى، لديّ زوجة وثلاث أطفال أسعى جاهداً كي لا ينقصهم شيء ومع ذلك لا أستطيع، وعندما حصلت على رقم ايصال (260 ) للخروج من معبر رفح كحالة مرضية تفاجأت أن شخصاً آخر يحمل الرقم ويسافر بدلاً عني، وأنا لا حيلة لديّ اليوم بعد أن طرقت جميع الأبواب للمساعدة ولا أعرف ماذا أفعل »

اسماعيل الطويل شقيق رائد لم يستطع السكوت أثناء حوارنا وانفجر بحرقة وغضب على الحال الذي يواجهه سكان قطاع غزة وأخيه رائد، فأكد أنّ الأطباء قالوا أن المرض الخبيث سيتفشى في جسد أخيه إن لم يستطع العلاج في وقت قريب، وأنه لن يحتمل أن يرى أخيه وهو يحتضر أمامه، وناشد الجميع وكل من يستطيع المساعدة أن يتدخل لكي ينقذ أخيه من المستقبل الأسود إذا لم يتم علاجه.

وفي ذات سياق المعاناة، يقبع الطالب أحمد السباخي18 عاماً في أرقٍ وهمٍ لا يفارقانه، هو الذي أنجز دراسته في الثانوية العامة للعام الفائت بتفوقٍ كبير، وبدأ يرسم أحلامه بالسفر خارجاً ودراسة الطب في أوكرانيا، وبالفعل بدأ بالخطوات للحصول على التأشيرة وقبول الجامعة، وحصل عليها فعلاً، مما أثلج قلبه وأسعد الأهل والأصدقاء، إلى أن اصطدم بجدران معبر رفح الذي سجّل له أكثر من مرة وباءت محاولاته جميعاً بالفشل.



أحمد السباخي

دراسة الطب

وبقول السباخي لـ« وكالة فلسطين اليوم الإخبارية » « كنت دوماً أحلم بالسفر وبدراسة الطب في دولة أوروبية والتفوق والتخصص في قسم الأعصاب، لذلك قام أهلي بمساندة حلمي وكانوا يشجعونني دوماً لكي أصل إليه، وبحمد لله ثم دعم الأهل والأصدقاء وصلت لما أريد إلى أن بدأت أحلامي تتبخر على بوابة معبر رفح » .

وفي الطريق إلى ما يتمنى ويَأمل يقول السباخي « رغم كل شيء لم أقم بالتسجيل في أي جامعة في قطاع غزة بعد حصولي على القبول من جامعة عريقة في أوكرانيا، وكان لدي أمل كبير في السفر، فبعد أن انتهت تأشيرتي الأولى طلبت واحدةً أخرى وبعد سعي حثيث حصلتُ عليها وها هي اليوم تشارف على الانتهاء، وها أنا أضيِّعُ عاماً كاملاً من عمري تحت رحمةِ المعبر ».

ويتابع بأنّه لا يعرف إلى ما سيؤول له مستقبله الذي أصبح ضبابياً مخيفاً، بعد أن كانت كل المؤشرات تبشّر بالسعادة، كذلك فقد بدأ الأمر يؤثر بشكل كبير على حالته النفسية وعلى طباعه، فأصبحت مسألة السفر والسعي لها كل ما يملك الآن للخروج من الدوامة التي سقط فيها أو أسقطه فيها معبر رفح.

حبلُ المعاناة من معبرِ رفح على جرار طويلٍ يجذب أهل غزة ومنهم الشاب العشريني محمد العطار، الذي ينعمُ بفرحةٍ منقوصة، فبعد أن أتمّ اجراءات زواجهِ من غزة على ابنة عمه في ألمانيا في أجواء من السعادة والفرح، ها هو اليوم يقع حبيساً للأمل والترقّب، فكل يومٍ يمر يستنزف جزءً من تأشيرته ومن حلمهِ للوصول ومقابلة زوجته، وكل يومٍ يمر يشكل عليه عبئاً نفسياً جديد.



محمد العطار

الزواج والأهل

محمد الشاب الفنان عازف العود المبدع يسرد جزءاً من قصته لـ:« وكالة فلسطين اليوم الإخبارية » قائلاً « سعيد جداً بهذا الزواج وكنت سعيد أكثر بحصولي على تأشيرة »لمّ الشمل« التي ستجمعني بزوجتي وبيت عمي في ألمانيا، وكذلك فكرة التعرف على نمط جديد من الحياة والثقافة فكل ذلك يثير فيَّ شغف السفر، لكني اليوم متخوف جداً ممّا قد تؤول إليه الأمور، خاصة بأنّ معبر رفح لا يفتح أبوابه إلا بين فترات متباعدة جداً ».

وعن معاناة التسجيل والسفر عبر معبر رفح يشرح محمد موضحاً أن الجميع يعلم سواء من غادر أو من سمع من المغادرين مدى حجم المأساة التي يعانيها شعبنا في التسجيل والانتظار والحجوزات والوقت الطويل جداً الذي تقضيه فقط للخروج من البوابة المصرية، في حين أن الكثير ممّن هم مثله قد يفقدون تأشيرتهم للخروج مما يقد يوقعهم في مشاكل كثيرة وخطوات معقدة والعودة من نقطة الصفر، ناهيك عن مصاريف تذاكر الطيران التي قد يفقدونها، مما يستنزفهم مادياً ونفسياً.

ويتابع محمد « أزمة معبر رفح الأكبر تكون في تجاوز حدود المعبر، لكن كل من غادره يعلم كمّ المعاناة التي تقع على الفلسطيني، من أزمة غرف الترحيل وعذاباتها وافتقارها لأبسط أنواع الإنسانية، وكذلك الاستغلال المفرط من السائقين الذين سيقلونك مباشرة للمطار مستغلين حاجتك الملحّة، ولا أنسى المعاملة السيئة من الضباط والجنود المصريين في كثير من الأحيان، مما يشعرك أحياناً أنهم يرونك كعدوي وليس كشقيق محاصر ».



أحمد الصلحات

وفي الجانب الآخر والأكثر راحةً لربما من تركيا تحديداً يعبِّر الطالب الغزي أحمد الصلحات 24 عاماً الذي يدرس في إحدى الجامعات فيقول لـ« وكالة فلسطين اليوم الإخبارية » هناك « صرت أأجل سفري لغزة بالعام والعامين خوفاً من أن أزور أهلي مرةً ولا أستطيع العودة لإكمال دراستي بسبب معبر رفح ».

الصلحات الذي لم يزر غزة منذ عامين يبدو على كلامه الحسرة والاشتياق الشديد والغربة، فما يلبث أن يذكر أمه وأخوته والمواقف التي تمر سريعاً في الذاكرة وتحمل الشوق والذكريات مهما كانت بسيطة، فالغربة تنفض القلب وتتوغل عميقاً في الذاكرة كما أراد القول.

ويواسي الصلحات نفسه بقوله أنه يحاول التواصل الدائم مع أهله في غزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي لربما اختصرت المسافة، لكن يبقى الشوق للقاء ولعناق الأهل والأصدقاء هو الهاجس الأول له، متمنياً من جميع المسؤولين وأصحاب القرار أن يسارعوا في حل هذه الأزمة التي تؤرق حياتنا وتزيد من أزماتنا التي لا تنتهي.