خبر ما الدافع وراء شرب الحليب

الساعة 07:20 م|22 فبراير 2015

فلسطين اليوم

لطالما شُغِل علماء المستحاثات وعلماء الوراثة بالسبب الذي يدفع البشر لشرب الحليب، خاصة بعد أن تم اكتشاف أن الطفرات التي تسمح للبالغين بشرب الحليب هي من أقوى الطفرات في الجينوم البشري (أي أنها طفرات ثابتة يتم تداولها من جيل إلى بعده)، هذه الطفرات تؤدي إلى قيام جسم الإنسان بإنتاج اللاكتاز، وهو من الانزيمات المعوية التي تساعد على هضم اللاكتوز الموجود في سكر الحليب في مرحلة الطفولة بعد الفطام.

الغريب في الأمر أن بعض سكان العالم فقط هم من تستمر أجسامهم بإفراز اللاكتاز، وأغلب هؤلاء الأشخاص هم من سكان شمال أوروبا، أما معظم الأشخاص الآخرين من العالم، فإن أجسامهم لا تقوم بهضم اللاكتوز بشكل صحيح، وهذا يمكن أن يسبب لهم مشاكل معوية مثل الإسهال، وهذه المشاكل ناجمة عن عدم تحمل أجسامهم للاكتوز، كون تخمر بكتيريا الأمعاء يؤدي إلى إطلاق غازات معوية تسبب مشاكل هضمية، ونتيجة لهذا فإن بعض منتجات الألبان (مثل اللبن والجبن) تتم معالجتها لتخفيض محتوى اللاكتوز فيها أو حتى تتم إزالته، فالجبن مثلاً، تتم معالجته لإزالة اللاكتوز منه، حيث يبقى اللاكتوز في مصل اللبن، الذي يعطى للخنازير والحيوانات الأخرى.

بناء على ما تقدم، وطالما أنه من السهل جداً إزالة السكريات من الحليب، وطالما أن الطفرة التي تسمح للبالغين بشرب الحليب هي مهمة فقط في حالة شرب الحليب غير المعالج أو مصل اللبن، فإذاً لماذا يتم تداول هذه الطفرة من جيل إلى آخر ؟

الإجابة على هذا السؤال يجب أن تنبع من دراسة الانسان القديم، كون قيام الإنسان القديم باستهلاك منتجات الحليب، يؤدي إلى تداول هذه الطفرة من جبل إلى بعده، بناء عليه قام فريق دولي من الباحثين بإلقاء الضوء على هذا السؤال المحير من خلال بحثهم في أسنان بشرية قديمة متكلسة، حيث تم نشر البحث في مجلة التقارير العلمية (Scientific Reports)، واستطاع البحث تقديم أول دليل مباشر يشير إلى الوقت الذي بدأ فيه البشر بشرب الحليب، من خلال معاينة جير الأسنان لدى الانسان القديم.

تقول (كريستينا ورينير)، قائدة الدراسة وباحثة في قسم الأنثروبولوجيا في جامعة أوكلاهوما، بأن الدراسة تهدف لفهم الآثار بعيدة المدى الناجمة عن العلاقة ما بين النظام الغذائي البشري والتطور، وبشكل عام فإن استهلاك منتجات الألبان هو اتجاه حديث لدى الجنس البشري، حيث تشير الاكتشافات العلمية الغذائية بأن معظم البشر في العصر ما بعد الحجري الحديث كانوا غير قادرين على هضم اللاكتوز، وهذا غالباً أدى إلى جعلهم يعانون من المشاكل الهضمية الناجمة عن صعوبة هضم اللاكتوز، لذا بالغالب فإن البشر في تلك المرحلة لم يكونوا يستهلكون منتجات الحليب.

قام فريق البحث باستخدام تقنية مطياف الكتلة (وهي تقنية تحليلية لتحديد العناصر المكونة لمادة أو جزيء ما)، للكشف عن بروتين يوجد بالحليب يسمى بـ(بيتا لاكتوغلوبولين) في بقايا الأسنان القديمة، وإن البيتا لاكتوغلوبولين هو البروتين الأكثر انتشاراً في مصل اللبن، ويتم استخدامه من قبل الرياضيين المختصين بكمال الاجسام لبناء الكتلة العضلية، وهو علامة مثالية تشير بشكل لا يقبل الشك إلى أن البشر كانوا يستهلكون الحليب.

إن النتائج التي جاء بها البحث تقدم دليلاً مباشراً على أن بروتين الأبقار والأغنام والماعز الموجود في مصل اللبن، تم استهلاكه من قبل البشر قبل 5000 سنة على الأقل، وهذا يتوافق مع الأدلة غير المباشرة السابقة، والتي اكتشفت استهلاك البشر للحليب عن طريق بقايا دهون الحليب التي تم تحديدها على أواني الفخار وأواني الطبخ في المجتمعات الزراعية المبكرة.

سابقاً، كان من الصعب الربط ما بين التغيرات التي أصابت الجين البشري للتكيف مع الحليب، والأدلة المباشرة التي تشير إلى استهلاك الحليب من قبل البشر في ذات الوقت، والسبب في هذه الصعوبة راجع لكون آثار الحليب لا تظهر في اللقى الأثرية، أما حالياً فإن اكتشاف بروتينات الحليب في جير الأسنان البشرية، سيسمح للعلماء بتوحيد الأدلة ومقارنة الصفات الوراثية والسلوكيات الثقافية للبشر الذين عاشوا منذ آلاف السنين .

يقول البروفيسور في علم الآثار في جامعة يورك (ماثيو كولينز)، بأن فريق البحث وجد دليلاً مباشر على أن الإنسان استهلك الحليب منذ العصر البرونزي وحتى يومنا هذا، وذلك من خلال الأدلة المحفوظة في الفكوك البشرية القديمة، وكانت النتائج التي جاء بها البحث متوقعة، فعلى سبيل المثال، لم يجد الباحثون أي دليل على وجود بروتين الحليب لدى البشر الذين عاشوا في القرن التاسع عشر في غرب أفريقيا، كون هذه المناطق لم تكن منتجات الألبان لديها من الأمور المألوفة ، ولكن على النقيض وجد الباحثون دليلاً على أن الكثير من البشر في البلدان الأوربية استهلكوا الحليب منذ 5000 عاماً.

وتقول (كاميلا سبيلر) الباحثة في جامعة يورك، بأن معظم الأدلة الجزيئية السابقة على استهلاك الحليب لدى البشر القدماء، جاءت من مخلفات الحليب الباقية على الخزفيات والأوعية القديمة التي تم اكتشافها، والمشكلة كانت أن وجود آثار لمنتجات الألبان على اللقى القديمة، تدل على أن البشر في ذاك الزمن كانوا يستخدمون منتجات الألبان، إلا أن هذه الأدلة لا توضح من هم الأفراد الذين كانوا يستهلكون منتجات الحليب في الواقع، أما هذه الدراسة ، فجاءت بأدلة توضح لأول مرة، الأشخاص الذين كانوا يستهلكون منتجات الحليب، كونها تمت على الهياكل العظمية للبشر.

ويشير (إنريكو كابيلليني) من مركز (GeoGenetics) في جامعة كوبنهاغن، بأن اكتشاف بروتين الحليب بيتا لاكتوغلوبولين هو اكتشاف مهم، لأن هذا البروتين يحتوي على تسلسل المتغيرات التي تسمح بمعرفة نوع الحيوانات التي أنتجت الحليب، والدراسة وجدت أدلة تشير إلى أن حليب البقر والغنم كان استهلاكه منتشراً على نطاق واسع في وقت مبكر من العصر البرونزي، في حين أن الأدلة تشير إلى أن استهلاك حليب الماعز اقتصر في العصر البرونزي على مناطق من شمال إيطاليا.