خبر عن نصف كوب الثورة الفارغ ..فهمي هويدي

الساعة 12:24 م|27 يناير 2015

ـ السفير

إذا كانت «ثورة 25 يناير» قد أبرزت بعض مكامن القوة في المجتمع المصري، فإن المرحلة التي تلتها كشفت عن مظاهر للضعف تستحق رصداً ودراسة.

(1)

في عالم الرياضة يقسمون الفرق درجات بمعيار التفوق والكفاءة. وقد خطر لي أن اقتبس الفكرة في التعليق على المباراة الجارية في الساحة السياسية المصرية، واضعاً في الاعتبار أن المباراة لم تنته بعد وأنها لا تزال في شوطها الأول. من هذه الزاوية، أزعم أننا بصدد فريق التحق حديثاً بدوري السياسة، ولم يتحدد بعد موقعه وترتيبه بين الفرق الهابطة. أما اللاعبون فهم بين هواة دخلوا إلى الملعب مصادفة أو وجدوا أنفسهم في قلبه فجأة، وبين لاعبين تجاوزوا بالكاد طور اللعب بالكرة الشراب، وقدموا من حواري السياسة ليبدأوا رحلتهم مع الأندية. أعني أننا بإزاء لاعبين من الفرز الثاني أو الثالث، بعضهم من متوسطي القدرة وبعضهم يستحقون العطف والرثاء ومنهم من ينصح بالبحث عن لعبة أخرى يؤديها. وجميعهم يحتاجون إلى مدربين ودروس خصوصية مكثفة. وما أدَّعيه ينطبق على القوى المدنية وعلى «الإخوان» والسلفيين. وجميعهم معذورون، لأنهم حديثو عهد بمثل هذه المباريات، التي حرموا منها طوال الستين سنة الماضية. لذلك أزعم أنهم مظلومون وظالمون. هم مظلومون لأنهم لم يمكنوا من النزول إلى الملعب في السابق، وظالمون لأنهم تسابقوا على حمل عبء لم يكونوا قادرين عليه. ولم يدركوا أن مصر أكبر منهم مجتمعين، ناهيك عن أنها أكبر من أي فصيل مهما كان حجمه.

النص أعلاه ورد في مقالة لي نشرت في 11/12/2012 كان عنوانها «في أنها مباراة بين الهواة في ملعب السياسة». وفيها عرضت تقييمي للخمسة أشهر الأولى من حكم الرئيس الأسبق الدكتور محمد مرسي، ومما قلته فيها «إن الإخوان إذا كانوا قد نجحوا في قيادة وتنظيم الجماعة، فإنهم لم ينجحوا في قيادة سفينة الوطن». وما يهمني في المقالة انها حاولت وقتذاك ان تسلط الضوء على أحد مواطن الضعف في الساحة السياسية المصرية، التي تكشفت بعد الثورة. وهي التي تمثلت في غياب القيادات والأحزاب السياسية، الأمر الذي كان مفهوماً في ظل موت السياسة وحالة الجذب والتصحر التي خيمت على ذلك المجال طوال العقود الأربعة السابقة على الأقل. وحين قلت إن جميع اللاعبين بمختلف اتجاهاتهم مجرد هواة «من الفرز الثاني أو الثالث»، مشيراً ضمناً إلى أنه ليس بينهم سياسي من الطراز الأول، فإنني أزعم اننا ما زلنا نقف عند النقطة نفسها في العام 2015. لست أقلل من قدر الأشخاص الذين أسجل لهم حقهم في الاحترام، لكني أتحدث عن حظهم من الإجماع الشعبي ورصيدهم في الشارع المصري.

لقد أصبح الفراغ عنواناً رئيسياً للحالة السياسية. هو ما أدركناه أثناء الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 2012، وما نلمسه بصورة أوضح الآن في البلبلة والتجاذبات المخيمة على الإعداد للانتخابات التشريعية.

لست أتحدث في الوقت الراهن عن أوعية تعارض السلطة أو تتحداها. وهو ما تسمح به النظم الديموقراطية طالما تم ذلك بالطرق السلمية، لكنني أتحدث عن كيانات أو مؤسسات تحفظ التوازن في مواجهة السلطة، فتقاوم تغولها وتسهم في كبح جماحها بما يحول دون تسلطها وانفرادها بالتحكم في مصير المجتمع. ولأن تلك المؤسسات لم تقم، فإن المجتمع فقد أحد أهم حصاناته، ومن ثم احتلت تلك الثغرة رأس قائمة مظاهر الضعف فيه.

(2)

صحيح أن تيارات الإسلام السياسي تتحمل المسؤولية الكبرى عن إجهاض الثورة. إلا أن السكوت على الأدوار الانتهازية التي لعبتها الأطراف الأخرى، خصوصاً أولئك المنعوتون زوراً وبهتاناً بالمدنيين والليبراليين، يقلل من عمق تحليل المشهد. فتلك التيارات كانت وما تزال سلطوية بامتياز. سلطوية ثقافة وحركة وتنظيم وسياسة. لا تستطيع ان تنفك عن السلطة ولا تلعب سوى مع القوى. ترفع من الشعارات المدنية وحقوق الإنسان كوسيلة للحصول على الوجاهة الاجتماعية والسلطوية. بينما هي في حقيقة الأمر قوى رجعية لا تؤمن بالديموقراطية ولا بالتعددية ولا بقيم حقوق الإنسان.

الفقرة السابقة ليست لي. ولكنها مقتبسة من مقالة نشرتها جريدة «الشروق» في 22/1 لكاتب جاد هو الدكتور أحمد عبدربه أستاذ العلوم السياسية، أثار فيها بعض الملاحظات المهمة حول ما سماه «المسكوت عنه في أربعة أعوام»، من عمر «ثورة يناير». وقد أغنتني شهادته عن التفصيل في تحرير «أزمة النخبة»، التي اعتبرها ضمن مظاهر الضعف التي تكشفت خلال السنوات الأربع الماضية، والتي أسهمت في تشويه الإدراك العام وتشجيع الانقلاب على الديموقراطية، كما غذَّت الاستقطاب المروع الذي ضرب الإجماع الوطني، وأدى إلى معالجة الأخطاء بأخطاء أخرى مضاعفة. لي فقط ملاحظتان على شهادته. الأولى أنه في إشارته إلى أطراف الأدوار الانتهازية تحدث عن المدنيين والليبراليين ولم يشر إلى دور اليسار الذي ساهم بنفس القدر وربما بحماس أكبر في كل ما حدث من انتكاسات، باستثناء فئة قليلة بطبيعة الحال. الملاحظة الثانية ان الصراع والاصطفاف السلبي الذي انحازت إليه تلك القوى لم يستهدف فقط الحصول على الوجاهة الاجتماعية والسلطوية، كما ذكر عبدربه. ولكنه أيضا كان يعمد إلى تصفية حسابات الخلاف الأيديولوجي من خلال عقد التحالفات التي يراد بها إقصاء الآخر من خلال قوة السلطة وأدواتها، ومن ثم إلحاق الهزيمة به على الصعيدين السياسي والأيديولوجي.

(3)

في كتاباته الأخيرة التي ندرت، ما برح المستشار طارق البشري يدق الأجراس منبهاً ومحذراً من بعض مظاهر الضعف التي أصبح يعاني منها الواقع المصري. ففي مستهل أحدث كتبه «جهاز الدولة وإدارة الحكم في مصر»، تتبع إعلانات حالة الطوارئ منذ إقرار دستور العام 1923 حتى الآن. وخلص من هذا الرصد إلى أنه «خلال ثلاثة أرباع القرن الأخير عشنا في مصر في حالة طوارئ ثابتة اعتاد عليها جهاز إدارة الدولة، وتشكلت في إطارها تجاربه ومهاراته وأساليب إدارته للشؤون العامة وللتعامل مع المواطنين، بمعنى أنه في «ثقافته» الإدارية وبحكم تجاربه وخبراته، لم يستطع الحكم ولا ممارسة عمله في التعامل مع المواطنين إلا في ظل ما انتجته «حالة الطوارئ» من سلطات وقدرات غير مقيدة. هذه الخلفية جعلته يعبر عن شكوكه في أن إمكانية الحكم وإدارته في مصر، لم تعد تنفصل عن خبرة الاستبداد ومعارفه وعادات تعامله، واعتبر ان ذلك إحدى المشاكل التي واجهتها «ثورة 25 يناير» وما تعرضت له من انتكاسات بعد ذلك.

في دراسة أخرى عنوانها «مصر بين الأمس واليوم» نشرتها صحيفة «السفير» اللبنانية على ثلاث حلقات ابتداءً من 8 كانون الأول الحالي، أثار المستشار البشري قضية أخرى في تفسير ظاهرة الوهن الذي أصاب المجتمع المصري وجرَّده من عافيته، بحيث أصبح عاجزا عن النهوض وتقديم نموذجه الحضاري. وهو يُرجع ذلك إلى ظاهرة تآكل وانهيار الطبقة الوسطى، وقصد بالطبقة الوسطى مختلف الشرائح الاجتماعية من الرواتب المكتسبة في الحكومة والقطاع العام ومن الخدمات والمهن الحرة. واستشهد في عرض رؤيته بما فعله السلطان العثماني سليم الأول بعد فتح مصر العام 1517، حين ألحقها بدولته، وقضى في الوقت ذاته على التشكل الحضاري الذي كانت تمثله في العلوم والفنون والصنائع. فنقل إلى الآستانة أجمل ما أبدعته مصر، بسبب تفريغ البلاد من طاقاتها الإبداعية وعمالتها الماهرة، فإنها شهدت انهياراً حضارياً أفقدها إشعاعها ومكانتها. وهو ما لم تستطع مصر أن تعوضه إلا في عصر محمد على باشا، أي بعد نحو 300 سنة من الفتح العثماني.

رأى المستشار البشري أن الهجرة واسعة النطاق إلى دول الخليج منذ السبعينيات فرَّغت بدورها مصر من طاقاتها الإبداعية وعمالتها الماهرة، الأمر الذي أوصلها إلى حالة شبيهة بما كانت عليه بعد غارة السلطان سليم الأول. وهو ما أسهم في النتيجة التي تكشفت معالمها بعد الثورة. إذ أصابت الجميع حيرة جعلتهم عاجزين عن طرح مشروع حضاري متكامل الأركان وطنياً واجتماعياً واقتصادياً.

(4)

غني عن البيان أن ما سبق ليس حصراً لعوامل الضعف التي تكشفت خلال السنوات الأربع التي أعقبت الثورة، بقدر ما هو دعوة إلى فتح الملف وإدارة الحوار حول موضوعه بجدية ومسؤولية. علماً بأني لست أشك في أن هناك عوامل أخرى كشفت عنها خبرة تلك السنوات تحتاج إلى مناقشة (منها مثلا القيود والالتزامات التي تكبل حركة مصر في المجال الخارجي، خصوصاً ما يتعلق منها بالعلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل). في جميع الأحوال، فليس المطلوب كشف العورات ولا جلد الذات، لأن الأهم هو ان تصوَّب الرؤى ويعاد ترتيب الأولويات بما يعالج الثغرات، علنا نتوصل إلى وفاق وطني يجدد الالتزام بالحرية والديموقراطية، ويدرك حجم الخسارة الفادحة التي تتحملها مصر وتدفع ثمنها من عافيتها ودورها، جراء استمرار العبث بالديموقراطية والتهليل والنفخ في الذات لتضليل الناس وتسويق أوهام العافية لهم.