خبر “إسرائيل” . . الغطرسة وتآكل عوامل القوة .. بقلم علي جرادات

الساعة 11:39 ص|25 يناير 2015

بقلم

لم تقبل « إسرائيل » المشاركة في « مؤتمر مدريد للسلام »، ،1991 لكنها أُجبرت عليها . بل ورفضت الالتزام بوقْف سياسة العدوان والاستيطان، وتحديد سقف زمني للمفاوضات . وأكثر أعلن شامير، كرئيس لحكومة الاحتلال آنذاك، جوهر إستراتيجية « إسرائيل » التفاوضية بالقول:« سنفاوض الفلسطينيين لمدة عشرين عاماً » . مع ذلك كله، ورغم دلالاته الواضحة على أن حكام « إسرائيل » ما زالوا يتشبثون بالطابع العدواني التوسعي العنصري لكيانهم، بما لا يترك متسعاً ل« حل وسط » أو « تسوية » للصراع، ضخمت الولايات المتحدة قبول « إسرائيل » لمبدأ التفاوض لدرجة أن تبادر وتضغط وتنجح في أن تنتزع من الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يلغي قرارها اعتبار « الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية » . في ظني أن قادة الكيان الصهيوني لم يحلموا في حينه بأن يعطيهم العالم تلك المكافأة الكبيرة وغير المستحقة، وبهذه السهولة، وبلا أي ثمن، باستثناء قبولهم الشكلي بالتفاوض. والسؤال هو: لماذا تحول ما كان مجرد خيال يداعب قادة « إسرائيل » إلى واقع؟

أعتقد أن تقديم إجابة شافية شاملة عن السؤال أعلاه يتجاوز البحث في أن الرسميات العربية، والفلسطينية منها بالذات، تعاملت بجدية مع فرضية أن سياسة الولايات المتحدة يمكن أن تكون أكثر توازناً بعد « جندلة » خصمها أو عدوها السوفييتي وتفردها بإدارة العالم، سياسة ونظاماً وقضايا ومؤسسات، إلى البحث في أن أغلب دول العالم والإقليم تعامل بجدية مع هذه الفرضية، أيضاً . وبالنتيجة، (وبقدر ما يخص الصراع العربي الصهيوني)، ولدَ الرهان الرسمي، عربياً وعالمياً، على أن ضغطاً أمريكياً لا بد آت لإلزام « إسرائيل » بقبول ولو الحد الأدنى من الحقوق العربية والفلسطينية كما تنص عليها قرارات الشرعية . لكن ذاك التعامل الجدي مع تلك الفرضية، ومع ما أنجبه من رهان، اصطدم بما يمكن تسميته « اختلال العالم » بفعل ولادة نظام « القطب الواحد ». وهو الاختلال الذي سيتجلى لاحقاً أكثر ما يتجلى في زيادة الدعم الأمريكي الشامل وغير المحدود لتمادي قادة الكيان الصهيوني، المعبر عنه في هجومهم السياسي والميداني الشامل والمتصل، لدرجة الظن بإمكان تخليد شذوذ بقاء كيانهم « دولة فوق كل قانون »، وتصفية القضية الفلسطينية، بما هي جوهر الصراع، من جميع جوانبها.

لكن، مع ذلك، وبرغمه، بل وبفضله، أيضاً، تواجه « إسرائيل » منذ سنوات، وكما لم تواجه من قبل، خللا بنيوياً مستعصياً، أنجبه ما يمكن تسميته بالتناقض بين فائض الغطرسة والعربدة والطموح المتمثل في مطلب تكريس « إسرائيل » والاعتراف بها « دولة للشعب اليهودي »، من جهة، وبين تآكل عوامل القوة بالمعنى الشامل للكلمة، من جهة ثانية. أما لماذا؟

1-جيش « إسرائيل » هذه، بما هو عماد قوتها، لم يعد، منذ عقد ونصف العقد من الزمان، قادراً على تحقيق نصر سريع حاسم مبهر واضح لا لبس فيه، ذلك كي لا نقول إنه لم يحقق مثل هذا النصر سوى في عدوان العام 1967. هنا تغيير نوعي في الموازين يقرّ به، وبصورة علنية، حتى بعض، إن لم يكن أغلب، قيادات « إسرائيل » العسكرية والأمنية والسياسية، ذلك على الأقل منذ اعترافهم ولجنة التحقيق الرسمية التي شكلوها بعد عدوان 2006 على لبنان.

2- تواجه « إسرائيل »، كما لم تواجه من قبل، عداء شعبياً عالمياً متنامياً، خاصة بين شعوب الدول « الغربية » التي أيقظتها جرائم « إسرائيل » المتصلة، فضلاً عن هول بشاعتها وعنصريتها وفاشيتها، لدرجة أن تحظى بوصف « أخطر دولة على أمن العالم واستقراه »، حسب استطلاعات رأي هذه الشعوب . هنا ثمة انقلاب في الوعي يخشاه قادة « إسرائيل » أكثر من خشية البشر للطاعون، خاصة بعد أن تحول هذا الوعي إلى ممارسة سياسية تعكسها حملات المقاطعة السياسية الاقتصادية والأكاديمية للاحتلال ولمستوطناته خصوصاً.

3: باستثناء الولايات المتحدة لم يعد الدعم السياسي والدبلوماسي « الغربي » ل« إسرائيل » مطلقاً، بل بات مشروطاً بتخليها عن الأراضي التي احتلتها في العام 1967. فالدفاع عن « إسرائيل » الكبرى كما أرادها مؤسسوها وصولاً إلى نتنياهو بدعم أمريكي لم يعد ممكناً، حتى لدى الدول الأوروبية التي ساهمت في إنشاء « إسرائيل » وفرض الاعتراف بها « دولة » في هيئة الأمم المتحدة، ارتباطاً بالتغيير الحاصل في رأي شعوب هذه الدول تجاه « إسرائيل » التي تمتص الكثير من عائدات الضرائب التي يدفعها مواطنو الدول « الغربية » عموماً، وتوظفها في خدمة حروبها التي لا تنقطع، وجرائمها التي لا تنتهي، فيما هم، (مواطنو الدول « الغربية »)، يعانون كل أشكال الفقر والبطالة وتدني مستوى التعليم والرعاية الصحية . . .الخ

4: لم تعد قيادات « إسرائيل » الحالية، سواء السياسية منها أو العسكرية أو الأمنية، محط ثقة في نظر « مواطنيها »، بعدما صار من النادر أن تجد بينها قائداً غير فاسد، أو تحوم حوله شبهة الفساد، بما في ذلك رؤساء، ورؤساء حكومة، ووزراء دفاع، ورؤساء أركان، وقادة أحزاب. . إلخ يضاعف هذه المشكلة تفاقم معضلات الفقر والبطالة وانعدام فرص السكن، واستفحال مظاهر الجريمة والتمييز العنصري متعدد الأوجه والأشكال، حتى باتت التظاهرات الشعبية المطلبية الواسعة مظهراً « إسرائيلياً » عادياً في السنوات الأخيرة.

وبالمثل صارت تناقضات « إسرائيل » الداخلية، سواء بين المتدينين والعلمانيين، أو بين مستوطني الضفة و« القدس الشرقية » وباقي المستوطنين، أو بين اليهود « الشرقيين » واليهود « الغربيين »، أو بين الفقراء والأغنياء، معضلة حقيقية لا يتراجع التعبير الصاخب عنها، إعلامياً وسياسياً وفكرياً، إلا في فترات الحرب، بل ويذكيها أكثر كل فشل عسكري للجيش، ويحولها إلى « حرب الجميع ضد الجميع » حسب الوصف الدارج في وسائل الإعلام « الإسرائيلية » المختلفة . وكل ذلك دون أن ننسى المعضلة الديموغرافية ل« إسرائيل »، بوصفها المعضلة الأساس، ويلخصها أن « اليهود لم يعودوا أغلبية سكانية بين البحر والنهر »، حسب أحدث إحصاءات كبار الديموغرافيين الصهاينة.