خبر حرية التعبير في منابر التشهير.. علي عقلة عرسان

الساعة 07:12 ص|14 يناير 2015

 

لست مع القتل ولست مع الاستفزاز وجرح الكرامة والمس بالمعتقدات، ولا مع ممارسة أشكال العدوان التي تؤدي إلى ردود أفعال تصل حدّ القتل، ولست مع رفع قيمة بشر ضحايا فوق بشر ضحايا، فالناس متساوون من حيث كونهم مخلوقات ذات أرواح ودماء وأجساد ومقومات حياة.. ولست مع التضييق على حرية التعبير فهي جوهر الحرية وقيمة جوهرية في الحياة، ولكنني أرفض بشدة التشهير المتلطي في ظلال حرية التعبير، لأنه مس بالآخر الذي يطاله ويستهدفه، وانتهاك لحقوقه وحريته وكرامته من دون وجه حق. وأود أن أؤكد مرة أخرى وأخرى وأخرى على أنني مع الحرية، على تكون مسؤولة وترتب مسؤولية وتحكمها ضوابط وقوانين، وأن يطبق على من يستعملها استعمالاً تعسفياً استفزازياً ابتزازياً يسيل كراهية ويثيرها القوانين المرعية، شأنه في ذلك شأن أي مخالف للقوانين، لا سيما حين يتعلق الأمر بتشويه الأديان وقيمها ورموزها وآتباعها، وبجرح مشاعر الجماعات والشعوب، على يكون ذلك التطبيق موضوعياً وليس مسيساً، وأن تراعى فيه حالات التعمُّد والتكرار والاستمرار بهدف التحقير. نعم قد ينم ذلك المس بالآخرين والخروج على القانون عن جهل واستفزاز وكراهية وعن شذوذ وسلوك غير متزن، ولكنه حين يصبح تحدياً مثيراً لأمم، وحين ينطوي على درجات من الانحطاط في التفكير والسخف في التعبير، سواء أكان الهدف النيل من الآخرين أو اتباع اسلوب للظهور والشهرة والربح المالي والانتشار، على حساب مشاعر ملايين بل مليارات البشر.. فإنه عندها يخرج عن حدود حرية التعبير ليصبح التشهير والعدوان والسقوط والسَّفَه والبذاءة. إن حرية التعبير عندي مقدسة ولكن حرية التشهير مرفوضة ومدانة.  

  لقد تقابلت صيحتا: « انتقمنا للرسول »،  والحملة الفرنسية ـ العالمية je suis CHARLie أنا شارلي أو NOUS SOMMES نحن شارلي، تقابلتا في باريس يوم الأربعاء ٧/١/٢٠١٥ بصورة مثيرة.. وهذا يستدعي مقاربة موضوعية مسؤولة.. ففي الوقائع:

أعلنت الشرطة الفرنسية أن هجوماً على أسبوعية « شارل إيبدو » في منطقة « بونتان » في باريس وقع ظهر يوم الأربعاء٧/١/٢٠١٥ وأوقع ١٢ قتيلاً بينهم أربعة من رسامي الكاريكاتير الشهيرين و١١ جريحاً حسب النائب العام الفرنسي. وشرطيين أحدهما عربي يدعى أحمد مرابط.« وهو مسلم من أصول مغربية. وقالت: »إن المتهمين الثلاثة يحملون الجنسية الفرنسية وتتراوح أعمارهم بين 18 و 34 عاما، وذكرت أن اثنين منهما شقيقان هما سعيد وشريف كواشي، وهم فرنسيون من أصول جزائرية.. وأن المتهم الثالث الثالث فيدعى حميد مراد وقد سلم نفسه للشرطة.. وقد استغرق الهجوم ٥ دقائق واستهدف المجلة في اجتماع اسبوعي لأسرة التحرير فيها، وأن المهاجمَين المزودَين بأسلحة أوتوماتيكية وقاذمة صواريخ صرخا:« تم الثأر للنبي »، وتمكنا لاحقاً من الفرار في سيارتين ومعهما رهينة بعد أن قتلا الشرطي أحمد مرابط، وهو من الشرطة الفرنسية المتجولة وكان أول الواصلين إلى موقع الحدث.. وتبادل المهاجمان النار مع رجال الأمن في منطقة « بونتان » في باريس.

 

 

 ثم أعلنت الشرطة الفرنسية يوم الجمعة ٩/١/٢٠١٥ أنها قتلت الأخوين كواشي اللذين اختبآ في مطبعة في بلدة دامارتان شمال شرق باريس وكان معهما الرهينة الذي اختطفاه، ورفضا تسليم نفسيهما مختارين الشهادة.. كما قتلت حميد كوليباني ذا الأصول المالية « من مالي » الذي احتجز رهائن في متجر يهودي في منطقة بورت دو فانسان شرق بباريس أيضاً.. وطالب بإخلاء سبيل الأخوين كواشي. وحسب مصادر أمنية فرنسية أسفرت عملية « حميد كوليبالي »عن مقتل 5  أشخاص في المتجر اليهودي بينهم محتجز الرهائن، وأسفرت محاصرة الأخوين كواشي في المطبعة عن إصابة 4 آخرين بجروح أحدهم في حال حرجة. وهذا العدد يضاف إلى الذين سقطوا في شارل ابيدو ١٢ قتيلاً وحوالي عشرين جريحاً في رواية أولية لم تؤكد. وقال وزير الداخلية الفرنسي برنارد كازنوف إن عدد القتلى بلغ ١٧قتيلاً وبذلك انتهت 3 أيام مثيرة في باريس وما حولها.. وقيل إن الأخوين كواشي صاحا « الله أكبر » بعد العملية وكذلك بعد أن قتلا الشرطي الفرنسي الذي تبين أنه مسلم من أصول مغربية واسمه أحمد مرابط:« أنهما قتلا »شارلي إيبدو« وانتقما للرسول محمد. ».

وأطلق النائب العام الفرنسي مراد حميد صهر شريف كواشي الذي سلم نفسه بينما تعتقل الشرطة منذ الأربعاء ٨ /١أخته الزانة حميد زوجة شريف كواشي في حين أصبحت السيدة حياة بومدين (26 عاما) زوجة كوليبالي المطلوبة الأولى في فرنسا وقد غادرت فرنسا قبل الهجوم ووصلت إلى تركيا عبر مدريد في ٢ يناير٢٠١٥ وغادرتها إلى سورية في ٨ منه. وبحسب النائب العام الفرنسي فإن الزانة حميد زوجة شريف كواتشي أجرت أكثر من 500 اتصال هاتفي خلال العام 2014 مع حياة بومدين.

وبرر كوليبالي المتحدر من أصول مالية عمله أمام الأشخاص الذين احتجزهم رهائن رغبته في الانتقام للتدخل العسكري الفرنسي في مالي، والقصف الغربي في سورية، خلال حديث تم تسجيله وبثته إذاعة « آر تي إل » يوم السبت.. وأعلن الثلاثة قبل قتلهم بأنهم نسقوا فيما بينهم، وأكد الشقيقان كواشي انتماءهما إلى تنظيم القاعدة في اليمن فيما أكد كوليبالي انتماءه إلى تنظيم الدولة الإسلامية داعش. وأعلنت القاعدة فرع اليمن أنها تقف وراء الهجوم، وأنها وجَّهت المهاجِمَين للقيام بالهجوم على شارلي ايبدو، بينما أعلنت داعش من الموصل مسؤوليتها عن عملية كوليبالي. هذا وقد أمر النائب العام الفرنسي بسحب شريط فيديو يعلن فيه كوليبالي بأنه ينتمي لداعش وأنه ينسق مع الأخوين كواشي. ولا بد من الانتظار لمعرفة خلفيات ذلك وأسبابه.

و« يذكر أن المجلة الأسبوعية الساخرة »شارلي إيبدو«

CHARLIE HEBDO كانت قد نشرت رسوماً مسيئة للرسول محمد » ص« قبل سنوات بعد سابقتها الدانمركية  عام ٢٠٠٥، وسبق وأصدرت في نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠١١عددا خاصا تحت عنوان  »شريعة إيبدو« ، أعلنت فيه النبي محمدا »رئيس تحريرها« ـ ورئيس تحرير «شارلي ايبدو» هو ستيفان شاربونييه (شارب). وقد أدت استفزازاتها إلى إثارة موجة احتجاجات أدّت إلى إحراق مكاتبها وتعرض موقعها على الإنترنت للقرصنة. وفي 19 سبتمبر/أيلول 2012، قررت »شارلي إيبدو« نشر رسوم كاريكاتورية للرسول (ص) وذلك بعد مرور أسبوع على اندلاع موجة احتجاجات ضد الفيلم الأمريكي المسيء للإسلام »براءة المسلمين« .

 لقد أشاد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند »بشجاعة وفاعلية« قوات الأمن مندداً بعملية احتجاز الرهائن في المتجر اليهودي وواصفاً إياها بأنها »عمل معاد للسامية مروع« ، وحذر بأن »فرنسا لم تنته من التهديدات« .. ودعا إلى »رفض المزايدات والازدراء والرسوم المسيئة« . وقال عمانوئل فالس رئيس وزراء فرنسا: » « مئات الأشخاص يغادرون إلى سورية والعراق » حيث « يتدربون على الإرهاب ». وجرت في باريس « مسيرة الجمهورية » ضخمة الأحد ١١ /١/٢٠١٥ في الساعة 14:00 يتقدمها الرئيس فرنسوا هولاند والعديد من القادة الأوروبيين وغيرهم من بينهم: البريطاني ديفيد كاميرون والألمانية أنغيلا ميركل والإيطالي ماتيو رنزي والإسباني ماريانو راخوي. و الملك حسين وزوجته والرئيس محمود عباس، ونتنياهو، وأحمد داود أوغلو. ولم يشارك الوفد المغربي فيها بسبب رفع رسوم الكاريكاتور المسيئة للرسول في المسيرة التي كانت نشرتها ايبدو، وشاركت المعارضة السورية في المسيرة رافعة علمها.. كما جرت تظاهرات موازية في كندا والولايات المتحدة الأميركية تكريما ودول أخرى لذكرى ضحايا« ايبدو ». وعقد إثنا عشر وزير داخلية أوروبية مؤتمراً حول الإرهاب يوم الأحد ١١ يناير في باريس، وأعلنت واشنطن أنها سوف تستظيف مؤتمراً حول الإرهاب.

وأعلن رئيس الوزراء الفرنسي أن بلاده تواجه ظروفاً تستدعي الحذر الشديد، وأمر الرئيس الفرنسي بنشر عشرة آلاف شرطي لحراسة المؤسسات والمباني الرئيسة منهم خمسة آلاف لحماية المدارس والمؤسسات اليهودية، ونقلت « سي ان ان » عن مسؤول لم تحدد هويته قوله إن « الخلايا الإرهابية » النائمة في فرنسا قد تم تفعيلها بالفعل، وهو ما يزيد من المخاطر الأمنية في البلد.« . وبهذا ارتفعت وتيرة الإسلاموفوبيا والتهديد للمسلمين، وهوجمت مساجد في فرنسا، وفي إحدى فعاليات يوم السبت ١٠ يناير، وخلال مباراة بين فريقي باستيا وباريس سان جرمان، رفع أنصار باستيا لافتة كبيرة كتبوا عليها »قطر تمول فريق باريس سان جرمان... والإرهاب« . وفي فرانكفورت أكثر من أربعين ملثماً هاجموا محلات عربية وتركية في محطة ركاب واعتدوا على الشرطة في ١١ يناير، وفي فرنسا تم رصد خمسين عملاً معادياً للمسلمين ». ونشرت صحيفة « هامبرغر مورغنبوست » الألمانية على صفحتها الأولى ثلاثة من الرسوم التي جاءت من صحيفة « شارلي إيبدو ». وكانت صحف فرنسية منها اللوموند قد نشرت ما يثير الكراهية ويؤدي إلى التحريض. ألا ينطوي كل هذا بما فيه مسيرة الجمهورية في باريس التي « كرست ضد الإرهاب » على جانب تحريضي ضمني بما رُفِع فيها من صور ولافتات منها صور « إيبدو » التي تناولت الرسول محمد « صلى الله عليه وسلم » وشعارات مثل أنا شارلي JE SUIS CHARLIE أنا يهودي أنا شارلي JE SUIS JUIFE JE SUIS CHARLIE و نحن شارلي NOUSSOMES CHARLIE، فهل يتضمن هذا يا ترى كل ما يتصل بشارلي ايبدو من مواقف وما أصلبها من هجوم دام؟!

وحظى الهجوم على المجلة بتنديد وإدانة من مجلس الأمن الدولي« أعضاء مجلس الأمن أدانوا بشدة هذا العمل الإرهابي الذي لا يمكن التسامح معه ويستهدف صحفيين وصحيفة. »، وأدانت المملكة العربية السعودية الهجوم «الإرهابي الجبان الذي يرفضه الدين الإسلامي الحنيف كما ترفضه بقية الأديان والمعتقدات». كما دان الأزهر والجامعة العربية وإيران. ومن الجدير بالذكر أن الرئيس الفرنسي هولاند اعتبره عدواناً على حرية التعبير، وقال« 7 يناير/كانون الثاني ٢٠١٥ إن الحرية ستبقى دائما أقوى من الهمجية، وبين أن الوحدة هي السلاح الأمثل لمواجهة مثل هذه الأزمات، وإن هذا الهجوم استهدف حرية التعبير. »، أما ميركل فاعتبرته هجوماً على الصحافة وحرية التعبير وقالت: وقالت ميركل « أصبت بالصدمة فور معرفتي بالهجوم الحقير على الصحيفة في باريس »، مضيفة « أود أن أعرب لك ولمواطنيك في هذه الساعة من المعاناة عن تعاطف الشعب الألماني وحزني شخصيا كما أقدم تعازي لعائلات الضحايا ».. وأكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه « يعرب عن تعازيه العميقة لذوي وأقارب المقتولين نتيجة العملية الارهابية في باريس، وكذلك للباريسيين ولكل الفرنسيين ». وفي فرنسا، دان المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية الهجوم ، وأكد « باسم المسلمين في فرنسا » أنه عمل « بربري بالغ الخطورة وهجوم على الديموقراطية وحرية الصحافة »، وجاء في بيانات صحف فرنسية « تنديد بالهجوم على الديموقراطية والحرية »،  أما لجنة حماية الصحافيين فقالت إنه «هجوم وقح» على حرية التعبير« .. لقد أدانت دول وقوى عربية الهجومين في باريس، وشارك مسؤولون عرب ومسلمون في مسيرة باريس، وأُعلنت مواقف وصدرت وبيانات ذات دلالة.. فقد قالت حركة حماس في بيان نادر نشرته باللغة الفرنسية: »تؤكد الحركة على موقفها المحدد من الأحداث الأخيرة في  باريس والمنسجم مع بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي استنكر وأدان ما حدث من اعتداء على صحيفة شارلي إبدو، وأن أي خلاف في الرأي والفكر ليس مبرراً لقتل الأبرياء.« ، وكان الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله قال يوم الجمعة ١٠ الجاري: »إن الهجمات التي شهدتها فرنسا أساءت للإسلام أكثر مما أساءت إليه أية رسوم كاريكاتورية أو كتاب« ، في إشارة منه إلى الهجوم على صحيفة شارلي إبدو.. وقال ياسر عبد ربه للصحفيين خلال مشاركته في الوقفة التضامنية في رام الله »جئنا لنؤكد لفرنسا الصديقة أنها لا تقف وحدها أمام هذه الموجة من الجرائم...شعب فلسطين يقف معها لأننا نشترك معها في الدفاع عن قيم الحرية والعدالة والمساواة.« .. وأنا أنظر لهذا الموقف من زاوية سياسية ـ ديبلوماسية حيث يرد الفلسطينيون بموقف تجاه فرنسا التي صوتت في مجلس الأمن الدولي لصالح مشروع القرار المتعلق بإنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين. وقال رمضان العمامرة وزير خارجية الجزائر في ١٢ يناير ٢٠١٥ » : إن الشقيقن كواشي لا صلة لهما بالجزائر.« .

وأوضح رئيس وزراء تركية أحمد داود أوغلو من ألمانيا يوم ١٢ يناير ٢٠١٥ في مؤتمر صحفي مع ميركل: »أنه لا يصح ربط الإرهاب مع الإسلام كما لا يصح ربطه مع المسيحية أو البوذية، الإرهابيون يقتلون الكثير من المسلمين، ويتحمل مسؤولية ذلك تلك الجماعات الإرهابية بالتحديد وليست الطائفة الدينية. فالعمل الإرهابي الذي حصل في النرويج عام 2011 لم نطلق عليه إرهابا « أبيض » أو « مسيحي »، وأيضا لا يجب أن يكون إرهابا مسلما، وإلا وقعنا في مصيدة أعدها الإرهابيون.« .

وبعد هذه الإشارات إلى الوقائع وما تبعها تعالوا نقارب موضوع الحرية وجوهره حرية التعبير:

من حيث المبدأ لا يوجد جريمة اسمها حرية التفكير فهذا أفق مفتوح ومحيط بلا ضفاف، ولكن هناك حرية تعبير محكومة بحق الآخر في الحرية والكرامة، وهي بهذا المعنى حرية ترتب مسؤولية وينبغي أن تكون لها ضوابط وأن تراعي الحق والواجب.. فالحرية الطبيعية، بمعنى الحرية  المطلقة، تتداخل مع القوة والفوضى وانتهاك الآخر حتى القتل والأكل، وقد تركها الإنسان حين غادر الغابة إلى الحضَر ثم إلى المدينيّة وما يترافق معها وتنتجه من مدنيّة، حيث بدأ يؤسس للحرية الوضعية وللمساواة والقوانين والقيم الإنسانية الأخرى. إن حرية التعبير ليست مشروعة فقط بل تدخل في حيز الواجب الرفيع، وهي واجب وحق من حقوق الإنسان الأساسية وتحتل مرتبة عليا في سلم أو في سلسلة الحريات العامة والخاصة.. ويجب أن تصان وتسنَد لكن ضمن مفهوم وتعريف وحدوود تحفظ لكل المعنيين والمستهدفين والمنتفعين بها حقه وكرامته، وأن تمارس وفق ضوابط وأسس ومعايير ومنهجيات سلوكية وأخلاقية واضحة، أما حرية التشهير فمرفوضة كلياً ومدانة بكل المعايير والقوانين والشرائع والديانات والأعراف الاجتماعية.. وليست الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى فوق الناس، ولا الثقافة بأشكالها والأدب بأجناسه والفن بشُعبه كذلك، وليس من حق أحد أو جهة أن يستظل بمظلة حرية التعبير لينتهك حريات الآخرين ويجرح مشاعرهم وينال من معتقداتهم ويصبح سوطاً يجلد به الناس ولساناً يسخر منهم.. فحرية التعبير الصحفية على الخصوص مرتهنة للحقيقة ومحكومة بها، وعليها أن تراعي ذلك المقدس الذي تستمد، أو يمكن أن تستمد، منه سنداً وحماية ومكانة.. ولنعلم أن من يعتدي على الناس يعتدون عليه بمثل ما اعتدى عليهم، وأن التلطي وراء حرية التعبير للنيل من الآخرين والحط من معتقداتهم ورموزهم لا يجوز تحت أية ذرائع وأية أهداف. إن الكرامة البشرية لا تتجزأ، ومن يتطاول على الشعوب ولا يُحاسب لا بد من أن تحاسبه الشعوب على طريقتها.. وهذا فلَتان مخيف.

الصحافيون والأدباء والفنانون والمبدعونون ومن في حكمهم ليسو من جنس الملائكة، وليست لهم عصمة راسخة، ولا هم فوق الشرائع والقانون والناس.. وعليهم وعلى الذين يتخذون منهم وسائل للنيل من الآخرين ومن بعضهم بعضاً ويدفعون لهم لقاء ذلك، ويخافون منهم.. عليهم أن يتذكروا أنهم سيكونون ضحايا هذا الكائن الي يسمنونه على حساب الحقيقة والحرية والعدالة والمساواة. لكل شخص ولكل شيئ حدود يرسمها القانون ويحاسب عليها باسم المجتمع وإلا فهي الفوضى، ومن يضرب الناس بعصا حرية الصحافة والإعلام وحرية التعبير عليه أن يدرك ويتذكر أن من حق من يُضرَبون بعصاه أن يكسروها على الأقل، فهي تنال أجسامهم ولا تستثني رؤوسهم.

من المؤكد أن الصحفيين والسياسيين والمثقفين والمبدعين ليسو من جنس الملائكة كما أسلفت، وليسو بلا أخطاء وبلا أحقاد وبلا أغراض وبلا جرائم.. وأنهم حين يتخطون كل قيمة لا يصبحون قيمة بل يهددون القيم.. وأن منهم من هو سلعة رخيصة في السوق، ومنهم من هو بوق، ومنهم من هو قاتل، ولا يكون القتل فقط بالرصاص أو بآلة حادة فهناك التواطؤ والقتل في الظلام وتشويه الآخر والابتزاز والقتل المعنوي وما لا يحصى من الأساليب والوسائل والأدوات لتحقيق أغراض لا يقرها شرع ولا قانون ولا يقبلها عقل ولا ضمير.. فإذا كان أولئك الذين يفعلون ذلك لا يرعوون فكيف سيعامَلون؟! المبدع إنسان، وتتجلى إنسانيته أكثر كلما حافظ على مشاعر الإنسان وحقه وكرامته وحريته أكثر، وليست الشجاعة في في الهجوم القتَّال من وراء دريئة الحرية وحرية التعبير خاصة، فذلك انتهاك وعدوان وجبن.. فلكل شخص حق في الحرية والكرامة، وليس لشخص عصمة حين يشهر سلاح التشهير القذر ويستبيح حرية الناس ومشاعرهم وعقائدهم باسم الحرية.. إذ من يكون هو حتى يكون له الحق في ذلك، وحتى لا يحاسب على ما يقوم به؟!

مدافع عن الحقيقة تقولون.. أعطونا حقيقة بالمفهوم السليم تجلَّت في أفعال من ذاك النوع، وقام بها أشخاص من ذاك النوع، ولم يكن في مقابلها فساد وافتراء على الحقيقة وتضليل للعدالة ومليار كذبة وافتراء وإساءة بهدف التشويه، بل وتسويغ عدوان وشن حروب قتالة على دول وشعوب باسم الحرية والديمقراطية والقابِلة »صحافة وإعلام وحرية تعبير« ، لتسويغ القتل والتواطؤ مع قتلة ومع سياسات إجرامية وعنصرية وعدوانية مدمرة و.. إلخ.. خذوا ما فعله الاستعمار وصحافته، وما فعلته وتفعله الولايات المتحدة الأميركية،الإرهابي الأكبر والقاتل الأول، وما فعله إعلامها والإعلام السائر في ركابها؟! وخذو كيان الإرهاب الصهيوني والحمايات الإعلامية والسياسية والثقافية التي تغطي جرائمه.. وانظروا داخل بيتكم الكبير وداخل أنفسكم لتروا ».. كيف يباع من يباع ويُشترى من يُشترى، وكيف تبيعون بالناس وتشترون بهم لكي تستمر صحافتكم ووسائلكم الإعلامية« المكللة بغَارِ حرية التعبير وبالحمايات الفائقة لتستمر في أداء دورها. أكاد أجزم بأن كتلة الفساد والإفساد في هذا المجال لا تقل مطلقاً عنها في أي مجال آخر، لا سيما في المجال السياسي.

تقولون مات فلان في تغطية للأحداث.. نعم ذلك هو البريء الضحية ولكنه روح ولكل بريء يصاب في الحرب روح، فماذا تقولون لأرواح البشر الأبرياء؟! وبماذا تدعون أنكم أشرف منهم وأطهر، وأنكم فوقهم وقنديل ذكرهم يُطفأ وقنديل ذكركم داىم التوهج؟!، وأنكم مؤهلون لإصدار أحكام قيمة أخلاقية وإنسانية وقانونية عليهم، وربما كنتم أسوأ منهم.. ألا »من كان منكم بلا خطيئة فليرمهم بألفي حجر« .؟! لستم العدل ولا الحقيقة ولا الحرية ولا القانون، أنتم بشر كما البشر في العاصفة أو الدوامة الحياتية ـ المعرفية ـ السلوكية، وقد تكونون مركزاً يثير العواصف وبؤرة تصنع التوتر، فتفطنوا إلى من أنتم في الناس وما تأثير ما تكتبون فيهم وعليهم. واعلموا أنه لو كنتم رسل الحقيقة وسدنتها وحماتها فعلاً لرفعناكم ملائكة وقديسين ورموزاً وربما أنبياء، ولكنكم كثيراً ما تكونون من يغطي الحقيقة أو يشوهها أو يقتلها.. ألا لستم عدل الله في الأرض ولا رسله ولا القديسين.. فكفى إساءة للناس وكفى تعالٍ عليهم وكونوا منهم أو قاب قوسين أو إدنى.

الذين يموتون من أجل الحقيقة ودفاعاً عنها هم أرواح بريئة وقامات نجلها حين تكون جند العدل والحق.. ولكن كم هي الاف بل مئات آلاف الأبرياء الذين يسقطون في الحروب وأشكال العدوان والملاحقات والمعتقلات ولا تطالهم الحقيقة ولا يكللهم غارها؟! أليس أولئك بشراً وأنتم البشر فقط؟! ألم تكن فييتنام وكوريا وكمبوديا وفلسطين والجزائر والعراق وسورية والنيجر ومالي والساحل وليبيا، واليمن و.. و… ساحات عدوان على شعوب ودول وعلى عرب ومسلمين لأنهم عرب ومسلمون وسقط منهم جميعاً ملايين الأبرياء الذين لا يذكرون حتى أرقاماً.. هذا عدا ضحايا الاستبداد والاضطهاد والاستفزاز السياسي - الثقافي - الإعلامي الرخيص.. لماذ تثور ثائرة أتباع الغرب عندما يتم هجوم على أماكان أو أشخاص في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية كيان الإرهاب الصهيوني، ولا تثور ثائرتهم عندما يستهدف الغربيون والصهاينة بلداناً وشعوباً ويقتلون من دون تمييز؟! أليس القتل هو القتل والإنسان هو الإنسان؟ تلك عاهة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية على الخصوص، تتنامى وتتنامى منذ بدأت عقدة »الخواجا« التي ترمي إلى ترسيخ الدونية، وليس ذلك إلا استمراراً للحرب النفسية والدينية الممتدة منذ الحروب الصليبية.. ولمْ يسلم منها دين ولا ثقافة ولا أدب ولا فن ولا رموز وشخصيات عالية المقام دينياً واجتماعياً وعلمياً، كما لم يسلم منها رسل وأنبياء ومصلحون وثائرون من أجل بلدانهم وشعوبهم وثقافتهم ودينهم… ولا ندري أين لجنة »حماية الأنبياء وأتباعهم« ، لا سيما الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، من الساخرين والمشوهين والمستفزين والكارهين والمعتدين عليه وعليهم..؟! وماذا يمكن أن تقول في حال وجودها عن الاستفزاز والتشهر والإساءات المتكررة التي تقع بحقهم وعن القتل من الروهنغا وحتى محاكم التفتيش، وهم يشكلون خمس عدد سكان العالم؟!

في الشرق الحرب الصليبية ما زالت مستمرة ضد الإسلام.. ومن يقرأ تعليقات بعض المتعفنين بالحقد في بلدان عربية من غير المسلمين ومن الملحدين والمسلمين المنبطحين أمام الأمم والثقافات الأخرى يجد مصداقية ذلك.. وهم يقولون بمناسبة ومن غير مناسبة: » لمْ يقدم العرب إلا دين القتل« و » لم يقدم الإسلام إلا الجريمة والإرهاب..« . فأي بشر هؤلاء، وأي عادلون وعارفون؟! وكيف يصب في نهر حقدهم فعلُ من يدافعون عن الإسلام برد فعل جاهل وبأسلوب لا يمت إلى سماحة الإسلام وقيمه بصلة؟! ألا فليعلم الذين يستفزون الآخرين بالإساءة إلى معتقداتهم ورموزهم الدينية أنهم إنما يوجهون سمومهم وسهامهم إلى بشر وليس إلى الأنبياء والكتب والرسل والقيم بل إلى آتباعهم/ أتباعها.. ومن ثم فإن ما يفعلونه عدوان متعمَّد كريه واستفزازي وعميق الأثر سلبايً إلى أبعد الحدود.. فكيف يريدون أن يكون رد الفعل على عدوانهم وحقدهم وممارساتهم، الذي يتلطى خلف قيم وحقوق ومنها حرية التعبير؟!.

تعالوا لنقارب موضوع حرية التعبير ومفاهيمها ومواصفاتها وحدودها الوضعية.. لنرى هل هي بلا ضوابط وبلا حدود وبلا كوابح » داخلية وخارجية« وبلا مسؤولية؟!.. أليست الحرية محكومة بحرية الآخر وكرامته وحقوقه، وهي من ثمة حرية مسؤولة؟ لمَ تكونون أنتم القانون وغيركم من يُسحق بأقدامكم بلا رحمة وبلا قانون؟ عجيب منطكم المكلل بالزور والتزوير والعنجهية والغطرسة.

نعالوا نقف كلنا ضد القتل، ضد كل أنواع القتل، لأن المقتول بظلم وعدوان وتشويه إنسان.. وإذا ملكتم الحرية والشجاعة فواجهوا الدول التي تَقتل والجيوش التي تقتل والسياسات التي تقتل والأفكار التي تقتل والممارسات التي تقتل.. تعالوا لنضع أمامنا حقيقة أن الناس متساوون، وأن سفك الدم البشري محرم، وأن كل من تستفزه تستهدفه وتشوهه وتهدده بالقتل، تحرضه بل تستنفره لكي يقتل، مواجِهاً أشكال قتلك له بالقتل لك، وله عليك درجة إذ تضعه في موضع الدفاع عن النفس.. لا تحتكروا الكلام باسم الحرية والقلم والإبداع فلطالما قتلتم مبدعين في الظلام، بالتعتيم عليهم وتقزيمهم وتشويه صورتهم وتجاهل عطاءاتهم وحذفهم من ذاكرة الناس، وفعلتم ذلك بوعي ومنهجية وخدمة لصالح آخرين من جبلَّتكم أو عقيدتكم أو أيديولوجيتكم أو حزبكم أو تنظيمكم.. أو.. أو.. إلخ »، ولصالح دول وجهات وتكتلات وشركات وشخصيات« ترضون عنها أو تتعاطفون معها أو تقبضون منها، أو تنفيذاً لأوامر وتوجهات وتلميحات ممن يُطلب إليكم أن تكونوا في »خدمة هذا أو محنة ذاك« ؟!. الحقيقة لا تتجزأ والحرية لا تتجزأ، والنظرة إلى الأبرياء يجب ألا  لا تتجزأ.. تتكلمون عن » قتَلة« حسناً تصدوا للاحتلال الصهيوني العنصري الذي يقتل الفلسطينيين بمنهجية عنصرية منذ سبعين سنة ويحاصرهم ويحتل وطنهم ويشردهم منه؟! تصدوا للأميركيين القتَلة في أفغانستان والعراق وفي أماكن كثيرة من العالم.. تصدوا للمعتدي ولمن كان البادي بالعدوان .. وتذكروا بغداد والعراق على الأقل فمن الذي بدأ القتل والدمار وأشعل الفتنة في العراق؟!، ولماذا لا يجوز الرد بالقتل على القتل، وهو دفاع عن النفس حين يقع الإنسان تحت نار العدوان ونير الظلم والإهانة والاستفزاز والمقيت والكراهية المعتَّقَة في دِنان الأنفس، وحين يكون ضحية التدخل الخارجي في شؤون البلدان والشعوب!؟ عجبت وأعجب للمفاهيم وللقيم تُورَد موارد الهلاك على أيدي من يدعون الفهم والحرية والدفاع عن القيم والإنسان، ويطالبون الناس بأن يتضامنوا معهم حين يتصدى لهم المجروحون بكرامتهم وعقائدهم وقيمهم.؟. إنني ضد التقل، وأنا من بلد دمره القتل، وإنني ضد من يتستر على ما يؤدي إلى القتل.يتسببون بالقتل أو يتسترون عليه.. ولقد بشِمْتُ كما بشم غيرى من القتل ورائحة الدم والقهر والظلم.

تعالوا نقارب القوانين الوضعية النافذة المتعلقة بموضوع حرية التعبير.. مبتدئين بالإشارة إلى بعض المواد الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تتصل بصورة مباشرة أو غير مباشرة بحرية التعبير وممارستها.. ونورد هنا نصوص بعض المواد أو بعض البنود في مواد محددة، مشار إليها بالرقم:

المادة 1.

يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.

المادة 18.

لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة.

المادة 19.

لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.

المادة 29.

( 2 ) يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي.

المادة 30.

ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه.

حرية الرأي والتعبير، وفق مفاهيم متعارف عليها تقريباً هي: »الحرية في التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام أو الكتابة أو عمل فني بدون رقابة أو قيود حكومية بشرط أن لا يمثل طريقة ومضمون الأفكار أو الآراء ما يمكن اعتباره خرقاً لقوانين وأعراف الدولة أو المجموعة التي سمحت بحرية التعبير. ويصاحب حرية الرأي والتعبير على الأغلب بعض أنواع الحقوق والحدود مثل حق حرية العبادة وحرية الصحافة وحرية التظاهرات السلمية.« .

 

بعد عقود من الصراع في فرنسا تم إعلان حقوق الإنسان والمواطن فيها عام 178 عقب الثورة الفرنسية ونص الإعلان على أن حرية الرأي والتعبير جزء أساسي من حقوق المواطن.. »، وهذا سبق لفرنسا استفاد منه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. والقانون الفرنسي مثله مثل قوانين في أوروبا يرسم حدوداً تمنع خطابات الكراهية ضد العرق والدين والميول الجنسية إضافة إلى منع استعمال الرموز النازية مثل الصليب المعقوف.« ؟! وقد مارس القضاء الفرنسي ما يعتبر حدوداً مشروعة لحرية.. ففي 10 مارس 2005 منع قاضٍ فرنسي لوحة دعائية مأخوذة من فكرة لوحة العشاء الأخير للرسام ليوناردو دا فينشي. وأمر بإزالة جميع اللوحات الإعلانية خلال 3 أيام.. معلناً أن اللوحات الدعائية مسيئة للرومان الكاثوليك، وبأن الإعلان كان تدخلاً مشيناً وعدوانياً يمس بمعتقادات الناس الخاصة. ». أوليست الرسوم المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، موجهة ضد دين وتنطوي على كراهية وتحريض، وتمس بمعتقدات الناس الخاصة؟! أم أنها قوانين خاصة بدين ومجموعة بشرية ودولة وليست شاملة بالمفهوم الإنساني والقانوني الوارد في المادة ١٩ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة وأهدافها؟! وفي نظرة خارجية أبعد نلاحظ أن هناك تمييزاً بين فعل داخل ديانة ومجموعة دول وبين أخرى على الرغم من اشتراك البشر بالشرط الإنساني والمصير الإنساني.. وفي هذا الإطار يجيء تساؤلنا عن الدول الاستعمارية ومنها فرنسا لنسأل كم اعتدت فرنسا واستعمرت وقتلت بعد ذلك التاريخ.. والجزائر مثل حي، لا سيما عندما نضع آفعالها وأفعال الاستعماريين منذ تكوين عصبة الأمم وحتى آخر ما صدر عن الأمم المتحدة من قوانين في عهد هيئة الأمم المتحدة.؟! وكم فعلت الولايات المتحدة الأميركية أفعالاً من ذلك الصنف في العالم.. وبقيت فوق المساءلة وفوق القانون؟!

في الولايات المتحدة الأميركية ومنذ عام 1798« أٌعتبِرت معارضة الحكومة الفدرالية جريمة يعاقب عليها القانون، ولم تكن هناك مساواة في حقوق حرية التعبير بين السود والبيض. ». ومن خلال متابعة الممارسات العملية لهذه الدولة العملاقة نجد أن ممارساتها في العالم ومفاهيمها وتطبيقاتها لتلك المفاهيم تقوم على ازدواجيات غير مقبولة، وهي مبنية على السياسات البراغماتية والمصالح، وهي لا تخرج عن روح هذا النص المشار إليه الصادر منذ ٢١٧ سنة.. وذلك على الرغم من أن المحكمة العليا وضعت مقياسا لما يكن اعتباره إساءة أو خرقاً لحدود حرية التعبير ويسمى باختبار ميلر Miller test، بدأ العمل به في عام 1973 ويعتمد المقياس على 3 مبادئ رئيسية وهي: ما إذا كان غالبية الأشخاص في المجتمع يرون طريقة التعبير مقبولة، وما إذا كان طريقة إبداء الرأي تتعارض مع القوانين الجنائية للولاية، وما إذا كانت طريقة عرض الرأي تتحلى بصفات فنية أو أدبية جادة.

وعلى الرغم من أن الفيلسوف جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill (1806 - 1873 أخذ بمفهوم مطلق لحرية التعبير حتى لو كان الرأي المعبر عنه أو المدعو إليه غير أخلاقي، إذ قال « إذا كان كل البشر يمتلكون رأياً واحداً وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأياً مخالفاً فان إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة »، فإنه وضع حداً لحدود حرية التعبير هو عدم « إلحاق الضرر بشخص آخر. ».

وإذا نظرنا إلى موضوع الحرية في بعض القوانين نجد أن الحرية كما حددتها المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الصادر سنة 1789م، هي قدرة الإنسان على إتيان كل عمل لا يضر الآخرين.« . وتتقيد حرية الرأي والتعبير في المعاهدات الدولية بقيود أربعة هي: »أمن الدولة، وكرامة الحكومة، وكرامة الأفراد وسلامهم وحرياتهم، وحماية الملكية الأدبية والصناعية والتجارية، ومنها حق المؤلف والرسام والنماذج (الماركات المسجلة).

من التجني بمكان المطالبة بوجود نص في كتاب من الكتب المقدسة فيه تعريف أو تحديد لمفهوم الحرية نقارنه بنصوص القوانين ، لكن في الأديان والمعتقدات الإلهية وشبه الإلهية من حيث التقيس والاتباع يوجد قيم أخلاقية وإنسانية عليا تحث عليها المعتقدات، وهي تتصل بالمعاملات والعبادات وكل ما يتصل بالجوهري من شؤون الحياة وما يؤهل لخير الإنسان في الدنيا والآخرة. وفي الإسلام أمر بالمعروف بصورة مطلقة ونهي عن المنكر بصورة مطلقة، وهو حث للمؤمنين من أتباع الديانات كافة، وليس للمسلمين منهم فقط، على التعبير عن موقف ورأي بصورة منضبطة « ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)) سورة التوبة الآية ٧١ ومفهوم ذلك يتصل بالآخر وبالسلوك والعمل وبشؤن الحياة كافة وحتى بالنوايا.. والرسول محمد صلى الله عليه وسلم لخص رسالته بثوله: » إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق« ، والإسلام يكاد يتحدد ويُختصر بالقول المتواتر: » الدين المعامَلة« ، وحين نتذكر المساواة التامة بين البشر ذكوراً وإناثاً، والتأكيد على رفض العبودية والإذلا والإساءة للإنسان أياً كانت أشكالها وأنواعها، في تطبيق عمر بن الخطاب للعدل الذي هو هو روح الإسلام: » متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً« ، والتأكيد على حرية المعتقد، وهو أمر متصل بحرية التفكير: » وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ« سورة الكهف ٢٩وهو اختيار يرتب على صاحبه ما يرتب، ونهي الإسلام لأتباعه بألا يسبوا دين الآخرين فيتسبب ذلك بأن يسب الآخرون دينهم » وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الآية 108، من سورة الأنعام) .. نجد أن كل ذلك وسواه مما لا يتسع المجال لذكره، يشكل ضوابط عامة وخاصة للتفكير والتعبير والتدبير والسلوك، وهو جوهر حرية التعبير. ففي الإسلام قيود أخلاقية وقانونية على حرية التعبير، وحث على ممارستها بمسؤولية.. الأمر الذي يعني أن الحرية مكفولة وليست مطلقة من حيث الزمان والمكان، ولا هي « حرية التشهير » والإساءة للآخرين، فلا ضَرر ولا ضِرار.

أنا مع الحرية المنضبطة المسؤولة ولست مع فوضى المفاهيم والممارسات المنفلتة لها، مع حرية التعبير ولست مع التشهير.. أنا لست مع القتل ولا مع الاستفزاز والإساءة للآخرين وجرح مشاعرهم والنيل من كرامتهم في تشويه معتقداتهم.. وعلى المسؤلين بدرجاتهم أن يفعّلوا القوانين وأن يُعْمِلوا العقل والضمير والحس السليم ليجنبوا المجتمعات والشعوب والبلدان الآثار المدمرة للإساءات والاستفزازات التي تؤدي إلى الكراهية والقتل وتفتح أبواب صراع الحضارات، وتفسد العلاقات بين الناس. وكل إنسان سليم التكوين العقلي والوجداني  عليه أن يرى بعينين لا بعين واحدة، وأحياناً تكون حولاء.؟! فكم من الاعتداءات والممارسات وقعت بسبب الاستفزاز الديني وأدت إلى مضاعفات، وكم من الممارسات الكريهة في هذا المجال سُكِت عنها ولم تلق شجباً من أي نوع.. وها نحن، بعد حادث ايبدو بيوم واحد نشهد  تعرض ثلاثة مساجد على الأقل في فرنسا لعدوان.. ويتعاظم السلوك العنصري ضد المسلمين، وليس هذا لا في صالح فرنسا ولا في صالح المسلمين ولا في صالح العلاقات بين الأديان وأتباعها في كل مكان من العالم.

يتكلمون عن التحريض في الصحافة العربية ليشاركوا في إدانة منفذي الهجوم على مجلة « شارل إيبدو »، ولا يذكرون التحريض الذي قام به الإعلام الغربي والصهيوني ضد العرب والمسلمين بعد أن مادت ايبدو وغيرها من وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية والصهيونية في الإساءة لهم ولعقيدتهم ورموزهم الدينية.. ولا يتذكرون أيضاً أن نشر تلك الوسائل للصور المسيئة للرسول محمد « ص » بصورة متكررة وتتعمَّد الإساءة يتضمن أكثر من تحريض، بصورة مباشرة وغير مباشرة، فالفعل العدواني الاستفزازي المتكرر والمستمر منذ عام ٢٠٠٥ وحتى ٢٠١٥ ابتداء من الصحيفة الدانمركية إيلاند بوستن وانتهاء بالكرتونية الهزلية شارلي إيبدو، هو فعل وقح ومستهتر وصبياني ومستفز ومخالف للقوانين، ولم يردعه أحد من المسؤلين، ومن الطبيعي أن يحرض ذلك على ردود فعل كان آخرها رد فعل دام في باريس. وقد جاءت إشارة أو اثنتان في صحف غربية حول تقييم ما فعلته « شارل إيبدو » وأمثالها، ففي الصحيفة البريطانية المعروفة باحترام أصول المهنة وبالجدية والاتزان نشر الكاتب توني باربر مقالاً يوم الخميس ٨ يناير ٢٠١٥ وصف  فيه الصحف التي تنشر الصور المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بأنها « غبية » حيث قال: « ..إن بعضاً من المنطق السليم سيكون مجدياً لصحف مثل شارلي إيبدو وإيلاند بوستن الدانماركية التي ينم محتواها عن توجيه ضربة للحرية عندما تستفز المسلمين، لكنها في حقيقة الأمر غبية تماماً ». ويرى أن للصحيفة الفرنسية « شارلي إيبدو » سجلاً حافلاً بالسخرية وإغضاب المسلمين واستثارتهم، « فقبل عامين نشرت كتاباً من 65ً صفحة يحوي رسوما كاريكاتيرية ساخرة عن حياة النبي محمد ». وشن الكاتب بروس كراملي في مقال بمجلة تايم الأميركية هجوماً لاذعاً على الصحيفة الفرنسية واصفاً إياها بأنها مطبوعة « صبيانية » نظراً « لمسلكها الغريب الكاره للإسلام ».

إن وراء هذا التهويل الذي جرى ويجري الكثير من الشبهات بأعمال تدبر وسياسات يُراد لها مسِّوغات، وما كل هذ التأييد والتهويل والتخويف والعراضات والاستعراضات إلا تعبئة كبرى، وتهيئة للرأي العام الفرنسي والغربي والعالمي ولأتباع للغرب من العرب والمسلمين، تمهيداً لحدث كبير جداً يستهدف بلداناً عربية وإسلامية، أو يهدف إلى متغيرات سياسية دراماتيكية كبيره يُراد لها ما يسوِّغها، وقد يكون منها ما يتصل بالموقف من سورية على وجه التخصيص الذي قد يشهد تحولاً في الموقف الأوروبي.. وقد دعت جريدة الأندبندت اللندنية إلى « عدم التردّد في الإعلان عن نهاية الخصومة مع سورية ورئيسها قائلة: دعوا الرئيس بشار الأسد يتكفل بالحرب على الإرهاب فهو سيد هذه الحرب ويكفيكم شرفاً أن تساعدوا في مخرج لائق يبرّر لكم هذا التعاون عبر الإسراع بمصالحة سورية، سورية تنتج حكومة وحدة وطنية تحت رعاية الأسد تحشد طاقات الحكومة وما تيسّر من المعارضة المعتدلة في هذه الحرب. ».

وقد كان رئيس وزراء فرنسا الأسبق دومينيك دو فيلبان واضحاً وميالاً إلى مواقف وسياسات مغايرة حين قال في مقابلة متلفزة: « إن تنظيم الدولة الإسلامية هو الطفل الوحشي لتقلب وغطرسة السياسة الغربية، إن التدخل العسكري في أفغانستان والعراق وليبيا ومالي ساهم في مضاعفة أعداد الجهاديين الإرهابيين الذين كانوا بضعة آلاف وأصبحوا يعدون نحو ثلاثين ألف مقاتل.. إن هذا التنظيم يكشف الإرهاب الحقيقي ويبرئ المسلمين من هذه الأعمال الإجرامية »، وقد « حان الوقت أن تتعلم أوروبا والولايات المتحدة من تجربة الحرب على أفغانستان، ففي 2001 كان لدينا بؤره إرهاب رئيسية واحدة أما الآن وبعد خوض عمليات عسكرية على مدار الـ13 عاماً الماضية شملت أفغانستان والعراق وليبيا ومالي أصبح لدينا نحو 15 بؤرة إرهابية بسبب سياستنا المتناقضة ».. وفي مقال نشر له قبل يومين بصحيفة لوموند الفرنسية، قال دو فيلبان إن فرنسا تُجر إلى حرب خارج السيطرة، مؤكداً ضرورة المحافظة على القيم الديمقراطية للدولة الفرنسية وتعزيز كل السبل لبناء « إسلام فرنسي » معتدل بعيد عن التطرف. وهذا الموقف يذكرنا بموقف دو فيلبان في مجلس الأمن الدولي عام ٢٠٠٣ عندما دار ذلك الحوار التاريخي المتعلق بالعراق بينه وبين وزير الخارجية الأميركي كولن باول ووزير خارجية بريطانيا.. وكان دوفيلبان إنساناً منطقياً وشجاعاً وسياسياً بعيد النظر في مواقفه، ووطنياً ذا رؤية يريد أن يجنب بلاده الانزلاق إلى مسارات غير محمودة العواقب.

لكن للأسف الشديد هذه السياسات العاقلة المنصفة نادرة، وللأسف الشديد أيضاً هناك وقائع كثيرة ومواقف عديدة تشير إلى أن من يدّعون إلى المحبة ويدعون إليها لا يمارسونها عملياً، وأن هناك من يمارسون المحبة ولا يدعونها لأنفسهم ولا يتكلمون عنها.. أما القتل فحدث ولا حرج ومن الطرفين مع فارق كبير: من يدعون إلى المحبة يقتلون بالجملة، ومن يمارسون المحبة من دون ادعاء يقتلون بالمفرّق.. وكل يتهم الآخر بالقتل..فتأمل يا رعاك الله.؟! في هذا المناخ السياسي الموبوء أعلن أنني ضد القتل وضد التشهير الذي يؤدي إلى القتل، وأنني مع العقل والضمير والحكمة.. فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.. (قلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). سورة آل عمرانـ الآية ( 64 )، أي مسلمون لله سبحانه.

 

والله ولي التوفيق

 

دمشق في الثلاثاء، ١٣ كانون الثاني، ٢٠١٥

علي عقلة عرسان