خبر استقرار المنطقة العربية يمر عبر شعوبها وفلسطين..د.جميل يوسف

الساعة 08:30 ص|09 يناير 2015
 * د جميل يوسف 
 تعرضت كل مرتكزات الأمة العربية الثقافية والعرقية والحضارية في السنوات الماضية إلى هزات عنيفة تحاول أن تقتلع مكونات الشعوب العربية وتهدد وجودها, مما اضطر هذه الشعوب الى الركض في كل الاتجاهات أملا في النجاة, لكن هذا الركض أدى إلى انزياحات خطيرة في الشرائح الاجتماعية والسياسية للأمة, وبدت الأمة كالجسد الذي تنتشر فيه الخلايا السرطانية لتدمر كل قدراته الحياتية وتحيله جثة هامدة, بينما أنظمة وزعامات الأمة من أصحاب السيادة والفخامة والجلالة لم يتخذوا خطوة ايجابية واحدة لحماية شعوبهم ومنطقتهم, وعلى النقيض بدت كل تصرفاتهم وكأنها تؤجج للنيران المشتعلة .  
 ما تشهده المنطقة من صراع متدحرج وللأسف لا يبدو له نهاية قريبة, وهو عبارة عن صراع بين الفوضى الخلاقة التي اشعلتها ادوات الشر الأمريكي والعيش والكرامة والحرية, التي احرق محمد بوعزيزي جسده النحيل ومعدته الخاوية من اجلها, ان التناقض بين بوعزيزي والفوضى الخلاقة هو الذي سيشكل المستقبل العربي والفلسطيني, طرفي المعادلة يسيران في خطين متناقضين ولا يمكن التقاءهما ولا يمكن وضعهما في سلة واحدة, فمطالب العيش والكرامة والحرية هي نقيض للفوضى الخلاقة, والظروف الموضوعية والذاتية للمنطقة العربية جاهزة للتفاعل مع هذين الضدين, ولا زالت المنطقة تشهد ارتدادات خطيرة نتيجة لهذه التناقض والتي اتت على اهم اوراق القوة للمنطقة العربية وأفرزت أفكار وشرائح مدمرة لكل مقومات الحياة في المنطقة.  
  بدا النظام العربي عاجزا عن استيعاب ما يحدث واستغلال اللحظة لسحب البساط من تحت الفوضى الخلاقة, ووقف رافضا للفوضى الخلاقة من حيث المبدأ, لكن من حيث الفعل ادخل المنطقة فيما هو اسوأ من هذه الفوضى, لم يفكر النظام العربي في تجميع كل مكونات الأمة لمواجهة الفوضى ومنع الانحراف الكبير في العقل والسلوك العربي الذي بات القاسم المشترك لمعظم الشعوب العربية.      هذا الصراع فتح الباب على مصراعيه لكثير من الأسئلة التي تشكل هاجس شعوب المنطقة وتصلح مدخلا للمحافظة على المنطقة من جديد, كيف ولدت الظاهرة الداعشية؟ ومن المسئول ولمصلحة من؟ وهل الداعشية افراز لعجز وظلم النظام العربي ام لعدم تمكن الحركة الاسلامية من ملأ الفراغ الفكري والاخلاقي وتحقيق اهداف الأمة ام لكليهما معا؟ ...  واذا كانت نسبة الحسم في الانتخابات في الدول الديمقراطية من 2%-5%, فما هي النسبة المئوية من الشعب التي يسمح بها النظام العربي للاستماع لها ومحاورتها؟ ... وما هو الخطر الأكبر على الأمة وما هو الخطر الأصغر؟ وهل كان الطيار الاردني في مواجهة مع الخطر الأكبر في شمال سوريا ؟ وهل تعتبر اسرائيل خطرا اصغر من وجهة الأمن القومي والنظام العربي؟ ..... الخ.    
 تمت ولادة النظام العربي الحديث في ظروف غير طبيعية لأن معظمها جاء كمحصلة للصراع مع قوى الاستعمار الغربي وعن طريق الانقلابات عسكرية ولم تأت في معظمها نتيجة ارادة شعبية حقيقية وعبر الوسائل الديمقراطية المعروفة او نتيجة عقد اجتماعي مع شعوبها, لكنها استمدت شرعيتها في البداية من عاملين رئيسيين, الاول انها نقيض وعدو للاستعمار وبالتالي التقت هي وشعوبها في خندق واحد مما منح أغلبها في البداية تأييدا لا تستحقه, والامر الآخر وربما الأهم انها أعلنت تناقضها الرئيس مع المشروع الصهيوني في فلسطين, بل وربطت كل مشاريعها ومستقبلها بمواجهة اسرائيل, هذا الأمر منحها الشرعية الوطنية والقومية وتعلقت الشعوب بهذه القيادات من اجل فلسطين ومواجهة الاستعمار.    
 ان تشكيل النظام العربي بعيدا عن الشعوب وانتمائه لشريحة العسكر, دفعه لأن يقيس الأمور بمعايير مختلفة عن متطلبات هذه الشعوب, وهذه المقاييس لم تكن في مصلحة الجماهير, وعلى مدار اكثر من اربعة عقود تحلت الشعوب بالصبر طالما كان الهدف إسرائيل ومواجهة الامبريالية العالمية. وقد اختلفت الأمور عندما استدار النظام العربي وانقلب تماما على هذين المرتكزين, في أواخر السبعينات بدأ النظام العربي يتصالح مع إسرائيل « كامب دافييد » السادات وتحالف مع الامبريالية وقوى الاستعمار في ضرب العراق.      تعرض النظام لأزمة شرعية حقيقية بعد التصالح مع المشروع الصهيوني وإدارة الظهر للقضية الفلسطينية خاصة وأنه فشل في تحقيق اي انجاز لصالح شعبة على مستوى الاحتياجات الحياتية والنهضة, وبدأت المسافة تتسع اكثر فأكثر بين النظام والشعوب وكان من نتائج هذا الافتراق المواجهة المسلحة بين النظام المصري في مرحلة السادات والقوى القومية والإسلامية, وهو النظام الأول الذي تخلى عن عوامل الشرعية وتصالح مع العدو الصهيوني.  
   على مدى أكثر من عقدين من الزمان لم يتحرك النظام العربي للبحث عن قواسم مشتركة مع الشعوب العربية بل وقف متفرجا فيما القدر الجماهيري يقترب من درجة الغليان, بل لجأ الى خطوات تزيد من تعقيد العلاقة بدلا من تحسينها, كما فعل عندما تحركت الجماهير لنصرة الشعب الفلسطيني منذ انتفاضة الأقصى حتى الآن وبوجه خاص بعد المجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني.     
 ما حدث في الفترة الأخيرة من توترات في الشارع العربي بين النظام والشعوب عبارة عن مخرج لمدخلات انفصام العلاقة بين الجماهير والحكومات والتي استمرت لعدة عقود, وللأسف اتسم هذا المخرج بالاحتراب والتنافر, الحكومات المسئولة الوحيدة عن هذا الاحتراب بحكم أنها هي التي تدير وضع الدولة وكذلك لأنها تصرفت بشكل غير مسئول عندما زجت بمؤسسات الدولة خاصة المؤسسة الأمنية والقضائية والاعلامية لصالحها في هذا الاحتراب, وبدلا من حصر الخلاف بينها وبين شعبها لتسهيل الحل توسعت به ليشمل كل مكونات الدولة, مما أدى ذلك إلى تعقيد الحل بدرجة كبيرة .  
   أمام هذا الوضع وشعور الشارع أن هذه المعركة لم تعد ضد النظام بل أصبحت ضد الدولة مما اربك الشارع العربي واحدث فراغا كان من السهل أن يفتح الطريق للتطرف ودعاة القتل واستدعاء العدو الأجنبي, تفاعلت عوامل دعاة القتل والتطرف مع الفوضى الخلاقة والمصلحة الإستراتيجية الإسرائيلية فأخرجت للمواطن العربي النكبة الكبرى من انقسام اجتماعي ومذهبي وقطري, وأصبحت فلسطين خارج ذاكرة دعاة التطرف والقتل وخارج اهتمام النظام العربي, بل اصطف النظام العربي ضد فلسطين وتقاطع مع المصالح الصهيونية, إن المصلحة الوطنية توجب ان يتحاور النظام العربي مع شعبة ويتراجع عن التوصيف السيئ للمعارضين حتى لو كانت هذه النسبة 10% مع ترجيحي أنها أكثر بكثير جدا من ذلك. 
    إن المتأمل للأفكار المدمرة التي تجتاح المنطقة يلاحظ إن منحنى التطرف والرغبة في القتل يزداد يوما بعد يوم وقادة المنطقة يدفنون رؤوسهم في التراب, من التكفير والهجرة وجماعات الجهاد قبل أربع عقود مرورا بالقاعدة وغيرها الكثير إلى أن وصلنا إلى داعش, وان لم تنجب المنطقة العربية رجال راشدين يمنحون شعوبهم حقوقها وحريتها, سيتواصل مسلسل التطرف وسنفاجأ بما هو اكثر تطرفا من داعش, وان لم تحدث تحولات جوهرية في بنية وأدوات وتحالفات النظام العربي ستتفسخ المنطقة إلى ما هو أسوأ وستجد الفوضى الخلاقة طريقها الى النجاح.   
  المصالحة بين الأنظمة وشعوبها سوف تشكل السلاح الأهم ضد دعاة القتل والتطرف والعدو الأجنبي, ولن يتمكن أي نظام ان يتجاوز المشاكل الداخلية والداعشية بدون الاندماج مع الشعب, أما اذا بقي النظام في حالة عداء مع الجمهور فلن يجد شباب الدولة من خيار سوى لمزيد من التطرف والانزياح الأكيد نحو الداعشية , كما أن العودة إلى استحضار فلسطين في سياساتها سيربك الحسابات الأجنبية ويمنعها من العبث بالأمن القومي العربي .   المؤكد أن كلمة السر للنظام العربي هي شعوبها وفلسطين وبدونهما سيستمر النظام في التآكل الذاتي مصطحبا معه تدمير المنطقة وإفساح المجال للهيمنة الأجنبية, من العيب أن يكون النظام عربيا والشعوب عربية وداعش عربية والأرض المستباحة عربية والضحايا عرب, ولا تلتقي عند مشتركات كثيرة, أما المستفيد الوحيد فهو الغرب والمشروع الصهيوني.     
     التنازل لبعضنا البعض في الدول العربية على ارضية ثوابت الامة والشراكة الحقيفقية, الآن سواء من قبل الشعوب أم الحكام لإنقاذ ما تبقى من الوطن واجب وطني وأخلاقي وحماية للمنطقة, والأولى بالتنازل ومصالحة شعبه هو الحاكم والنظام لأنه الذي بدأ الخطأ بالابتعاد عن شعبه وعدم منحه أي وزن في سلوكه وقراراته.
* باحث في الشأن الفلسطيني