خبر الماضي بين ذاكرة أخلاقية وتجارب السابقين.. عبد الرحمن شهاب

الساعة 09:53 ص|06 يناير 2015

بقلم: عبد الرحمن شهاب

مدير مركز أطلس للدراسات والبحوث

الحديث عن التاريخ أمر شائك، خاصة ان مناهج الورود على التاريخ مختلفة ومتناقضة، بعضها تناقضه سطحي وبعضها تناقضه جذري، وبعض التناقض الجذري يتم علاجه بشكل سطحي، ولا زالت إشكالية التعامل مع التاريخ تزيد المسلمين والعرب أزمات على أزماتهم؛ حيث ان التاريخ كطبيعته مثقل بالأحداث والتجارب والتي يحاول الناس الرجوع اليها لتهديهم في ظلماتهم فلا تزيدهم الا رهقاً، وذلك لأنهم لا يرِدون على التاريخ بشمولية القراءة وانما يردون على أحداثه الجزئية ليشتقوا منها عبراً وعموميات، ولا يدركون ان في التاريخ أحداث لا يمكن صياغتها على شكل منهج ولا بلورتها في صورة معايير كي تتحول الى أدوات لإدارة شؤون الواقع، هذا أمر لا شك مستحيل ولا يحصل ولن يحصل.

من الطبيعي ان الأمة التي تنغلق على تاريخها هي أمة تلقي بنفسها في قوقعة زمنية محددة وداخل فقاعة ثقافية جامدة، فتقيد عقولها وتميت إبداعها داخل هذا الزمن، وفي إطار تلك الثقافة.

ومن هنا تكمن الأزمة في قيام الكثيرين من الكتاب والخطباء والوعاظ باجترار أحداث الماضي، حين يقتبسون أحداث سابقة من التاريخ وينقلون التجربة كما هي للاستفادة منها، وهم لا يدركون ان تلك التجربة التي كانت تعبيراً عن الأعراف والمعايير الأخلاقية في عصرها لا تعدو ان تكون أحد ثلاثة احتمالات: 1. ربما كانت تعبيراً خاطئاً عن تلك المعايير والخطأ في التعبير أصبح ملموساً ومدركاً، 2. وقد تكون تعبير خاطئ عن الأخلاق، ولكن الخطأ في التعبير غير مدرك، 3. وقد تكون تعبيراً صادقاً عن منظومة الأخلاق في تفس الزمان، وحتى لو كانت كذلك؛ ففي كل الحالات هذه التجربة التاريخية الجزئية لا تصلح لنقلها الى الحاضر كما يفعلون.

بالمقابل؛ قد نجد من يتعامل مع هذه الاشكالية من خلال تفكير مأزوم، كأن يرفض التاريخ جملة وتفصيلاً، وذلك بالقطع مع التاريخ كما فعل الغرب حيث كانت نقطة انطلاقة نهضته في العصر الحديث، وهذا المنهج أيضاً لا يمكن القبول به بحجة ان الماضي عائق للمستقبل، والأخذ بتجربة الغرب مع المسيحية عندما أثقلته الأحداث التاريخية فأقام مشروعه الحضاري، فليس التاريخ أحداثاً متناثرة وقصص تسلية أو وقائع للاستدلال تستخدم في الحاضر، بالاستقاء منها أو الانقلاب عليها؛ وإنما ما وراء الأحداث هو الذي يمكننا ان نبحث فيه ونتلمس الديناميكية الفاعلة التي صنعت الأحداث خلال الماضي، والتي منحت الأفراد والمجتمعات السابقة القدرة على إدارة حياتهم بالشكل الذي قد يعجبنا أو قد لا يعجبنا.

 

مفهوم التاريخ

التاريخ هو عبارة عن ذاكرة متجذرة على طول الزمن الانساني، فلم يبدأ التاريخ الإسلامي من بعثة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ بل يمكن ان نتحدث عن تاريخ العرب مع التدين انه بدأ من هناك، إنما التاريخ كما يقسمه الفلاسفة الى قسمين:

- القسم الأول: هو ذاكرة أخلاقية تضم كل مكارم الأخلاق التي دعا إليها الرسل السابقين، وكذلك الصالحين والفلاسفة منذ آدم (عليه السلام) إلى اليوم، وكان دورهم هو رد البشرية الى تلك الذاكرة « منظومة الأخلاق »، وفي الوقت الذي قدر الله ان البشرية لم يعد يصلح لها ارسال رسل مرتبطين بقوم معين او بقعة جغرافية محددة؛ أرسل الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من قوم ليس لهم أزمات مع امبراطوريات قائمة ولا خلافات تاريخية وحضارية مع أمم قبلهم أو في زمانهم ليمكن القرآن من ان يكون حاضناً ثقافياً وأخلاقياً للبشرية، ويشكل رافعة أخلاقية حتى للذين يخالفونه، ومن هنا توقف إرسال الرسل وبقي القرآن ليستمر مكملاً للأديان السابقة مع البشرية الى يوم القيامة، ويأتي دور القرآن ليحفظ هذا الخط من الذاكرة الممتد عبر الأزمان، فهو في المرتبة الأولى حافظ ومحفوظ، بمعنى انه حافظ للذاكرة الأخلاقية التي أراد الله لها ان تكون هي السائدة، ومحفوظ من ان تتسلط جماعة في زمن ما من احتكار تفسيره واخفاء الأصل، وكان دور الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليشكل تعبيراً عن منظومة الأخلاق التي جاء القرآن ليتممها « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق »، وتعبيراً بشرياً عن امكانية ارتقاء الانسان نحو خلق القرآن، وواقعية الاخلاق التي يدعو اليها القرآن.

- القسم الثاني: أحداث إنما هي تعبير عن تلك الذاكرة في نقاط من الزمن، وهي تجارب السالفين مع الحياة، والتي يقتربون بها ويبتعدون عن جوهر الذاكرة، والتي تشكل منظومة مكارم الأخلاق، فالذاكرة بمفهوم منظومة الأخلاق هي التي تسمح للإنسان بأن يكون له الديناميكية الذاتية للتفاعل مع الحياة، والتي يعتبرها الدكتور طه عبد الرحمن – أي منظومة الأخلاق – أصلاً من أصول التشريع، وهي التي عرفها بعض علماء الأصول بالعرف والعادة.

منظومة الأخلاق، والتي جاء القرآن ليعززها، وجاء النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ليتممها؛ لا يمكن أن تصاغ بقوالب وعموميات يمكن ضبطها – حتى القرآن لم يضبطها بقوالب جامدة – لأن هذه القولبة إنما تخدم عملية تجميد لمفهوم واحد عن الخلق الواحد، فمثلاً لا يمكن أن نصوغ العدل بقالب ومعايير ثابتة لتطبيقه، حتى في الزمن الواحد، ومن هنا يمكن اعتبار صياغة القانون والدستور هي محاولة تقريبية للتعبير عن خلق العدل في الزمن المحدد، فخلق فالعدل خلق ثابت، وفي نفس الوقت يعبر عنه من قبل الذاكرة البشرية بأشكال مختلفة غير ثابتة؛ الأمر الذي يخرجنا من مأزق نقاش « الثابت والمتغير »، فحتى القرآن هو مفاهيم ثابتة لكن بتعبيرات متغيرة، حتى يتمكن من ان يعْبُر بالأخلاق خلال الزمان ويحيط بتعدد الأفهام.

هذا الأمر يقودنا الى الحديث عن جوهر القرآن، والذي هو حافظ لذاكرة الأخلاق الممتدة منذ آدم (عليه السلام) على امتداد الرسل وحتى يوم القيامة، ومن هنا فإن تعبير الرسول عن الأخلاق كان مناسباً لذاك الزمن، فلو كان تعبيره – أي الرسول – عن الأخلاق عابراً للأزمان لكان هو المنظومة التي يعززها القرآن ويخدم ارسائها، ولكن علاقة الرسول بالقرآن عكس ذلك، فالقرآن هو المنظومة والرسول معبراً عنها، ومن هنا يجب التعامل مع القرآن على انه يقوم بعملية تقعيد المفاهيم، فيما لم يستغرق كثيراً في التركيز على التشريع، فالتقوى مثلاً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست مسائل تشريعية، ولا يمكن صياغتها بقوالب ثابتة وإنما هي مفاهيم أخلاقية.

فالقرآن إذاً هو الذي يصنع الأجواء التي يُعبّر عنها بالطرق المختلفة، وهو بذلك يقوم بأهم عملية، وهي منع الانسان من ان يكون مصدر نفسه، فالقرآن هو ان تسمع كلاماً غير كلامك، والذاكرة « منظومة الأخلاق » التي يحميها القرآن هي ان تحتكم وتحكم على أحداث الماضي بمفاهيم خارجه عن الانسان ذاته.

 

نحن والغرب والذاكرة

لقد واجه الغرب هذه المشكلة، ولكنه تعامل معها بطريقته الخاصة، فالمسيحية كانت هي ذاكرة الغرب، ولم يستطع الغرب ان يفرق بين الذاكرة وبين تعبيرات الذاكرة، فكان رفضه لتعبيرات الذاكرة التي عبر عنها السالفون بطرق خاطئة قد قاده الى قطع مع الذاكرة – منظومةً وأحداث – أما نحن المسلمون اليوم فما زلنا نعيش ضبابية الصورة في التفرقة بين الذاكرة وبين التعبيرات عنها، وهذا قد قادنا الى حالتين متناقضتين سارا بشكل متوازي لا مخرج من أحدهما إلا بالوقوع في فخ الآخر:

الأولى: القطع مع الذاكرة، وهو رفض الماضي والتاريخ والانقلاب على منظومة الأخلاق.

الثانية: اشتباك بين الذاكرة وأحداث التاريخ، واعتبار التاريخ وأحداثه التفصيلية هي الذاكرة وانه هو منظومة الأخلاق، ولتجاوز عثرات السابقين الفاقعة نحاول ان نتحفظ على بعض الأخطاء التفصيلية التي وقع فيها السابقون في تعبيرهم عن الأخلاق، مع التزامنا بالمعايير والمناهج التي حددوها للتعامل مع المنظومة وجعلوها معايير ثابتة، فأثبتوا القرآن وجعلوا تعبيره الذي ارتأوه عابراً لحدود الزمان، ليتحول القرآن من متحرك بالأخلاق والذاكرة التي يحفظها الى جامد تحت شعار « الثابت والمتحرك »، فكان إثباتهم للقرآن ما هو الا عملية تحويله من كلام الله المقعّد للأخلاق الى كلام مقعَد بالعموميات التي وضعوها كقارئة للقرآن ومفسرة للسنة النبوية، وأثبتوا تعبير الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن الذاكرة والأخلاق والقرآن في الزمن المحدد الى كل الأزمان، رغم ان الرسول قد نهاهم عن الاحتفاظ بالسنة بنهيه لهم عن كتابتها وأمرهم بكتابة القرآن لكي يبقى وحده هو الصانع لمناخ التقعيد.

 

الغرب وتاريخنا

يكثر البعض من تخويفنا من استهداف الغرب لتاريخنا ولديننا، ويقصر تاريخنا على تاريخ العرب مع الإسلام، مع ان تاريخ الاسلام يتعدى الى ما قبل بعثة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، فكل الرسل دعوا الى الاسلام لرب العالمين والى رسالة عقيدية واحدة، والي منظومة أخلاق واحدة؛ ومن هنا فاعتبار ان الغرب يستهدف التاريخ الاسلامي هو تبسيط سطحي لمشكلة الغرب مع التاريخ العربي ومع التاريخ البشري بشكل عام.

فلسفة الغرب مع التاريخ بشكل عام، والذي هو ذاكرة البشرية كلها ، تقوم على أساس فلسفة ديكارتية تتعامل  بالقطع مع التاريخ، أما الغرب المنظومة الغربية الحديثة المتآمرة فهي لا تريد لنا هذا القطع مع التاريخ، لأنها تستفيد منه في مؤامراتها ضد بلداننا التي تنتمي لتاريخ المسلمين مع الاسلام، إنهم أرادوا لنا ان نفعل ونستمر فيما نحن فيه من فهمنا المغلوط للتاريخ ، لأننا بالفهم السطحي إنما نجمد ذاكرة الأمة ونجمد القرآن ونقلب المعرفة بجوهر القرآن، بحيث تصبح أقوال العلماء وأفعال الأمراء حاكمة على القرآن وتشكل حاجزاً بيننا وبينه، فيدعموا تصورنا عن شكل من أشكال قيمة العدل وهو الدفاع عن النفس وشكل من أشكال قيمة الدفاع عن النفس وهو الثأر والاثخان في العدو، ونمط من أنماط العدو وهو الكافر، وشكل من أشكال الكفر وهو إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وشكل من أشكال المعلوم من الدين بالضرورة وهو عذاب القبر مثلا، وسبب من أسباب عذاب القبر وهو الذي لا يستتر من بوله ...، وهكذا، أو قد يتركنا لتصورنا عن شكل العلاقات الاجتماعية، وهو الوحدة وشكل من أشكال الوحدة وهو إقامة الخلافة، وشكل من أشكال الخلافة وهو توحيد الخلافة وتوحيد الحاكمية، وهكذا ...، وبالتالي حتى الاختلافات في تفسير السابقين للقرآن والناتجة عن مرونة القرآن ليستوعب الزمان يتركنا الغرب لنفرضه على بعضنا البعض ويوفر لنا الأدوات والسلاح لذلك.

 

الماضي مدرسة الحاضر؟

يعتبر أفلاطون ان الخطوة الأولى في إرساء مجتمع أكثر اجتماعياً هي تحرير الانسان من القيود السياسية والاقتصادية، وتلك القيود إنما تشكل قيود على التفكير والاحساس، فالخطوة الأولى لتحرير الناس من هذه القيود هي تحريره من قيوده الايمانية والأيديولوجية الخاطئة، والتي تصنعها المؤسسات القائمة المنحرفة، والتي لا يمكن ان تؤتمن على التعليم، والتي لا تقود الا الى الضياع، ومن هنا يرى انه يجب نقل القوة الى الطبيعة المؤتمنة على القيم ولتكن هي القوة المنتصرة؛ هذ المفهوم الذي دعا له أفلاطون هو من المفاهيم التي انقلب عليها الغرب عندما شكل قطعاً مع التاريخ منذ عهد الثورات وبداية مفهوم « التقدم » في التاريخ.

أما التعليم الحديث، والذي شكل انقطاعاً عن التاريخ، فقد هدف الى دحر التعليم الفردي وجعل التعليم يصب في مصلحة الدولة ويحقق أهدافها، وبهذا فقد جعل الناس عبيداً للدولة وجعل التعليم مسخراً للاقتصاد.

بالتأكيد لا يكون هناك أي معنى للتعليم بدون معرفة ما هو المجتمع الذي نريد، هل التعليم الذي نريد يعزز ثقافة الكراهية والحروب؟ أم يعزز ما يربط بني الانسان ببعضهم كتطلع لتحقيق اهداف مشتركة خارج الحدود الجغرافية؟ أي تعليم يحرر الطاقة الفردية من قيود مشروع الدولة، لا شك ان التعليم في بلداننا العربية لا يدعم فكرة القطع مع التاريخ، ولا يتعامل بشكل صحيح مع الذاكرة ومنظومة الأخلاق الممتدة تاريخياً.

من الواضح ان التعليم مطلوب لعلاج الفجوة التي تزداد مع تقدم الزمن بين قدرات الشيوخ وخبرة صغار السن، حيث ان التعليم هو الذي يجسر هذه الفجوات عندما يقوم بعملية نقل تفكير ومشاعر وتقاليد وأعراف وأخلاق الذين سيفارقون المجتمع في القريب الى الذين دخلوا المجتمع من قريب، فلو ماتت طبقة من طبقات المجتمع فجأة قبل نقل التجارب لتغير المجتمع الى فترة بعيدة، ولذلك قلنا ان الضامن الوحيد لحماية الذاكرة البشرية هو القرآن الكريم الممتد عبر الزمن، والذي صيغ بطريقة إلاهية تعبر عن الأخلاق بأشكال مختلفة لتحتوي الزمان، ومن هنا فإن التعليم الذي نحتاج هو الذي يجب ان يركز على الذاكرة التي تحتوي الأخلاق، لا على التعبير البشري لهذه الأخلاق، والذي هو تجارب السابقين بغض النظر ان كانت تعبيراً صحيحاً عن القيم ام تعبير خاطئ، بهذا المفهوم يمكن ان نقبل مقولة التاريخ مدرسة الحاضر، أما غير ذلك فلا نقبل إلا ان تكون ذاكرة الأخلاق هي مدرسة الحاضر، أما تعبيرات التاريخ المختلفة فليست هي التي تصنع واقعنا الحاضر، لأنها وان كانت صادقة في التعبير عن الأخلاق فهي قد لا تصلح للتكرار حتى لو تكررت الظروف، لأن الأمراض الاجتماعية والنفسية أشبه بالفايروسات التي تعيد تشكيل نفسها، وفي كل مرة هي بحاجة الى انتاج علاج جديد يختلف عن العلاج السابق، وذلك لأن الفايروس أيضاً لديه ذاكرة تساعده على تجاوز التحصينات التي واجهته سابقاً.