خبر ياسر عرفات... الحلم الذي لم يتحقق.. بقلم د.وليد القططي

الساعة 07:50 ص|08 نوفمبر 2014

عندما كنت صغيراً في مرحلتي الطفولة و المراهقة في السبعينات من القرن الماضي، لم أكن أفرّق – و معي أبناء جيلي – بين ياسر عرفات و فلسطين، و كأنهما كلمتان لمفهوم واحد ( الوطن) أو كأنّ حبهما يدل على معنى واحد هو ( الوطنية) ، أو كأنهما وجهان لحلم واحد هو (العودة). فلم نكن نفرّق في ذلك الوقت بين حب فلسطين  الوطن المفقود، و حب ياسر عرفات الزعيم الذي يجسّد حلم العودة إلى الوطن المفقود. فلقد كان بالنسبة لنا رمزاً لكفاح الشعب الفلسطيني يُعبّر عن نكبته و مأساته و معاناته السابقة، كما يُعبّر عن آماله وطموحاته و أحلامه القادمة. فكان تجسيداً للحلم الفلسطيني المتمثل في التحرير و العودة و الاستقلال، وكان نموذجاً حياً للبطل الذي يحلم المراهقون و الشباب أن يقتدوا به، وللفدائي الذي يفتدي وطنه بنفسه، و للمقاتل العنيد الذي لا يلين و لا يستكين، و للسياسي الملتزم بقضية شعبه دون أن يُساوم أو يُهادن.

و لم يكن أحد بمقدوره أن يشوش على هذه الصورة المشرقة للزعيم الراحل المحفورة في عمق القلب و الوجدان. خاصّة و أننا كنا نشعر كفلسطينيين مقيمين خارج فلسطين في ذلك الوقت بأهمية النضال الوطني الذي وقف الزعيم الراحل على رأسه من خلال ترأسه لحركة فتح و لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي حوّل القضية الفلسطينية من قضية لاجئين يحتاجون إلى المأكل و المأوى ، إلى قضية وطنية جوهرها التحرير و العودة و الاستقلال ، و أعطتنا إحساسا بالكرامة الوطنية باعتبارنا شعب يُقاوم المحتل و يضحي من أجل وطنه و ليس مجرد شعب يتسّول لقمة عيشه في مخيمات اللجوء و أماكن النزوح.

و ما أن دارت الأيام دورتها، و مضت السنون نحو غايتها ، و توالت الأحداث تباعاً يدفع آخرها بأولها ، و قالت الأحزاب كلمتها، وذهب الناس في الرجل مذاهب شتى ، وتوزعت الآراء بين تطرفين: أحدهما مبغض قال لا يرى للرجل أي حسنات ، و محب غال لا يرى للرجل أي سيئات. و استفحل الخلاف بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 و إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 ، فذهب الطرف الأول في تطرفه حد التخوين أو التكفير ، أو على الأقل التفريط أو التفسيق. و ذهب الطرف الثاني في تطرفه حد التنزيه أو التقديس أو على الأقل التبجيل أو التمجيد. و غاب الصوت الوسطي المعتدل الذي يُعطي الرجل حقه حتى لو انتقده و لا يبخس الرجل أشيائه حتى لو ذكر عيوبه، ولا يغض الطرف عن حسناته و إن تكلم عن سيئاته ، و يوازن بين الإيجابيات و السلبيات في إطار من الموضوعية و النظرة الشمولية.

 و استمر الجدل في شأن ياسر عرفات حتى اندلعت الانتفاضة الثانية المعروفة بانتفاضة الأقصى عام 2000. كانت الانتفاضة الثانية إعلاناً بنهاية المشروع السياسي لاتفاقية أوسلو، المشروع السياسي الذي أراد الكيان الصهيوني أن يؤدي في نهاية المطاف إلى تصفية القضية الفلسطينية بتحويل المرحلة الانتقالية للكيان السياسي الفلسطيني الذي أفرزته اتفاقية أوسلو أي الحكم الذاتي إلى مرحلة دائمة مع بعض التسهيلات الإضافية و تغيير الاسم من حكم ذاتي إلى دولة فلسطينية تكون جسراً لدخول الكيان الصهيوني كل العواصم العربية و الانتقال من احتلال الأرض إلى احتلال نفوس العرب و قلوبهم بواسطة ما يُسمى التطبيع الثقافي. غير أن الزعيم الشهيد الراحل كان يريد من اتفاقية أوسلو و الكيان الفلسطيني الذي أُنشئ على أثرها بداية لتحقيق الحُلم الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية على التراب الفلسطيني التي ربما ستكون نواة لتحقيق حلم العودة و تحرير فلسطين في المستقبل.

 و ما أن أدرك زعماء الكيان الصهيوني ذلك وأن ليس بالإمكان تطويع ياسر عرفات ليخدم أهدافهم من وراء اتفاقية أوسلو بتصفية القضية الفلسطينية ، كما أدرك الزعيم الراحل أن الحد الأقصى الذي سيقدمه الكيان الصهيوني للفلسطينيين لن يصل إلى الحد الأدنى الذي يستطيع أي فلسطيني قبوله ، فضّل أن يستشهد على أرض الوطن أو على الأقل يموت صامداً و رافضاً التوقيع على اتفاقية يتم من خلالها ترسيخ دولة الكيان الصهيوني و القضاء على حلمه و حلم الشعب الفلسطيني على ثرى فلسطين مدركاً في نفس الوقت أن الله سيبعث لفلسطين من يحررها و إن طال الزمن ليبقى الزعيم الراحل محتفظاً بصورته المشرقة لدى الجيل الفلسطيني الذي عاصره، و الأجيال القادمة لن تعرفه إلّا عبر كتب التاريخ ، بعد أن ذهب الرجل شهيداً إلى ربه دون أن يحقق حلمه الذي هو حلم الشعب الفلسطيني ، و لكن دون أن يترك فرصة لمبغضيه السابقين إلّا أن يحترموه و يشيدوا بمواقفه البطولية و دوره الوطني، و يكفي أنه دفع حياته ثمناً لقضية وطنه من أجل الحلم الذي لم يتحقق في حياته ، و لكنه وضع لبنة متينة في أساس جدار التحرير و غرس شجرة طيبة في تراب فلسطين ستسمر يوماً ما ثمرة الاستقلال ، ووضع أقدامنا على بداية الطريق نحو جسر العودة.