خبر حتى الأوتار المقطوعة يصدر عنها لحن

الساعة 10:12 ص|23 أكتوبر 2014

عزة سلطان

يُفتح الكادر على طفل يسير بين الأنقاض، تستحيل لقطات الواقع إلى حلم. يمسك دمية، فنرى طفلا يحبو نحوها. إطار التلفزيون وهو كل ما بقي منه بعد قصف مُدمر، سيعرض الإطار لقطات تناسب طفلا يُشاهده. سوف يمسك الطفل بقطعتي خشب من الحُطام، يحولهما لآلة كمان، سيضعهما لنسمع نغمات الكمان، ستصلح حركة الـPan بزاوية 360 درجة،  بدرجة مدهشة، وستكون اللقطة سريعة مع صوت الكمان. سوف يرى المشاهد الكمان على يد وكتف الطفل مستمرا في العزف، قبل أن تعود اللقطة الأولى للطفل حامل الخشب.

المشاهد الدرامية داخل العمل التسجيلي أمر ليس سهل الاستخدام. وقد دأب كثير من المخرجين على استخدامها في الأفلام التاريخية، سدا لفجوة زمنية، قد لا يتوافر لها مادة أرشيفية ملائمة، أو ربما لتخفيف حدة المقابلات والمعلومات، لكننا في فيلم "أوتار مقطوعة" نحن لسنا بصدد فيلم يستخدم المشاهد التمثيلية داخل سياق الفيلم لغرض مما سبق أعلاه، ولكننا أمام فيلم يصنف وفق فئة الديكودراما، حيث السرد متضافر، واللغة السينمائية لا يمكن فيها الفصل بين ما هو تمثيلي وما هو واقعي.

حلم وموسيقى
الفيلم يتناول أحداث الحرب على غزة، والقصف الذي أودى بمئات الأرواح ومئات البنايات. الحديث عن الحرب حديث مؤلم للروح ومنهك للعين التي تحصد صور الدمار والموت المخزن في مشاهد مكثفة سريعة، تعلن عن حياة كانت هنا تم إزهاقها، لكن أحمد خميس حسونة مخرج الفيلم وكاتب السيناريو له، قدم الدمار والحرب عبر أقسى صوره، لقد قدمه بعيون الأطفال، وفي ثيمتين شديدتي الحساسية والطزاجة، هما: الحلم والموسيقى.

تأتي المقابلات التلفزيونية مع أطفال جمعهم تبدل هوية أحلامهم. كان كل منهم يحلم أن يصير عازفا، منهم من كان يرى نفسه عازف ناي، وآخر عازف قانون، وثالث عازف عود.

إذا كانت الموسيقى إحدى ركائز الفيلم التي اعتمدها حسونة، فسيكون منطقيا أن نرى معلم الموسيقى وهو يعزف ومعه مجموعة أطفال يرددون "دو لا سي"، بينما يمتزج مع أصواتهم صوت القصف، حيث أجاد محمد شاهين (مكساج ومونتاج) ضبط درجة الصوت فبدت الأصوات وكأنها سيمفونية.
أبدع حسونة في تصوير المقابلات التلفزيونية، فعلى شاشة سوداء كان الأطفال يظهرون. تتبدل مواضعهم، ولا يظهر كل الوجه، نصف الوجه كان دالا في كثير من الحكي. تتبادل مفردتا الحلم/الكابوس لتصبح عنوان الكلام، كل طفل يحكي عن أحلامه كيف كانت وإلى أي شيء صارت. الحلم بالعزف والموسيقى تبدل إلى كابوس تملؤه أصوات القصف، وصور الدمار.

قراءة نفسية
ينتقل المخرج بين مقابلاته مع الصغار إلى مقابلات مع اختصاصي في علم النفس ليتحدث عن ماهية الحلم، ومحتوى الكابوس. يسعى حسونة لتأطير فكرته، والبحث في عمق النفس. يذهب لما هو أبعد من مخاوف أطفال استيقظوا على دوي هائل، وسقوط بنايات.

للحظات يتحرك حسونة صوب الوجع، فيستضيف عائلتين أُضيرتا في القصف. شاب من الناجين كانت تحت الأنقاض، لكن الله يكتب له عمرا فيخرج حيّا ليحكي بينما يجلس إلى جواره بعض الناجين من عائلته التي أُستشهد منها كثيرون.

تبدأ المقابلة مع أحد الناجين ثم يتسع الكادر ليلتقط أفرادا آخرين. تتحول المقابلة من حديث مباشر للكاميرا إلى فضفضة بين الأهل، تمزج الحميمية بالحزن، والألم.

لا يستطرد حسونة في حديث الوجع الذي منبعه الفقد، ينتقل إلى تنويعة أخرى على الألم، فنجد عبد الرحمن الشوافي، أحد الأطفال الذين أجرى معهم المقابلة، عبد الرحمن وسط الحُطام والأنقاض، يبحث فيها، فيجد قطعة خشب يدق فيها مسامير صانعا آلته، ومرة أخرى يزاوج حسونة بين صوت القصف والصواريخ، ودقات الشوافي وهو يصنع آلته القانون، ويبدأ الطفل في العزف، فتتحول قطعة الخشب إلى آلة عزف، ثم تعود إلى حقيقتها.

تبعات الحرب
الفارق بين الحلم والحقيقة بسيط للغاية، والفارق بين الحلم والكابوس مزعج. الحديث عن مخاوف الأطفال التي باتت تصيبهم من أي صوت، حتى لو كان صوت الرعد كما يحكي أحدهم. هذا الاستطراد والتداخل في أشكال الرعب هو أسوأ تبعات الحرب.

أبطال المشاهد الدرامية في الفيلم نفس الأطفال الذين أُجريت معهم المقابلات، وبضعة أطفال آخرين. هذا التداخل جعل الفيلم أشبه بفيلم روائي، حيث الخيال والصورة المبهرة أدواته الأكثر استخداما. ولبضع لحظات قد يظن المشاهد أنه بصدد فيلم روائي. ذلك التمازج صنع فيلما أكثر عمقا، وأوقع أثرا في نفس المشاهد، حيث حسونة بلقطاته التسجيلية أو التمثيلية يحفر أخاديد الوجع، ينقل حالة الألم التي عاشها ويعيشها أهالي غزة، وقبل أن ينهي فيلمه يلتقط كلمات محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، درسا جديدا عن الأمل وصناعة الحياة يدّرسه أهالي غزة للعالم.

وفي ساحة خضراء يجتمع الأطفال، كل يحمل آلته ليعزفوا لحنهم للأمل وللحياة. وعلى الجانب الآخر حيث بقايا البنايات، سيقف الطفل الذي شاهدناه في أول مشهد. ينظر عبر هيكل شاشة التلفزيون، ليرى الأطفال في ساحتهم الخضراء، هذا هو ما يمكن أن نطلق عليه المشهد الرئيسي. سنرى الأطفال عبر التليفزيون الذي لم يبق منه سوى إطاره الحديدي، وعلى الجانب الآخر يقف الطفل، ثم يقرر العبور إلى الجانب الأخضر والموسيقى. يتحرك صوب الحلم. نرى ساقيه عبر الإطار، قبل أن تتحول بقايا الدمار للحظات أمل. أطفال يعزفون الموسيقى وهم برفقة رفاقهم في ساحة خضراء.