خبر إيبولا السياسي .. علي عقلة عرسان

الساعة 07:29 م|21 أكتوبر 2014

فيروس ايبولا استنفر العالم وهز مناطق منه هزاً عنيفاً، وبادرت دول ومنظمات دولية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة وصارمة لحماية مواطنيها منه، وقامت دول أخرى بتقديم المساعدة العلمية والفنية والمالية لمحاصرة الفيروس والقضاء عليه ولمعالجة المرضى، بعد أن قضى عدد منهم قبل التمكن من معالجتهم أو اكتشاف المرض لديهم.. وتعمل دول متقدمة علمياً وقادرة تقنياً ومالياً على إيجاد علاج شافٍ يوثق بقدرته على وضع حد لمخاطر هذا المرض الذي يحمل اسم نهر ايبولا في السودان حيث اكتشفت هناك أول حالة تاريخياً على ضفافه عام ١٩٧٦ وتعافى السودان منه.. وهذه الهبَّة الدولية ظاهرة إنسانية إيجابية في مجال التعاون المحلي والإقليمي والدولي تستحق التقدير، لأنها تعبر عن حس جماعي بالمسؤلية المشتركة عن مواجهة أخطار تهدد حياة البشر، وتنتشر فيروساتها وجراثيمها من مكان إلى مكان بصورة قد يصعب التحكم بها.. ومن عجب أن هذه المسؤلية الإنسانية - الدولية، و " العالمية" على نحو ما حيث تشارك المجتمعات والهيئات والمؤسسات الدول والمسؤلين العمل لمواجهة الخطر المحدق والقضاء عليه.. من عجب أنها لا تتجلى في مجالات حيوية أخرى لا تقل الخطورة فيها عن خطورة فيروسات الأمراض الفتاكة سريعة الانتشار.. وأبرز هذه الفيروسات وأطولها عمراً على الإطلاق، وأكثرها ضحايا وزلزلة لحياة البشر هو فيروس ايبولا السياسي، ذلك الذي تتعهده مناطق ودول ومؤسسات بالحماية والتقوية والرعاية، وهو يتوطَّن بصورة مزمنة في أماكن وبلدان عدة من أبرزها الولايات المتحدة الأميركية وفلسطين المحتلة ودول أوربا الاستعمارية وفي دول ومواقع تدور في ذلك الفلك أو تتفاعل معه سلباً وإيجاباً وفق قانون التبعية وينتج عن ذلك بحكم معادلة الفعل ورد الفعل توطن جديد ومتجدد لإيبولا السياسي في أماكن أخرى من العالم..

وهناك من ينشر هذا الفيروس أكثر من سواه ويتعهده بالرعاية والحماية، ويكافح كل يكافحه أو يتصدى له. وهو فيروس ينتشر ويتلون ويتشكل بصور وألوان وأشكال يصعب حصرها كما يستعصي تثبيت توصيف شامل له، فأحيانا يكمن في الأفكار وينتشر عبرها، وأحياناً عبر النظريات والمعتقدات الشمولية، وأخرى من خلال المناهج البراغماتية والمصالح والنزوات والأمراض الشخصية والطموحات وجنون العظَمة والهلوسات التي تعشش في عقول ساسة وأصحاب نظريات وأيديولوجيات يستشعرون القوة فيغزون بها وبأمراضهم العالم، بعنصرية وعنجهية وغطرسة تستخدم كل أشكال الظلم والقهر والاستفزاز إلى جانب القوة والفتك بالسلاح، فتبعث فيما تبعث التعصب والتطرف رداً على التعصب والتطرف.. وفي الأحوال والتشكلات والتجليات جميعاً التي لهذا الفيروس المزمن، نجد أنه يكون قاتلاً بوحشية، ومدمراً للحياة ومقوماتها، وللقيم الإنسانية والأخلاقية وللعلاقات البشرية، بالإرهاب والرعب، وتكون مكامنه وحواضنه ومواطن تكاثره هي الأنفس المِراض التي تهييئ مناخاً وغذاء يزيدان التكاثر والنمو، حيث يتجدد الفيروس فيها وينبعث منها بين حين وآخر جباراً عتياً، ويبقى في ظلمة كهوفها لا يضعُف هناك ولا يفنى.

وينتشر إيبولا السياسي ويفتك بموجات قوة ووحشية منذ زمن بعيد في فلسطين المحتلة، وهو منذ عقد من الزمن يفتك فتكاً ذريعاً بالعراق وأهله، ومن قبله كان وما زال يفتك بأفغانستان، وهو اليوم يفتك بسورية منذ ثلاث سنوات ونصف وقد أتى على الكثير من الأرواح والعمران ومقومات العيش فيها، ويتابع انتشاره.. وبدلاً من أن يستنفر العالم ويتعاون لوضع حد لفتكه وانتشاره بالتصدي له في مصادره وحواضنه وأماكن انتشاره، نجد أن دولاً قوية ومتقدمة ومتحضرة تتعاون وتتحالف لتزيده شراسة وانتشاراً وقوة فتك وتدمير، ولتطيل عمره وتحميه وتنميه.. بينما تعجز عن التعاون الناجح القادر على الحد من انتشار هذا الفيروس ووضع نهاية لفتكه بالشعوب والبلدان؟! وكأنما توطن فيروس "إيبولا السياسي" يقتضي وجود بيئة " نظيفة ظاهرياً" مغايرة/مناقضة كلياً في شروطها ومواصفاتها وظواهرها للبيئة الطبيعية الملائمة لتوطن فيروس "إيبولا الطبيعي" وانتشاره؟! وهذا الأمر يجعلنا بمواجهة تساؤل غريب: هل أمراض الحضارة أكثر استعصاء على المعالجة من أمراض التخلف، أم أن أمراض الأنفس والأرواح تلك التي تتوطن في " متحضرين وحضارات"، وتنتج عن".. تربية وأفكار وثقافات وآيدلوجيات وعلوم وتقنيات.. إلخ" هي مما يتوطن وينمو في بيئات لا علاقة لها بالنظافة والحضارة والتقدم؟! وينبت تحت خوافي هذا التساؤل وقوادمه سؤال غريب عجيب أيضاً، مفاده:  هل أمراض الحضارة أكثر خطورة على الإنسان والحياة والعلاقات من أمراض التخلف والبيئة الطبيعية الملوثة، أم أن الحضارة والتقدم يلوثان الروح والنفس والعقل من البيئة الطبيعية؟! إن هذا من العجب، ولكن العجب يتبدد ولو نسبياً عندما يصل الإنسان السوي بالمعرفة وعن طريق الوعي والعقل والشك المنطقي.. وعندما يسأل ويتقصى ويحاول أن يخرج من عتمة الجهل والغطرسة والتعالي إلى فضاء التواضع بالعلم والاستنارة بالاستشارة والتأمل والمقارنة والمقاربة العلمية للأشياء والقضايا والمستعصيات من الأمور.. فيكون مثله في وضعه المعرفي - العقلي ذاك مثل من هو في خضم الضباب الكثيف حين تشرق عليه الشمس، حيث يأخذ الضباب بالتبدد ويأخذ النور بالانتشار، ويبدأ القلب مسيرة الرؤية.. أما الأمر فيما يتصل بالسياسي المتغطرس الذي لا يتسع العالم الأوسع لطمعه وطموحه وسطوته فيكون مثَله مثل من يوغل في العتمة فيدخل من ظلم إلى ظلمة، ومن نفق ضيق إلى كهف رطب يضيق ويفضى إلى مَجْهَل.. فهو لا يتبين أنه يسير في الجهل إلى المجهول، ولا يقدِّر أنه قد تكمن في زاوية من زوايا طريقه هاوية تأخذه إلى حيث آلقت رحلها أم قشعم، فيصير هو ومن يتبعه ممن يقودهم وراءه وهم أنه السلطة الدائمة والبقاء الأبيد والخلود الذي ما بعده خلود.. يصيرون في أعماق الهاوية.؟!

المشكلة في " ايبولا السياسي" أنه كلما انتشر أكثر توهم القائمون عليه وبعض المصابين بدائه أنه الأبقى والمنقذ والقدر المقدور، فيفتك بالاستسلام لأمره.. وأنه من يرون أنهم " أطباءه" لا يُعالَجونه بالحكمة والمسؤلية عن حياة بشرية وعن سياسة محلية وإقليمية ودولية عادلة يقيمها ويحيي بها العقل والعدل، وتقتلها وتقتل بها العنجهية والتوهم بأن الناس أقنانٌ مملوكون وليسوا بشراً أحراراً ذوي استحقاقات وحيوات وحقوق، وأن معظم المصابين بذاك الفيروس أو كلهم يتوهمون أنهم الدواء وليس الداء.. وهكذا يغرق العالم في أخطر وباء كلما قاربته بالعلاج الناجع نفر منك وارتد عليك، لأنه يراك الداء الذي يقاوم الدواء ويستعصي على الشفاء وينتشر منه وبسببه الوباء.

إن علاج ايبولا السياسي هو بالدرجة الأولى: فكري - ثقافي - روحي - معرفي - أخلاقي - قانوني - اجتماعي- تربوي.. إلخ، سواء أكان وباء حكَّام وأحكام أم وباء متمردين ومتطرفين ومتعصبين وثائرين على الأحكام والحكَّام.. ولما كان في العلاج المشار إليه ذاته ما يمكن أن يكون الدواء ونقيضه، أي ما يغذي الفيروس الوبائي، أي فيروس ايبولا السياسي، أو يضعفه ويحد من فعاليته أو يجمدها.. فإنه من الضرورة بمكان أن يتم الاتفاق على الحد الأدنى "الإنساني - الأخلاقي البناء" من المعطيات التي في تلك الوصفات لتكون بمثابة مسطرة عالمية حاكمة ومعايير متفق عليها ومرجعيات بحكم الثوابت يُحتَكَم إليها ويعمَل بها، لكي ننطلق منها وبها ونبني جميعاً عليها ونعالج بها.. وهذا من الأمور الصعبة ولكنه ليس من المستحيلات على الإطلاق. وفي عالمنا من المجامع الروحية العليا والمرجعيات والمنظمات والمؤسسات والقوانين والاتفاقيات ما يشتمل على أشياء كثيرة من ذلك، وهي مفيدة وقابلة للتعديل والبناء عليها والإضافة إليها، وقادرة فيما إذا تم احترامها والعمل بها من دون فذلكات واجتهادات ترمي إلى الالتفاف عليها.. قادرة على فعل شيء إيجابي ومؤثر في هذا المجال.. وهناك مناهج نظرية يمكن أن تُستحلب بوعي ومنطق وحكمة واعتدال ليخرج منها شيء إنساني - عالمي مفيد.. لكن العيب والخطر يكمنان في العقول والأنفس والسياسات المريضة والعنصرية وتلك المصابة بتورم الذات، والمحكومة برؤي القوة وقواعد العنف والإرهاب وصولاً إلى فرض الذات وتحقيق المصالح وتلبية الرّغبات.. سواء أكان ذلك بالجملة " تحالفات وتكتلات، أم بالمفرق دول ودويلات ومقاومات ومسلحين وتنظيمات وعصابات متطرفين وإرهابيين.. إلخ، وفي ذلك نشر للوباء " العنف والإرهاب والتطرف ومنطق القوة والاجتثاث والاخضاع والثورة والانقلاب والعصيان.. إلى آخر السلسلسلة المعروفة والمتداولة سياسياً".

وفي مقاربة لمثل واقعي مما يشغل عالمنا اليوم، وهو مما سبق وأشرنا إلى بعض مواقعه ووقائعه ومواقفه وأطرافه وساحات اشتعاله.. نتساءل عن المعالجات غير القاتلة أو غير الدامية، التي قدمتها منظمات دولية وإقليمية وتكتلات دول وتحالفات دولية أو شبه دولية - بمعنى الخروج على القانون الدولي والقرارات الدولية ولي عنق المفاهيم والقرارات والمصطلحات واستغلالها لمصالح - إلى جانب القوة بأشكالها " طائرات قاذفة ومقاتلة وصواريخ ودبابات وأسلحة وذخائر وتدريب وتمويل للقتالي والقتال.. إلخ، مما أشار إليه مجلس الأمن الدولي عندما اتخذ القرار ٢١٧٣  ضد الإرهاب داعش والنصرة وما أشار إليه الرئيس أوباما أيضاً من أن الحرب على الإرهاب حرب فكرية ثقافية أيضاً؟! إننا رأينا القصف الذي يرد عليه بعنف مسلح ولم نر الجانب الأساس بتقديري المتمثل في جبهة الثقافة والفكر و.. و.. إلا إذا اعتبر ما يزوبعه الإعلام هو القتال على الجبهة الثقافية ضد الآخر المصنف إرهابياً، وهذا غير صحيح فالإعلام جبهة ملحقة بالجبهة السياسية العسكرية في الحالات التي نتابعها..  والآخر الذي تقاتله يصنفك تصنيفاً يدخل في فصيلة من فصائل التصنيف العدواني - الإرهابي، وإعلامه ملحق بسلاحه؟! إن الذي تقاتله وجهاً لوجه بالسلاح في ساحة معركة دامية تقول إنها ذات شقين عسكري وثقافي، عليك أن تواجهه وجهاً لوجه في الساحة الأخرى الثقافية.. وإلا فإنك تأخذ بمنطق القوة والمحو والاجتثاث من جانب واحد وتنعي على الآخر أن يقاومك أو أن يدافع عن نفسه وفق ما يرى.. وهذه المواجهة لا تنهي مشكلة بصورة جذرية لأنها تقضي على الأشخاص ولا تقضي على الأفكار، إضافة إلى أنها مواجهة لا تشكل توازناً في المعادلة العلاجية لمرض أو لفيروس خطر سريع الانتشار يُعالَج بالأفكار أيضاً وأصلاً.. فمن خرج على أمرك ورفض إرادتك ولجأ إلى السلاح كان له قبل ذلك من المطالب والرؤى والآراء ما لم يؤخذ به وما لم يتم إقناعه بغيره بالحجة والمنطق فلجأ إلى القوة، وهو في لجوئه إليها قد يكون على خطأ وسيكلف الناس الكثير، ولكنه يضع حياته في الميزان، وهذا ليس شيئاً بلا قيمة وبلا معنى وخروجه حتى لو كان فيه الجنون فإن المجنون يعالج ولا يَقتُل ويُقتَل فقط لأن الأمر يتصل بآخرين يطالهم جنون المجانين.. ومن ثمة فإن من المفيد أن تُفتح جبهة العقل إلى جانب جبهة الدم، ولا بد من الانتصار في ساحة العقل والعدل أيضاً للقضاء نهاذياً على فيروس يكمن في الأنفس ويشبّ ناراً حارقة من آن إلى آخر.. وبافتراض أنه الداء أو الوباء المطلق وأنك العلاج والبرء والنقاء المطلقين فإن الحكمة والعدل يقتضان العلاج قبل النار، والعرب تقول آخر الطب الكي بالنار.. والمعادلة في أساسها ليست كذلك بمعنى أنه لا يوجد طرف على حق مطلق وآخر على خطأ مطلقن فهذا الحكم يسري على الأسلوب والمنهج وليس على المشكلة بالضرورة.. وهناك وقائع كثيرة في تاريخ ايبولا السياسي تشير إلى وجود الفيروس لدى الأطراف المتدامية، ففيروس ايبولا السياسي موجود في ساحة القتال الدامية لدى طرفي المواجهة في أية حرب، لكن بدرجات متفاوتة التأثير والخطورة.. ويبقى الأبرياء ضحيا يدفعون الثمن الباهظ.

إن علاج فيروس ايبولا السياسي مهم بدرجة ايبولا الآخر، إن لم يكن أكثر أهمية.. ولكن.. من بيده السيف يقطع الرقاب.

دمشق - الثلاثاء، ٢١ تشرين الأول، ٢٠١٤

 

علي عقلة عرسان