تحليل علبة البودنغ تهدد مشروع هرتزل

الساعة 08:02 ص|16 أكتوبر 2014

أطلس للدراسات

علبة البودنغ المعروفة في إسرائيل بالميلكي أو شوكو الشوكولا والقشطة، المحببة للأطفال مثلت الأسبوع المنصرم عنواناً وتحدياً لأهم ركائز المشروع الصهيوني في تهجير اليهود الى فلسطين، وسلطت الضوء على مستوى التآكل في القيم والمحرمات الصهيونية، وذلك عبر ما عرف بـ "احتجاج ميلكي" أو "احتجاج برلين" الذي انتشر بشكل واسع في وسائل الاعلام الاسرائيلية المختلفة، والذي وجه دعوة مباشرة للإسرائيليين للهجرة الى برلين بسبب غلاء المعيشة في إسرائيل ودوافع أخرى.

"مجموعة برلين" وهي مجموعة من المهاجرين الاسرائيليين الى برلين، اتخذت من مقارنة ثمن البودنغ في تل أبيب مع ثمنه المنخفض في برلين عنواناً للاحتجاج على غلاء الأسعار في إسرائيل، وعلى الفساد والاحباط من التغيير وغياب دولة الرفاه، ودعتهم للهجرة من إسرائيل الى برلين والى عواصم أوروبية أخرى ستوفر لهم حياة كريمة.

وقد وجدت هذه الدعوة للهجرة من إسرائيل على خلفية البحث عن وسائل وسبل الحياة الكريمة صدىً واسعاً عبر عنه التسعة آلاف إسرائيلي، الذين تقول مجموعة احتجاج برلين انهم سجلوا أسماءهم في قوائم طلب المساعدة في تأمين هجرتهم، وعبر التفاعل الاجتماعي الكبير والاعلامي عل كل مستوياته مع حملة ميلكي، أيضاً عبر رد الفعل الرسمي وشبه الرسمي المستنكر والرافض والمندد بفكرة ان يكون الرابط بين اليهود ودولتهم هو سعر الميلكي.

المزاج العام الاسرائيلي الايجابي تجاه المهاجرين للخارج وتجاه فكرة الهجرة من إسرائيل، والميل الكبير للتفكير بذلك عكسه مؤخراً استطلاع للقناه العاشرة فحص توجهات الإسرائيليين للهجرة، وقد كانت النتيجة تفوق كل تصور أو اعتقاد سابق؛ حيث أجاب نصف مليون إسرائيلي انهم سيهاجرون بسبب غلاء المعيشة، وان 50% من الاسرائيليين فحصوا إمكانية الهجرة، وان جيل الذين ينوون الهجرة يتراوح بين 25-44 عاماً.

ويقول محامون مختصون في استخراج جوازات سفر أجنبية ان طلب الاسرائيليين للحصول على جواز سفر غربي تضاعف هذا العام، وهو في ازدياد مستمر.

ما يسمى في اسرائيل بالهجرة المعاكسة، وبالعبرية "يورايد" أي نزل أو هبط عكس الهجرة القادمة "علياه" أي الصعود، أثارت العام الماضي انتباه مؤتمر هرتسيليا للسياسة والأمن، حيث أجرى استطلاعاً لتوجهات الاسرائيليين تجاه الهجرة، فوجد ان نسبة 22% منهم لديه ميل لمغادرة اسرائيل بفعل غلاء المعيشة وغياب العدالة الاجتماعية، ووجد أيضاً ان النسبة الأكبر من المهاجرين للخارج هم من أصحاب العقول أو ممن حصلوا على الدرجة العلمية الثالثة، وان 30% من أصحاب الدرجات العلمية العليا يعملون في الجامعات الإسرائيلية، كما كشف عن أن 24% من أصحاب الثقافة الجامعية يفكرون بالهجرة، وعن أن واحداً من بين أربعة أغنياء يفكرون بذلك أيضاً، وأن العلمانيين يميلون أكثر من المتدينين للهجرة.

من جهته يرى وزير العلوم الإسرائيلي يعقوب بيري أن إسرائيل لا تبذل "جهداً كافياً" بهذا المضمار، منبهاً إلى أن استمرار هذه الحالة يعني تفاقم هجرة العقول وتدهور البحث العلمي الحيوي لاقتصادها ومستقبلها.

ويكشف بيري في حديث للقناة الإسرائيلية العاشرة أن الكثير من حملة الدكتوراه يستكملون دراستهم خارج البلاد لكنهم لا يجدون فيها عملاً يلائمهم، ويحذر بيري من اتساع ظاهرة هروب العقول، ويدعو الحكومة لدعم المرافق البحثية داخل الجامعات الإسرائيلية الست بهدف استيعاب الباحثين المتميزين ومنع هجرتهم.

الهجرة اليهودية المعاكسة من إسرائيل الى أوروبا واستراليا وكندا وأمريكا ودول أخرى ليست أمراً جديداً، لكنها في السنوات الأخيرة باتت أمراً ملحوظاً وملفتاً للاهتمام بشكل واضح، لأسباب تتعلق بنوعية المهاجرين وأعدادهم ودوافعهم للهجرة، والأهم التغير على نظرة المجتمع الصهيوني تجاه فكرة الهجرة للخارج، ما يعكس مستوى تآكل القيم الصهيونية.

 

تآكل القيم الصهيونية

بنت الحركة الصهيونية مشروعها الاستيطاني في فلسطين على مشاعر وممارسات اللاسامية في أوروبا تجاه اليهود في أربعينات القرن الماضي من جهة، وعلى قيم وأساطير ورموز ابتدعتها للربط بين اليهودي وبين فلسطين لخلق قيم الولاء والانتماء والتضحية من جهة ثانية، وكي وعي اليهود انه ليس بإمكانهم العيش كيهود خارج فلسطين، وعليه فقد كان ينظر لكل من يهاجر للعيش خارج إسرائيل بأنهم طفيليون وخون يزدريهم وينبذهم المجتمع وتنكل بهم المؤسسة الرسمية.

اسرائيل اليوم هي ليست ما كانت عليه في السابق؛ حيث ينتشر الفساد ويسود الاحباط بالتغيير وتتعاظم التهديدات الأمنية المحدقة بها، وباتت بأجيالها الجديدة وبمليوني المهاجرين إليها في العقدين الأخيرين بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي، أقل ارتباطاً بالقيم الصهيونية، وأكثر بحثاً لسبل الحياة الطبيعية، حياة الرفاه، وذلك في ظل عدة عوامل جوهرية تشكلت في العقود الماضية وتتفاعل إيجاباً، مؤثرة في بعضها البعض، مما جعلها تشكل تحدياً للمشروع الصهيوني، ومن بين هذه العوامل:

- تحول أوروبا والدول الغربية الأخرى الى عنصر جذب للإسرائيليين من حيث توفير سبل المعيشة الأفضل والمكان الأكثر أمنا والمستقبل الآمن.

- غلاء المعيشة في إسرائيل، وغياب دولة الرفاه، والاحباط من التغيير عقب فشل احتجاجات صيف 2011، وتعاظم التحديات الأمنية في ظل التشاؤم تجاه فرص التسوية، والخنق السياسي والاجتماعي بالنسبة لأصحاب الميول اليسارية.

- التداعيات الأمنية للحرب العدوانية الأخيرة على القطاع، وما ترتب عليها من فقدان الشعور بالأمن، وازدياد القلق حيال المستقبل في ظل بركان شرق أوسطي ينفجر عنفاً.

- تعاظم الجريمة والفساد، وتحلل القيم الصهيونية، ونشوء ثقافة اسرائيلية تعظم المنافع الشخصية تكبر فيها الأنا، وتنظر الى اسرائيل كمجرد مكان آخر للعيش، وليس كما لو كانت الملجأ والموطن، في ظل عولمة الاقتصاد والمواطنة والأوطان والثقافات.

كل ذلك شكل بيئة اجتماعية اسرائيلية جديدة تنظر للهجرة الى الخارج بشكل مختلف عن السابق؛ بيئة اجتماعية تشكل تحدياً للمشروع الصهيوني الذي طالما عمل على تعزيز وغرس مفهوم ان اسرائيل هي الموطن الوحيد لليهود الذي بإمكانهم فيه فقط ان يكونوا يهوداً ويعيشوا برفاهية وأمن.

 

الدور المزدوج لبرلين

إن ما يثير غضب الرسميين الاسرائيليين من احتجاج برلين هو أن دعوة الاحتجاج تأتي من برلين، وأن تتحول برلين بالذات الى قبلة هجرة الإسرائيليين، لأن برلين تحديداً استخدمتها الصهيونية كأحد النماذج القوية على الخطر الذي يحدق باليهود خارج إسرائيل، فعندما تتحول برلين من نموذج لقهر اليهود "سنوات الأربعين" وقتلهم الى نموذج للاندماج والحياة الكريمة؛ فإن أحد أهم ركائز المشروع الصهيوني تنهار.

يذكر أن احصائيات رسمية إسرائيلية تفيد ان قرابة 40 ألف اسرائيلي يعيشون الآن في ألمانيا، لكن ما يقلق الحكومة الإسرائيلية ليس الأربعون ألفاً، بل فكرة ان تستباح المحرمات الصهيونية ويتحول النقاش حول الهجرة الى ظاهرة علنية غير منبوذة، ويتحول الارتباط بإسرائيل مقروناً بما تقدمه الدولة من خدمات ومستوى معيشة في ظل ما يعرف بنضوب خزان الهجرة وتفاقم ما يطلق علية صهيونياً "القنبلة الديمغرافية".

علبة البودنغ، وما تمثله رفاهياً واجتماعياً، تشكل اليوم تحدياً وتهديداً لمشروع ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، وهي تكشف بشكل غير مباشر عمق أزمة المشروع الصهيوني، هرتزل الذي يوصف بالعبقري، والذي كتب كتاب دولة اليهود، وتوقع قيامها بعد خمسين عاماً من المؤتمر التأسيسي الأول للحركة الصهيونية، وقد تحقق توقعه وكأنه نبوءة، لكنه فشل في كل ما عدا ذلك، وهو الذي ربط قيامها بارتباطها العضوي بالاستعمار وبالثقافة الغربية، فشل عندما توقع استمرار عنصر الطرد واستمرار مشاعر اللاسامية ضد اليهود، وفشل عندما توقع أن تكون ملاذاً آمناً لليهود وانها ستوفر لهم رفاهية العيش والازدهار والرخاء.

قيام إسرائيل وبقائها مرتبط بالقوة وبدعم القوى الامبريالية، وفي ظل سيطرة الأطماع الصهيونية وغياب السلام، فإن إسرائيل لا يمكن بأي حال ان تتحول الى دولة رفاه في ظل انها مضطرة لأن تنفق على أمنها أكثر من 17% من إجمالي موازنتها السنوية، حيث بلغت موازنتها الأخيرة 328 مليار شيكل، وبلغت موازنة الأمن سبعة وخمسون مليار شيكل.

علبة البودنغ ليست الأزمة، بل عرض من أعراضها، وأعراض أزمة المشروع الصهيوني باتت كبيرة وكثيرة وتزداد سنوياً، وهي أزمة طبيعية وغير مفتعلة وغير طارئة، وهي وليدة الظروف غير الطبيعية لقيامها الذي ارتبط بالقتل والتهجير والقوة والتنكر لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني.