خبر تساؤلات فلسطينية لما بعد حرب غزة.. ماجد كيالي

الساعة 07:39 م|02 سبتمبر 2014

توقّفت حرب الـ 51 يوماً على غزة من دون أن يتمكّن أي من طرفيها من حسم النتيجة لمصلحته، لا بالوسائل العسكرية، ولا بواسطة المفاوضات، إذ لم تستطع إسرائيل تحقيق هدفها بنزع سلاح المقاومة، ولا هذه استطاعت أن تفرض على اسرائيل مطالبها برفع الحصار وبناء ميناء، فما تحقق هو فقط عودة الطرفين إلى مربع ما قبل الحرب (7/7)، مع «وعد» (مشروط) بالتجاوب مع بعض مطالب الفلسطينيين.

ويمكن إحالة هذا التوافق غير الواضح، وغير المضمون، وربما غير المستقر، إلى سببين أساسيين، أولهما، تعب الطرفين المعنيين، فالمقاومة باتت تشعر بثقل الضربات التدميرية الإسرائيلية، وبدورها فإن إسرائيل باتت تشعر بأنها تورطت في حرب طويلة ومكلفة، لم يعتد عليها لا جيشها ولا مجتمعها. وثانيهما، أن الطرفين تصرفا وفق قناعة مفادها بأن رسالته وصلت إلى الآخر، وأنه أثبت نفسه، ما يفرض وقف الحرب.

معلوم أن هذا حصل بعد تكبيد إسرائيل الفلسطينيين خسائر بشرية ومادية فادحة، في مقابل أن الفلسطينيين استطاعوا، هذه المرّة، نقل معركتهم إلى داخل إسرائيل، وإثارة الشكوك حول قدرات جيشها، بمعزل عن سلاحي الطيران والصواريخ، وتعريف الإسرائيليين بحدود قوة دولتهم، وكشفها امام العالم كدولة متجبرة وكمجرمة حرب. أيضاً، بيّنت وقائع الحرب أن إسرائيل ليست ملاذاً آمناً ليهود العالم، وأنها باتت، بسبب طبيعتها كدولة استعمارية وعنصرية وعدوانية، المكان الاخطر الذي يتهدّد حياتهم، وأنها لم تعد الدولة التي تحظى بعطف العالم الغربي بدليل مئات التظاهرات المتعاطفة مع الفلسطينيين في مدن أوروبا وأميركا اللاتينية وكندا والولايات المتحدة.

طبعاً يمكن قول أشياء كثيرة عن إسرائيل، كدولة استعمارية وعنصرية، عن عدوانتيها ووحشيتها، لكن ما يعنينا هنا هو موقف الفلسطينيين، وكيفية إدارتهم صراعهم مع إسرائيل في هذه المحطة من صراعهم الطويل والمضني معها.

في هذا المجال، مثلاً، يحتسب لمصلحة المقاومة، ولحركة «حماس» تحديداً، تبنيها خطاباً اعلامياً اتسم بالاعتدال، ومخاطبة الإسرائيليين، في تمييزه، مثلاً، بين اليهود والدولة الإسرائيلية، كما بين المستوطنين في الضفة والإسرائيليين في مناطق 1948، بتأكيده عدم استهداف المدنيين، وإدراكه أهمية التفوّق الأخلاقي على إسرائيل، وهي مسائل اكدها خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لـ «حماس» ومحمد الضيف قائد «كتائب القسام» على سبيل المثال. أما على الصعيد العسكري فيحتسب لمصلحتها تأهيل المقاتلين، واستبسال المقاومين في صد الهجمات البرية، وقيامهم بهجمات معاكسة على بعض المواقع الإسرائيلية، ما اربك حسابات الجيش الإسرائيلي وكبد قوات النخبة فيه خسائر فادحة.

بيد أن كل ذلك لا يصرف الانتباه عن جوانب اخرى بدت فيها المقاومة غير موفّقة، وغير دقيقة في مواقفها، سيما في مبالغتها، فوق اللازم، بالحديث عن امتلاكها سلاحي طيران وصواريخ، وتوصّلها الى حالة «توازن الرعب» مع إسرائيل، او خلقها نوعاً من التعادل معها، وتكمن الخطورة هنا في التصرّف على اساس ذلك. إذ مازال ثمة بون شاسع في موازين القوى، كماً ونوعاً، بين «حماس» وبين اسرائيل، التي تفوق قوتها الجيوش المحيطة بها، وتمتلك احتياطي قوة تدميرية هائلة، ناهيك عن تمتّعها بميزتين: حماية الدول الكبرى لا سيما الولايات المتحدة، لها، وحيازتها السلاح النووي.

هكذا، فإذا كان من المفهوم أن اسرائيل دولة استعمارية وعنصرية ومصطنعة ولا شرعية ومحكومة بانسداد افقها التاريخي، وتعاني من ازمات جوهرية وتأسيسية، بيد ان ذلك لا ينبغي ان يصرف الانتباه عن حقيقة مفادها بأن اسرائيل بطريقة ادارتها، ونظامها الديموقراطي (بالنسبة الى مواطنيها اليهود)، استطاعت دوماً تجاوز ازماتها، محافظة على استقرارها وتطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بحيث باتت تبدو اكثر دولة مستقرة في هذه المنطقة، بخاصة على ضوء كل هذه الخراب، أو التمزق، المجتمعي والدولتي في المشرق العربي. والواقع فنحن إزاء دولة بات يبلغ ناتجها السنوي حوالى 300 بليون دولار، ومعدل دخل الفرد فيها 36 ألف دولار في السنة، وموازنة حكومتها 105 بلايين من الدولارات، ويبلغ تعداد جيشها 172 الف جندي، في حين يبلغ عدد جنودها الاحتياط حوالى 400 الف، مع موازنة عسكرية تقدر بحوالى 17 بليون دولار، وهي رابع او خامس دولة مصدرة للسلاح (7 بلايين دولار سنوياً).

المشكلة هنا أن القول بكسر إسرائيل وجيشها يتناقض مع النتائج المتحقّقة عسكرياً وفي المفاوضات، بل إنه يثير التساؤل عن سبب وقف المقاومة، وعن الذهاب الى المفاوضات، وفوقها التراجع عن المطالب المعلنة، والقبول بتفاهمات غير مضمونة. والقصد أن المقاومة مع تضحياتها واستبسالها وصمودها سجلت نقاطاً على إسرائيل، أكثر من أي حرب سابقة، ولذلك فهي ما كانت بحاجة إلى هكذا مبالغات، ولا كانت بحاجة الى تحميلها او تحميل غزة ما لا تحتملان. والمعنى ان هذه حرب كانت شنّتها إسرائيل، أصلاً، وهي تحسب بمعايير الربح والخسارة، كجزء من صراع طويل الأمد، لذا ثمة تسرع ومبالغة وتبسيط في توصيف الحال بمعايير النصر أو الهزيمة بالمعنى التاريخي، ثم ان هكذا خطابات قد تكون لها وظيفة معنوية، لكنها لا تفيد برؤية الواقع ولا برؤية الصراع مع إسرائيل، إن في معطياته الدولية والإقليمية، أو في سياق التطورات الحاصلة.

ثمة جانب آخر لم توفق فيه المقاومة، وهو يتمثل برفعها سقف التوقّعات، من الحرب ومن المفاوضة، إذ تم تصوير الأمر كأننا إزاء مقاومة مستمرة، وازاء عملية تحرير، أو ازاء هزيمة اسرائيلية تمكننا من فرض ما نريده وضمن ذلك بناء ميناء ومطار، في حين أن الحديث يدور عن اتفاق على معادلة «هدوء مقابل هدوء»، أي وقف المقاومة، مقابل رفع الحصار عن غزة والسماح بتحويل الأموال وإدخال مواد البناء. الأسوأ أنه في الحالين، أي الحرب والمفاوضة، غاب عن الإدراك أن الأمور تسير باتجاه العودة إلى مرحلة ما قبل الحرب، وحتى إلى ما قبل الانتفاضة الثانية (2000 - 2004)، بعد ثمانية آلاف شهيد (ضمنهم أربعة آلاف في الانتفاضة الثانية) وأضعافهم من الجرحى ودمار عشرات الوف المنازل والورش والمنشآت الخاصة والعامة الأخرى، ما يعني ان الكفاح المسلح الفلسطيني لا يشتغل على نحو صحيح، وأن الوضع في المفاوضات ليس احسن حالاً، لا سيما انه يتعذر على الفلسطينيين ان يحصلوا فيها ما عجزوا عن تحقيقه في الحرب.

على ذلك، وبعد توقّف هذه الحرب، فإن الفلسطينيين ما زالوا يقفون في مواجهة أخطار واستحقاقات وتحديات أساسية، تتطلب منهم التوجه، أولاً، نحو ايجاد توافقات على استراتيجية سياسية تحدد خياراتهم الوطنية، وما يريدونه في هذه المرحلة، بناء على امكاناتهم، ومعطيات الوضعين الدولي والعربي، سواء كان تحرير فلسطين، أو دولة واحدة ديموقراطية علمانية، أو دولة في الضفة والقطاع، أو البقاء في الوضع الراهن. ثانياً، تبعاً للهدف المنشود والمتفق عليه، ينبغي التوافق على أشكال النضال المناسبة والممكنة، أو الاستراتيجية الكفاحية، التي تخدم تحقيق الهدف المتفق عليه، سواء كانت مفاوضة او انتفاضة او مقاومة شعبية او مقاومة مسلحة، مقاومة بالصورايخ أو بغيرها. ثالثاً، التوافق على كيانية سياسية للفلسطينيين، تعبر عن اجماعاتهم، وتعزز وحدتهم، وتستثمر طاقاتهم، ولا شك في ان منظمة التحرير هي الأنسب لذلك، شرط إعادة بنائها على قواعد مؤسسية وديموقراطية وتمثيلية ونضالية، بعيداً من المحاصصة الفصائلية، وشرط انهاء التماهي بينها وبين السلطة، والفصل بين رئاسة المنظمة ورئاسة السلطة، إذ إن عدم التمييز بين هذين الكيانين اضر بهما، وأدى إلى تهميش المنظمة. رابعاً، من المهم تحديد مكانة غزة في العملية الوطنية، فهل هي قاعدة عسكرية للمقاومة؟ أو هل هي تتحمل مسؤولية تحرير فلسطين، او تحرير الضفة؟ أم يمكن ان تكون بمثابة منطقة محررة يتركز العمل فيها على بناء المجتمع الفلسطيني، وتحويلها إلى ذخر للفلسطينيين في كل اماكن تواجدهم، ينمون فيها امكاناتهم، ويبنون فيها مؤسساتهم التعليمية والصحية والثقافية والاقتصادية والعلمية، وهذا امر ينبغي حسمه، في سياق الحديث عن الإعمار. خامساً، اذا بقيت الحال على ما هي عليه، فهل ستبقى «حماس» بمثابة سلطة احادية في غزة، ام ستشرك معها شركاءها في المقاومة على الأقل؟ وهل ستعيد النظر بطريقة حكمها أم ستواصل فرض مفاهيمها، ومن ضمن ذلك تدخلها في نمط عيش الغزيين، وتقييد حرياتهم الفردية، مع أنهم بصمودهم وتضحياتهم يستحقون الأفضل؟

قصارى القول لا يمكن للفلسطينيين تعزيز وضعهم، واستثمار تضحياتهم وبطولاتهم من دون احداث تغييرات في عقلياتهم السياسية، وتعريفهم لأهدافهم ولوسائل كفاحهم، ومن دون إعادة بناء كياناتهم السياسية، ومن دون التخلص من العصبيات الفصائلية الضيقة.