خبر الحصاد السياسي لانتصار غزة.. عبد الستار قاسم

الساعة 05:30 م|30 أغسطس 2014

بداية لا بد من التأكيد على أن هذا المقال من جزأين، وهما: انتصار غزة العسكري والاتفاق السياسي الذي تم التوصل إليه مع العدو. ومن الضروري عدم الخلط بين الأمرين إذا كان لنا أن نقيم الحصاد السياسي لانتصار غزة بصورة دقيقة.

وقد بدأت المقال بهذه الجملة لأن عددا لا بأس به من الإعلاميين يصرون على ضرورة الثناء على الاتفاق السياسي على اعتبار أنه جزء من المعركة العسكرية، والمعنى المقصود هنا أن أي انتقاد يوجه للاتفاق السياسي لا تؤخذ المقاومة بجريرته. المقاومة المسلحة التي خاضت حربا ضد إسرائيل شيء، والاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين الذي رعته مصر شيء آخر.

تم الإعلان عن اتفاق تهدئة جديد بين الفلسطينيين والإسرائيليين بتاريخ 26 أغسطس/آب 2014. وقد قضى الإعلان -بناء على تصريحات سياسيين- بوقف إطلاق نيران متزامن بين فلسطين وإسرائيل، وفتح المعابر لكي تدخل مستلزمات الحياة الاعتيادية لقطاع غزة ومتطلبات إعادة الإعمار. وقد ظهر قادة فلسطينيون سياسيون يعلنون الانتصار بسبب هذا الاتفاق، وخرجت جماهير غزة للاحتفال بالإنجاز الفلسطيني الكبير.

مضمون الاتفاق

لم نعلم عن تفاصيل الاتفاق إلا النزر اليسير وهو المتعلق بفتح المعابر دون ذكر أسماء هذه المعابر، وما سمعناه عبر وسائل الإعلام كان حديث سياسيين ولم يكن نصوصا مكتوبة. لم نقرأ ورقا موقعا مباشرة بعد الإعلان عن الاتفاق، وعلينا الانتظار لحين قراءة اتفاق مكتوب لكي نستطيع تحليل المضمون بصورة علمية. وذات الأمر ينطبق على فتح المعابر. أي معابر؟ وهل معبر رفح مشمول بها.

إذا كان الحديث عن المعابر بين إسرائيل وغزة فهناك مشكلة لأن هذا يفترض قيام الفلسطينيين بشراء ما يحتاجونه من إسرائيل، والموقف الوطني الفلسطيني يقول بضرورة مقاطعة البضائع الإسرائيلية.

الفلسطينيون بحاجة إلى طريقين هما: معبر رفح لأنه يفتح المجال لشراء البضائع والمستلزمات من مصر، وطريق بين غزة والخليل لتحقيق تواصل بين الضفة وغزة. أما المعابر مع إسرائيل فلا ضرورة لها بخاصة أن إسرائيل ستستغل الأمر لزرع أجهزة للتنصت في كل مكان في غزة. من المحتمل جدا أن تقوم إسرائيل بزرع أجهزة التنصت في عبوات الإسمنت ومختلف مواد البناء التي ستسمح بدخولها إلى غزة.

كتب هذا المقال في اليوم التالي من التوصل لاتفاق، لكنه لم تصدر نسخة رسمية عن نص الاتفاق لا من قبل الراعي المصري ولا من أي من طرفي الاتفاق. نحن ما زلنا في ضلال حول نص الاتفاق ولا نعلم ما إذا قامت إسرائيل بالتوقيع عليه أم لا. ولنا الحق أن نسأل الآن عما إذا كان هناك اتفاق مكتوب أم أن هناك تفاهمات شفوية لا ترتقي إلى حد تحميل المسؤولية القانونية والأخلاقية.

ترفض إسرائيل كعادتها التوقيع على تفاهمات وتترك الأمر للجانبين الفلسطيني والمصري ليتفاهما معا، وكأنها ليست طرفا. والسبب واضح وهو أن إسرائيل تعرف مسبقا أنها لن تحترم اتفاقيات، وعدم توقيعها عليها يخلي مسؤوليتها، أو لا يسمح بملاحقتها قانونيا أو أخلاقيا. فهل انتصرت القيادات السياسية الفلسطينية شفويا فعلا، أم أنها وقعت اتفاقا متوازنا من الناحية السياسية مع إنجازات المقاومة الفلسطينية؟

انتصار المقاومة

انتظار صدور الاتفاق مكتوبا لا يعني أن المقاومة الفلسطينية لم تنجز نصرا، بل قدمت المقاومة نماذج تكتيكية عسكرية متطورة وفذة استطاعت من خلالها إفشال الجيش الإسرائيلي وإحراز تفوق عليه على الأقل على المستوى البري. وبالإمكان تلخيص إنجازات المقاومة بالتالي:

1- مهدت هذه الحرب لنمط صراع جديد ضد إسرائيل بحيث ستكون الحرب القادمة أكثر إيلاما لإسرائيل لأن المقاومة ستطور المزيد من الأسلحة، وستهرب أنواعا جديدة، مركزة في الأساس على صواريخ مضادة للطائرات.

والمقاومة التي استطاعت أن تطور قدراتها في فترة قصيرة جدا، قادرة على تحقيق المزيد من الإبداع، ولن تتلكأ في القيام بكل الجهود العلمية والتقنية من أجل تطوير الأسلحة. الحرب القادمة ستكون أكثر شدة على إسرائيل وأعظم وطأة، ومن المحتمل جدا ألا تعود إسرائيل إلى قتال غزة بعد هذا الدرس المرير الذي ذاقته.

2- استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تحيد فاعلية الطيران الإسرائيلي فيما يتعلق بالمقاتلين، ولو كان بإمكان المقاومة تحييده عن كل سكان القطاع لفعلت. لم يكن بإمكان المقاومة حفر أنفاق تستطيع استيعاب كل سكان غزة، لكنه كان من الممكن تأمين القوات المقاتلة ومخازن السلاح ومواقع تصنيعها.

3- ثبتت المقاومة الفلسطينية رأس الجسر الفلسطيني الذي أقيم في قطاع غزة، وأكدت بقدراتها القتالية أنه لن يستطيع أحد اقتلاعه. هذا جسر ليس مرشحا للتدمير وإنما للتمدد ليشمل مناطق من الأرض المحتلة/48. الآن يخوض الفلسطينيون معاركهم من على أرض فلسطين وليس من على أراض تحكمها أنظمة عربية عميلة لإسرائيل عملت دائما على ملاحقة الفلسطينيين.

4- انهزم الجيش الإسرائيلي البري أمام المقاومة عندما هرب من أرض المعركة تحت وطأة الضربات الفدائية القوية التي وجهتها المقاومة. استغل الجيش الإسرائيلي إحدى محطات التهدئة وسحب دباباته ومدرعات من هوامش غزة، مقررا عدم خوض حرب برية بسبب خوفه من الخسائر الجسيمة التي يمكن أن تلحق بجنوده ودباباته.

5- أحرزت المقاومة نجاحا كبيرا في مجال تدمير شعور الإسرائيليين بالأمن. عملت الحركة الصهيونية ومن بعدها إسرائيل على إقناع اليهود بالهجرة إلى فلسطين المحتلة على اعتبار أن إسرائيل هي واحة الأمن التي يتطلع إليها اليهود، وأن لا مفر أمامهم إلا الهجرة من أماكن تواجدهم إذا أرادوا أن يشعروا بالأمن والطمأنينة.

بعد ضربات المقاومة، أصبح اليهودي مقتنعا أنه يمكن أن يجد الأمن في أي مكان في العالم عدا إسرائيل. إسرائيل لم تعد واحة الأمن، وعلى اليهودي الذي يبحث عن أمن أن يهاجر خارج فلسطين. وهذا ما سنراه فورا، إذ لن يبقى اليهود الميسورون في فلسطين، وسيهاجرون إلى بقاع أخرى خاصة في أوروبا وأميركا الشمالية.

6- أوقعت المقاومة بالإسرائيليين خسائر جسيمة لم يكونوا يتوقعونها سواء في المعدات أو في الجنود. لقد فاجأت المقاومة العالم باستعداداتها وأربكت الحسابات الإسرائيلية وأفسدت خطط الجيش.

ظن الجيش الإسرائيلي أن غزة لن تصمد إلا أياما قليلة فإذا به هو يبحث عن الصمود. لقد خاضت المقاومة الفلسطينية حربا دفاعية ساكنة، لكنها كانت تنتقل أحيانا إلى الحرب الفدائية المتحركة، وهي الحرب التي وضعت القوات البرية الإسرائيلية في حالة هروب.

7- زرعت المقاومة الفلسطينية بالشعب الفلسطيني الثقة بالنفس بعدما خيمت عليه مشاعر الهوان وظن أن لا مخرج له. الشعب الفلسطيني على يقين الآن أن من يحاول ينجح، وأنه قادر على صناعة أدوات الدفاع عن الذات مهما كان الحصار قاسيا وصعبا. مقولات المسكنة والتذمر من قلة الحيلة وعدم دعم الآخرين للفلسطينيين قد انتهت، وأصبح الفلسطيني يعي أنه قادر على الاعتماد على الذات عسكريا، ولا ضرورة أن يبقى تحت رحمة الآخرين.

8- في المقابل لم تنجز إسرائيل أي هدف من أهدافها. الأنفاق بقيت وكذلك مخازن السلاح، عجزت إسرائيل عن الاجتياح البري ولم تستطع منع الصواريخ من الانطلاق، ولاذت بخزي عسكري أمام العالم.

أسطورة جيشها تهشمت ولم يعد الإسرائيلي واثقا من قدرة جيشه على المحافظة على الدولة، فزمن انتصارات إسرائيل قد ولى، والعد التنازلي لبقاء إسرائيل كدولة قد بدأ منذ حين. لم تعد المسألة متعلقة بملاحقة مقاومة، وإنما السؤال المطروح أمام الإسرائيليين الآن يتعلق بقدرة الدولة على البقاء على الأرض الفلسطينية.

الاتفاق السياسي

لا يرتقي الاتفاق الذي تم برعاية مصرية بأي حال من الأحوال إلى مستوى أداء المقاومة المسلحة. مستوى أداء المقاتل الفلسطيني كان أعلى بكثير من مستوى الأداء السياسي، والأسباب تتلخص وفق نصوص الاتفاق المنشورة إعلاميا -وليس رسميا- بالتالي:

1- لا توجد إشارة إلى فتح معبر رفح في حين أن هذا المعبر أهم بكثير من المعابر الأخرى القائمة بين غزة وإسرائيل.

2- هناك قضايا هامة تم تأجيلها لمفاوضات قادمة مثل الميناء الجوي والميناء البحري. هذا تقصير كبير من قبل المفاوض الفلسطيني لأننا نعرف أن إسرائيل تعتمد المماطلة والتسويف وقتل الوقت.

تأجلت في اتفاق أوسلو قضايا جوهرية لحين انعقاد مفاوضات الوضع النهائي، لكن هذه القضايا لم تخضع بعد أكثر من عشرين عاما من المفاوضات للنقاش الجدي، ستستمر إسرائيل بالمماطلة ومن المحتمل جدا أنها لن توافق على بناء الميناءين.

نص قرار الأمم المتحدة رقم 194 على أن تسمح إسرائيل بعودة اللاجئين الفلسطينيين بأقرب وقت ممكن، لكن الوقت الممكن لم يحن حتى الآن، أي بعد مرور حوالي 66 عاما.

3- يشتمل الاتفاق على كلمات لا تحمل معنى محددا. فمثلا يقول الاتفاق إن توسيع منطقة الصيد البحري سيتم تدريجيا. ماذا تعني كلمة تدريجيا هنا؟ ربما ترى إسرائيل أنها ستوسع المنطقة مترا مربعا واحدا كل خمس سنوات. هل هذا يفي بمعنى كلمة تدريجي؟

4- يغيب دور المقاومة الفلسطينية في بنود الاتفاق، حيث يتحدث الاتفاق عن دور للسلطة الفلسطينية وليس لفصائل المقاومة وخاصة فيما يتعلق بالشريط الحدودي. هل ستكون السلطة الفلسطينية على تنسيق أمني مع إسرائيل عند قيامها بمهام أمنية في غزة، أم سيكون التنسيق الأمني قد ألغي؟

5- الاتفاق يجر المقاومة الفلسطينية إلى الاعتراف بأرض فلسطين المحتلة/48 على أنها أرض إسرائيل، وذلك عندما ينص على أنه لا يجوز تمدد الأنفاق لتدخل أرض إسرائيل.

6- يورط الاتفاق المقاومة الفلسطينية باتفاق أوسلو عندما ينص على إنشاء ميناء بحري طبقا لاتفاق أوسلو.

الاتفاق يفي ببعض المتطلبات الفلسطينية، لكنه لا يفي ببعضها الآخر، ويورط المقاومة فيما رفضته عبر الزمن. واضح أن السياسي الفلسطيني لم يكن موفقا تماما. لقد أنجز السياسي شيئا وربما كان اهتمامه مصبوبا على رفع المعاناة عن الأهل في غزة أكثر منه على قضايا إستراتيجية في الصراع مع إسرائيل.