خبر ملحمة غزة وسقوط الرهانات والأقنعة.. عبدالله الأشعل

الساعة 05:28 م|30 أغسطس 2014

من حق إسرائيل أن تفخر بأنها الكيان الشيطاني المدمر وبطولته هي إبادة الجنس البشري، وسجلها في المنطقة شاهد وشهادة على استحقاق إسرائيل الجائزة الكبرى في مجالات عديدة، أولها التفنن في تدمير كل المقدسات الدينية والتاريخية وكل المحظورات من أرواح الأبرياء إلى حرمان الأحياء من مقومات الحياة، وحرمان القتلى من الأكفان والمدافن، وحرمان الجرحى من التعلق بالحياة وأدوات إنقاذهم وإسعافهم.

من حق إسرائيل أن تفخر بأنها أعدت العدة كاملة عسكريا وسياسيا واقتصاديا حتى ينفرد الجزار بالضحية، وهي تعد حلفاءها بنصر سريع واقتلاع نهائي لهذا الصداع الذي حرصت على اجتثاثه.

فقد سكتت الدول العربية والإسلامية على عمليات القتل والتدمير، وخرست الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي، ومليارات العرب والمسلمين لم تعرف طريقها إلى سكان غزة أو مقاومتها. وعبر 51 يوما من المعاناة، صمدت المقاومة رغم حصار غزة وتجريم المقاومة في بعض المحاكم العربية، وتمكنت المقاومة من أن تكون ندا لإسرائيل وانتزعت نصرا عظيما، ولا شك عندي في أن الله سبحانه أراد أن تكون معجزة في زمن لا يعرف المعجزات ووسط بيئة أتقنت إسرائيل إعدادها للملحمة.

لقد راهنت إسرائيل على انكسار المقاومة، فإذا المقاومة هي التي ترفض شروط التهدئة التي فرضتها إسرائيل. راهنت إسرائيل على خيانة المقاومة، فإذا الخونة يشنقون في الميادين تحت القصف والرصاص الصهيوني.

راهنت إسرائيل على تفرق الصف الفلسطيني والصراع بين حماس وفتح، فإذا الفلسطينيون لهم صوت واحد وموقف واحد لم يترك متسعا لمؤامرات أو تراجعات. راهنت إسرائيل على تخويف الشعب، فإذا الشعب يصر على أن يموت في أرضه ولم يفر منها.

سقط رهان الإعلام المصري وبعض السياسيين، وبلغ السقوط مبلغه من الذين أيدوا إسرائيل. سقط الرهان العربي على سقوط المقاومة وضعفها وهشاشتها، فقد هزمت المقاومة الجيش الذي قهر الجيوش العربية الكبيرة التي سجلت في التاريخ الهزائم والانكسار دون أن يكون في المقاومة جنرالات الحرب الوهمية.

سقط رهان البعض في مصر على تجريم سلاح المقاومة واعتبار مد المقاومة به تهريبا، بينما تتزود إسرائيل بكل أنواع الأسلحة والذخائر. سقط رهان الغرب على إسرائيل، ولذلك سيكون لانتصار غزة ما بعده، كما سقط رهان الصهاينة العرب وعجائز المسلمين على انتصار إسرائيل وإعادة احتلال غزة وتسليمها إلى عملائهم. أعادت المقاومة الاعتبار لثورات الربيع العربي التي أحبطها عملاء إسرائيل وخدم واشنطن بثورة مضادة يرتبط مصيرها بمصير إسرائيل.

لقد سقط رهان اليهود على جيش الإبادة الذي قامت دولتهم على جانبيه، وكلما أمعن هذا الجيش في أعمال الإبادة، كان ذلك ضمانة نفسية لمواطني إسرائيل، واليوم تهتز قوة هذا الجيش مرة أخرى، كانت الأولى في حرب التحرير في أكتوبر، حيث لقنه أسود أكتوبر درسا دفع إسرائيل إلى التآمر على هذا الجيش في كامب ديفد، وكانت المرة الثانية عندما طردت المقاومة اللبنانية إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، ثم كانت المرة الثالثة عندما أدخلت المقاومة اللبنانية عام 2006 معادلات جديدة في الصراع مع إسرائيل.

ولذلك راهنت إسرائيل على الصداقات العربية وانشغال المقاومة اللبنانية في الساحة السورية بمخطط حلفاء إسرائيل من العرب، وقد أكد رئيس إسرائيل السابق أن معركة غزة تخوضها إسرائيل لأول مرة بالتعاون مع حلفائها العرب، وقالت تسيبي ليفني كلاما مماثلا ولها صداقات متينة وعلاقات أخرى معروفة مع مسؤولين عرب لم تتوان هي في الكشف عن بعضهم.

وكما سقطت الرهانات، سقطت الأقنعة، فليس صحيحا أن العرب ضحوا من أجل فلسطين بل كانوا هم الذين عوقوا القضية، واتسع الملف الفلسطيني لقدر هائل من النفاق، وكم حاول زعماء عرب إكساب استيلائهم على السلطة بشرعية القضية الفلسطينية، بل إن النظم العسكرية العربية بررت القهر ومحاربة الديمقراطية بأنه في سبيل الإعداد السريع العسكري لتحرر فلسطين.

بل إن الرئيس صدام حسين برر غزوه للكويت بأنه جاء في سياق الإعداد لتحرير القدس، وكأن تحرير القدس يمر عبر احتلال الكويت، علما بأن غزو الكويت أبعد استرداد القدس، وقال إنه لن ينسحب من الكويت إلا إذا انسحبت إسرائيل من فلسطين، ولكن الذي حصل هو أنه دمر العراق وأعدم صدام وازدهرت إسرائيل وتقهقرت فلسطين والفلسطينيون، وتباعد البون بين القدس والتحرير.

فهل انتصر محور المقاومة على المحور الذي كانت قاعدته إسرائيل وأميركا ثم انضمت إليهما إيران ودول عربية؟

قلنا مرارا إنه يجب عزل قضية إسرائيل عن كل الملفات الأخرى، فالمشروع الصهيوني ومقاومته أو دعمه بشكل مباشر أو غير مباشر هو المحك. فالدول العربية وغير العربية التي تحاربت بما يقوي إسرائيل أو شغلت محور المقاومة لأي سبب ساندت إسرائيل، وكذا الدول التي ظلت محايدة في الصراع غير المتكافئ بين إسرائيل أقوى قوة في المنطقة، ومقاومة غزة.

ولكن نريد أن نعيد النظر في كل الملفات المرتبطة بالصراع الذي لا بد أن يتحول مرة أخرى من كونه صراعا فلسطينيا إسرائيليا إلى صراع عربي إسرائيلي، ولا بد من إعادة اللحمة العربية واللحمة الفلسطينية، ذلك لأن انتصار غزة ليس نهاية القصة، ولن تسكت إسرائيل عن فشلها في تحقيق أهداف عملية غزة.

ولا بد أن تنشط البيئة الدولية لإشعار إسرائيل بأنها كيان ضد الإنسانية بما يترتب على ذلك من آثار سياسية وجنائية. ولا بد من رفع حقيقي للحصار وفتح المعابر وإعادة إعمار غزة، ولا بد أن تعود مصر إلى دورها المرتبط بأمنها القومي والتأكيد على أن الخلافات السياسية شيء عابر وأن مصلحة مصر القومية هي دعم جوارها الفلسطيني وإضعاف إسرائيل المهدد الحقيقي لأمنها.

الباب مفتوح لعودة الذين أسرفوا على أنفسهم من العرب قبل فوات الأوان، كما أن القضية الآن ليست تسوية مع إسرائيل وإنما هي إزالة احتلال إسرائيل ووقف مشاريع الاستيطان، ولا بد من أن يهب الفلسطينيون جميعا لاستعادة أرضهم، وعلى القوى الإسلامية أن تدرك أن انصرافها إلى قضايا وهمية هو الطريق إلى ضياع القدس وهم ينظرون.

إن انتصار المقاومة في غزة لا يعني زوال الخطر الإسرائيلي ولا يعني انتهاء المؤامرات على فلسطين، وإنما يعني من باب أولى أن ذلك كله سوف يوضع في إطار جديد وسوف تصر إسرائيل على خطتها الأولى عندما بدأت عمليتها في غزة وهي انتهاء المقاومة، والطريق إلى ذلك هو خنق المقاومة وتجفيف طرق تسليحها.

ستصر إسرائيل في المرحلة المقبلة على أن وجود المقاومة في غزة هو أكبر تهديد لأمنها خاصة أن رئيس الحكومة الإسرائيلية وعد الشعب الإسرائيلي بالأمن الكامل، وحتى لو كانت صواريخ المقاومة غير مؤثرة في حياة الإسرائيليين، فهم قوم يحرصون على الحياة، ويشعرون بأنهم لصوص وأن وجودهم عابر مهما طال الزمن.

وقد أدركت إسرائيل أن الشعب الفلسطيني ببسالته المعهودة هو الأحق بهذه الأرض وليس الغاصب الذي يعتمد على معونات مختلفة. ولو قدر لإسرائيل بكل قوتها دون إمداد خارجي أن تواجه المقاومة الفلسطينية بكل ما يحيط بها من ظروف سلبية، فإن المقاومة تستطيع أن تنهي أسطورة إسرائيل التي روجت لها قصص الفشل في المواجهات الرسمية العسكرية معها. وأظن أن الوقت لا يزال مبكرا لكي يشعر المواطن الإسرائيلي بأن جيشه لم يعد قادرا على توفير الأمان والحياة التي يريدها.

وقد برع الإعلام الصهيوني في تصوير التقابل بين الفتى الفلسطيني الذي يفجر نفسه في ملهى ليلي إسرائيلي يمارس الشباب اليهودي فيه مختلف أنواع المجون، وبين الشاب الإسرائيلي المتمسك بالحياة. فالأول عندهم يسعى للموت ويلتقي في لحظة إنسانية نادرة مع الشاب اليهودي الذي يهرب من الموت. وخلص الإعلام الصهيوني إلى أن الشاب الفلسطيني مدمر بطبيعته أما الشاب اليهودي محب للحياة.

وتلك قراءة معكوسة لأن الشاب الفلسطيني الذي أخذت حياته وأرضه وكرامته لصالح الشاب اليهودي ترخص عنده الحياة الذليلة حتى ينتقم من غاصبيه، وهذه لقطة أظهرتها فترة العمليات البرية القصيرة في المواجهة غير المتكافئة بين إسرائيل والمقاومة في ملحمة غزة الأخيرة.