خبر العروبة.. والمستقبل .. علي عقلة عرسان

الساعة 07:02 م|15 أغسطس 2014

في هذا الوقت العصيب الذي تظهر فيه الأمة العربية عاجزة معطلة متنافرة ومتقاتلة، تقع سيوف أبنائها في أعناق بعضهم بعضاً بوحشية تزري بالقيم وبالتاريخ والقومي والإسلامي والإنساني.. في هذا الوقت الذي يأمن فيه عدوُّها الصهيوني المحتل غضبَتها، ويمعن فيها قتلاً وفتكاً واستباحة لدمها وأرضها وحقوقها وكرامتها، ويعلن بزهو العنصري البغيض وثقة المتيقن مما بين يديه، وبوقاحة تخفي الاحتقار والاستباحة، يعلن: " أنه لم يعد هناك عِداء عربي لإسرائيل"، وهو الذي مازال يحتل الأرض ويقتل الأطفال ويستبيح المقدسات؟!.. بينما سياسات الأمة على يدي ساستها تتردى وتدخل أسوأ أنواع الحروب " البينية"، وتغرق في وحل التبعية، وتقيم أخطر التحالفات على حاضر الأمة ومستقبلها وقضاياها المصيرية، مع الأشد كراهية وعداء  لها، وأكثرهم فتكاً بمقومات وجودها وهويتها وقيمها وعقيدتها وثقافتها.. وهي سياسات جعلت الأمة العربية تغوص في الدم والإثم، وتخرج خاسرة من امتحان بعد امتحان لتزرع المحنة وتحصد الفتنة.. وها هي في  امتحان غزة ومحنتها تخرج فاقدة الكثير من قيمها وهممها وحضورها وتأثيرها، وتتخلى عن التزامها بالدفاع عن الحق والأرض والإنسان والطفل والعمران في فلسطين القضية.. وتخرج في غير فلسطين من بؤس خيارات لتدخل في بؤس وعقم وفتنٍ وشتات..

في هذا الوقت الذي يرفع فيه أبناء الأمة السيف على بعضهم بعضاً بوحشية أساءت للقومية والدين، ولم يشعر معظم المنخرطين في صنع الكوارث للشعب والوطن بمسؤولية حيال الشعب والوطن، ولا بأولوية أن يواجهوا وحشية الأعداء الذين يفتكون بالأبرياء ويحاولون القضاء على القومية والدين، وعلى ما تبقى لأبناء أمتهم من صلات وروابط وعلاقات وقيم.. في هذا الوقت هل يجوز الكلام عن العروبة والمستقبل؟! وعن أية عروبة وأي مستقبل يتكلم من يركب هذا المركب الصعب، وبأية حيثيات ومعطيات؟! وهل هناك أرض ما زالت ثابتة تحت أقدام العروبيين الحقيقيين ليقفوا عليها ويقولوا: " نحن هنا.. وهناك مستقبل."؟! وهل ترك أعداء العروبة نقطة في جسمها لم ينهشوها، أو قيمة من قيمها لم يشوهوها لكي يُستأنف على ذلك بناء وقيام؟! وهل الاستنفار المدروس ضد الأمة، والتمويل المبثوث لكل عدو لها يقف ضد أهدافها وتطلعاتها أو يشوه ما استطاع تشويهه من ماضيها وحاضرها، وما يضيفه إلى ذلك حمقٌ وجهلٌ حكما وتحكَّما من مواقع القيادة والريادة بادعاءات " تقدمية ضالة مضللة" وشعارات قومية أفرغت من مضامينها عملياً.. وضعت العروبة في مقابل الإسلام والإسلام في مقابل العروبة وكأنهما جبلان لا يمكن أن يلتقيا.. وما زالت عقابيل كل تلك الممارسات والتصرفات وأفعال الجهلة والانفعاليين والفاسدين والمفسدين والانتهازيين والمندسين بين الصفوف للتخريب والتثريب، ولتلويث كل عربي واعٍ عارفٍ شجاعٍ وشريف ذي رأي ورؤية وإيمان بالله ثم بحق الأمة في البقاء والارتقاء.. ما زالت تفعل فعلها من دون ردع أو خوف.. هل في واقع هذه صفاته ومعطياته وآفاته.. يمكن الحديث عن أمة عربية تستعيد وعيها وعافيتها وحضورها وقيمها، ومن ثم عن العروبة والمستقبل.؟!

أقول نعم.. آن أوان الشدِّ فاشتدي زِيَمْ.. نعم ونعم.. لأننا أمة لم تفن رغم كل ما مر بها لا سيما على يدي المغول والتتار والصليبيين والاستعمار، ولن تفنى بعون الله، ولأن الأزمات والكوارث تصقل العقل والهمم وتستنفر الإرادة وتخلق من بين أبناء الشعب قيادة بعد قيادة، وتجدد الأمم، ولأنه في الليل الحالك لا بد من البحث عن نجم القطب، وعن أشعة تخترق سجف الظلام، وأنه لا بد من أمل حتى لا يدوم ظلم وظلام.. فلا يأس مع الحية ولا حياة مع اليأس.. ونحن أمة وُجدت لتبقى، وقد أثبت تاريخها الطويل قدرتَها على التجدد.. ومن هذا المنطلق أتحدث عن العروبة والمستقبل في هذا الوقت العصيب، على أن يكون ذلك دعوة إلى مراجعة نقدية شجاعة في ظل الواقع المؤلم.. مراجعة تقتضي إضافات وتعديلات تشمل الرؤى والأفكار وما عُدَّ من الثوابت في الرؤى القومية، ويقتضي ممارسة منهجية للنقد الذاتي بصراحة وشجاعة، بعيداً عن ادعاءات الجهلاء وغطرسة المدعين وضبابية المنظرين ومكابرة المكابرين.. وبعيداً على الأخص عن مواقف ساسة يستقوون بالسيف على الراي ويجردونه من غمده ليصبح لهم رأي وسطوة وسلطة وأفكار ونظريات مما لا يُشك به ولا يُرد، وبعيداً أيضاً عن أصحابُ سيوف وضعتها الأمة في أيديهم ليدافعوا عنها فابتليت بسيوفهم، لأن حامل السيف رأى القوة ولم ير الأمانة والمهمة والقيمة الرفيعة للدفاع عن الأمن والأمة فأحال سيفه إلى حيث يتسلط ويستفيد حيث رأى أن طريق القوة يوصله إلى مواقع ويحقق له مطامع ومنافع وأحلام، فسلك طريق القوة غير آبه بشيء، فكان مثل فيل هائج في معرض للكريستال أو للخزف.. لا يسأل عما دمَّر ولا يقيم قيمة لدم شعبه مهما نزف.

نعم وعذراً.. فإنني لا أستحب اليأس، ولم يُعشِ نظري اللهب الذي يحرق زحف الفراش إلى النار.. ولأنني موقن أنه ما زال هناك رجال في الديار، وما زال أمامنا أكثر من خيار غير خيار الانتحار.. وليعذرني من يرى أنني أبتعد عن الواقع وأخبط في التيه، وعذري أنني أتلمَّس في هذه الشدة طريقاً إلى مستقبل، ليقيني بأن أمة العرب لن تموت..  

العروبة والمستقبل:

تعني العروبة، فيما تعنيه، الأصالة العربية الخالصة بكل مقوماتها وقيمها وشيمها وصفاتها ومواصفاتها، والعربي هو من تعني له العروبة: الهوية والانتماء والمصير، الماضي والحاضر والمستقبل، القيم والمبادئ والمعايير الخلقية والاجتماعية. وقد قدَّم أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ مواصفات للعرب هي مقومات العروبة حيث قال: "إن العرب لما كانت واحدة في التربية، وفي اللغة والشمائل، والهمة، وفي الأنَفِ والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكاً وكان القالب واحداً، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط.. وصارت هذه الأسباب ولادة أخرى.. وقامت هذه المعاني عندهم مقام الولادة والأرحام الماسة."

والعربي إنسان يرتبط تاريخياً بأرض نما فيها ونمَّها، وبصلات وعادات وتقاليد، وله مكونات روحية وثقافية واجتماعية وحضارية، منها الموروث العريق والمبتكر المضاف بإبداع وتفرّد، ومنها المُرتَقى به من قدرات ومهارات وصفات وسلوك وعطاء إلى درجة جعلته يشكل خصوصية عربية تضاف إلى الحضارة البشرية في مجال أو أكثر من مجالات العلم والعمل والإبداع العلمي والفكري والأدبي الفني، فتَسمُ الخصوصية تلك الحضارة، أو مرحلة من مراحلها، بسمتها الخاصة، بعد أن ترتقي بها في سلم العلم والمعرفة درجات تُحسب من عمرها الحضاري وتشكل ذروة من ذراها وتدخل حلى نحو ما في مقومات الهُويَّة.

في هذه البيئة ينمو العربي في حاضنته "عروبته، جلده، ومورثاته"، داخل مجتمعه وثقافته، وينمي ذاته ومجتمعه وثقافته ومعارفه.. وتنمو شخصيته بخصائصها وخصوصياتها، مثلما ينمو كل البشر أصحاب الهوية والانتماء في بيئاتهم وحواضنهم وخصوصياتهم وخصائصهم،  ينمو وعيه بذاته وبماهيته ومحيطه وغاياته ومصالحه، وبالآخر وما يتصل به وما يرمي إليه، في تواصل تفاعلي خلاق بين بيئته الثقافية وحاضنته القومية من جهة، وبين البيئات الاجتماعية والثقافية والقومية والحضارية الأخرى التي يتواصل ويتفاعل معها من جهة أخرى.. حيث يأخذ ويعطي بثقة تتجلى في شعوره بخصوصيته وتمايزه عن غيره ـ وأقول تمايزه، لا تميّزه بالمعنى العرقي العنصري للكلمة، والتمايز مرغوب فيه والتمييز مدان ومرغوب عنه - كما تتجلى في قدرته على أن يأخذ ويتمثَّل ويعطي ويضيف، من دون عُقد أو مشاعر استعلاء ومن غير دونية تفضي إلى التبعية.. وهكذا يستمر في السيرورة والصيرورة، نامياً ومنتمياً في آن معاً، يعيش ويتعايش، ويخوض معترك الحياة ومعارك إثبات الوجود.. وهو متمسك بهويته وخصوصيته، يدافع عنهما وعن الأرض والمصالح والحقوق، وعن مقومات تمايزه وقيمه.. يقوى ويضعف، ينكسر وينتصر، ينحسر ويمتد، ولكنه يبقى في الحَلبة يخوض معترك الصراع ولا يخرج من دائرة الفعل والتفاعل في الحياة، ذينك اللذين هما الحياة بالنتيجة.. وكل تواصل وتفاعل يزيده خبرة، وكل معركة تعلمه أشياء عن نفسه وعن غيره، وتدفعه إلى التمسك بهويته وبما هو خصوصية له وحق من حقوقه.. وتختزن ذاكرته كل المعطيات لتشكل مستودع الذات وتاريخها والخط البياني لوجودها.. فإذا غابت أهم مكوناتها وذراها عن وعيه دخل في مساحات الضباب والعتمة والضياع، وأخذ يتردى ويتخبط ولا يهتدي إلى ما يريحه بَلْه إلى ما ينقذه، وأصبح فريسة سهلة للطامعين به.. فالوعي بالذات والعودة إليها والانطلاق منها نحو الأهداف والغايات، هو أحد أهم مفاتيح البصيرة، والتدبير المستنير، واستمرار الذات في الوجود والنمو. والعروبة هي في تجسدها، أمّة في كمال وجودها وتكامل مكوناتها وتجليات حضورها عبر التاريخ في جغرافية طبيعية وبشرية وثقافية وحضارية.

وعلى الرغم من كثرة السكاكين المشهَرة على العروبة اليوم، من أعداء الخارج " "صهاينة وأميركيين وغربيين استعماريين ومن في حكمهم بصورة عامة" وعملائهم والمرتبطين بهم والمسحوقين تحت قوامهم وأقدامهم، ومن إمَّعات الداخل من شعوبيين، ومثقلين بتعصب عرقي أو ديني أو طائفي أو مذهبي أو أيديولوجي، أو ممن هم أسرى لذلك النوع المقت كله وما يدخل في دوائره.. فإن العروبة، بوصفها بيئة ثقافية ـ حضارية ـ إنسانية مشتركة، ينتمي إليها كل من ينشأ وينمو ويعيش في هذا الحوض الجغرافي ـ الاجتماعي ـ الحضاري، ويحرص على سلامته وسلامة مقومات العيش وقيمه فيه، ويعبر عن ذاته بلغة عربية، هي أداة التفكير والتعبير، وحامل المعرفة ومخزون الذاكرة، في هذا الجمع البشري الذي لا يصنف العرب على معطيات الجنس والعرق والدم وصفائها، وإنما إلى معطيات ثقافية، روحية، خُلُقية، إنسانية بالدرجة الأولى، منذ العرب البائدة "عاد وثمود وطسم وجديس.. إلخ إلى من قد يستعرب ويتعرب في مقبل الأيام من الأشخاص والأقوام، مروراً بالعرب المستعربة الذين هم نحن اليوم، فإنها تشكل بوتقة ينصهر فيها كل من يختار العيش فيها وينتمي إليها.. وفي معرض تأكيد الانتماء الروحي الثقافي الإنساني، واستبعاد الانتماء القائم على العرق والدم وما قد ينشأ عنهما من عنصرية بغيضة، جاء في الحديث  الشريف: " أيها الناس إن الرب واحد والأب واحد. ليست العربية من أحدكم بأب ولا أم، فمن تكلم العربية فهو عربي".

إن ما يوجهه أعداء العروبة إلى من ينتمون إليها ويحملون رايتها، من تهم مثل "الشوفينية" والتطرف القومي، ومحاولة تصويرها على أنها استخدمت الدين لتعريب المسلمين أو لفرض العروبة عليهم من أعلى.. هو افتراء محض وتزييف مكشوف، ومحاولة لتشويه صورة العرب وتثبيط همم أجيالهم وتسويغ الكراهية ضدهم، وهو يصدر عن عداء وحقد دفينين، ويعيد أو يستعيد شعوبية هُزمت وانقضت، ولوناً من ألوان الاستعمار والصهيونية والعنصرية. فلم تكن الأمة العربية في أي من مراحل تاريخها إلا قوة منصفة، أو حركة مضطَهَدة، أو دعوة لمناهضة الاستعمار والظلم والعدوان. ولكنها لم تكن بحال قوة استعمار أو دعوة إلى الإلغاء والمحو والإلحاق.. ولا يُحسب عليها أن حملت رسالة الإسلام والمعرفة والتقدم العلمي في مراحل زمنية هامة، وأنارت طرق الحضارة، بل يُحسب لها.. ولم تكن عهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والمماليك على أنواعها، والدولة العثمانية، قبل تغلغل اليهود الدونما ـ أي المهتدون وقد أظهر كثير منهم غير ما أبطن - إلى مواقع مهمة في قيادتها وظهور العصبية الطورانية وطغيان التتريك بتحريض من قوميين متطرفين ومن مستشرقين لا يريدون للعرب والمسلمين خيراً.. لم تكن تلك العهود عهود استعمار عربي للآخرين، ولا عهود استعمار غير العرب لأبناء العروبة في إطار الدين، وفق المفهوم السليم الصحيح الراسخ " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، بالشكل الذي مارسه الغرب حين أعماه التعصب وتورَّمت فيه القوميات والعصبيات والأطماع، فجر العالم إلى حربين عالميتين مدمرتين كلفتا العالم أكثر من ثمانين مليون قتيل، وتعرضت فيهما شعوب وأمم شتى، منها الأمة العربية، إلى استعمار مباشر بغيض ينهب ويستلب ويقتل ويبيد، ويلغى شخصية الشعب الواقع تحت الاحتلال، ويدمر هويته ولغته ودينه وخصوصياته الثقافية والحضارية – واحتلال فلسطين ومسلسل إبادة شعبها والحرب العدوانية الغربية/الصهيونية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، على العراق وأفغانستان، من أحدث الشواهد على ذلك - بل كان الجميع في دولة يعيش كل مواطنيها ظروفاً مشتركة، وتغلب فيها فئة على أمور الناس وتأخذ الحكم بتكوين عصبية تقيم سلطة أو تزيل سلطة، ولكن لا يسود في تلك الدولة قانون أو عرف يُعلي قوماً على قوم باسم العرق والجنس ويشيع روحاً عنصرية خالصة.. نعم ربما تعالى أشخاص ومسؤولون لأسباب مرضية سلطوية سياسية اقتصادية.. لكن العرب الذين حملوا راية الإسلام الذي عز به العرب، لم يقولوا بذلك. فالحاكمية في الإسلام الذي يعترف بالقوميات، على سبيل التمايز والتعارف، الحاكمية فيه ديناً ودولة، هي للتقوى بالمعنى الروحي والسلوكي والثقافي والخلقي، عملاً بقوله تعالى: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير.))/ سورة الحجرات، الآية 13.. فالإسلام ليس وسيلة تعريب ولا هو في خدمته، والعروبة ساهمت في نشر الإسلام ولم تفرضه على العالم، ولم تكن وسيلة أسْلَمَة كما يدعي ويبث بعض شعوبيي العصر والجهلة بالتاريخ، والذين يتواطؤون مع الصهيونية والاستعمار على تفتيت الأمة وتفتيت أقطارها وإشعال نار الفتن في قلبها وأطرافها، ليبقى الاحتلال الصهيوني والهيمنة الأميركية!؟.. إن المراجعة المنصفة للوقائع والدوافع والسلوك تشير بوضوح إلى أن الأمر لم يكن كذلك مطلقاً، فالعرب كانوا مادة الإسلام الأولى، حملوا رايته  فعزّوا به وانتشر بهم، ولم يكن نشره توسعاً جغرافياً وهيمنة دولة عربية على دول، ولا رسالة قومية " شوفينية" تسعى إلى استعباد الآخرين أو محو هويتهم وخصوصيتهم، إنما هو رسالة إلهية ساهم العرب في حملها إلى الناس كافة، وذاب فيها معظمهم كما ذابت فيها أقوام أخرى، وتشكَّل من الجميع مجتمع أعلا حضارة عربية إسلامية ساهم فيها كل العرب، "مسلمين ومسيحيين، وبعض اليهود العرب"، وكل الأقوام التي كونت الخضم الحضاري الإسلامي، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين ممن ضمهم ذلك الحوض الجغرافي ـ الثقافي ـ الإنساني.

ويمكن أن نميز في أوساط عرب اليوم، من حيث الموقف من العروبة، " أي الأمة العربية"، والانتماء لقيمها ومقوماتها ومبادئها في واقعها الراهن، واقع الفرقة والاحتلال والتمزق والولاءات المتضاربة والاقتتال وشراء الضمائر بالمال، يمكن أن نميز  بين صنفين رئيسين منهم على الأقل، مع وجود هوامش كثيرة بينهم تقترب من هذا الظل أو ذاك، لا نقاربها في هذا الحديث، بل نتوقف فقط عند ذينك الصنفين، وقفة قصيرة للغاية، في مسعى للتبصر والتدبر، وحسن الاختيار لمدخل نقارب من خلاله صورة من صور المستقبل، ضمن معايير صحيحة باقية تحكم الأمم وتستقر في ثنايا التاريخ:

1 ـ من عرب اليوم، صنف غير متصالح مع عروبته، متنافر مع ذاته وكاره لها أحياناً، يخلع ملابسه ويلقيها في الطريق ليهرب من أنيّته، ويحاول أن يغير جلده وكل ما يتصل بهويته وانتمائه، لأسباب يراها "سياسية واجتماعية ومعيشية اقتصادية وإنسانية.. إلخ ليس هذا مجال الدخول في تفاصيلها.. إنه منبتٌ عن عروبته أو يريد أن يقطع كل صلة له بها.. وهو لا يكاد يعي أو يذكر منها إلا ما يسوِّد صورتها في عينيه ويجعلها " مخجلة له"، وما يزين له أن يتملص أو يتخلص منها، وتراه يرجِّب مسوغاته ويجمِّلها ويجترها ويعيد اجترارها ليسوغها ويستسيغها. وبصرف النظر عما إذا كان يستطيع، أو أن ذلك يكون في مصلحته إن هو استطاعه، فإنه في مهْمه بين الظلال والضلال.. النور والعتمة، التراب والسراب، يصبح في تخبطه عبئاً على ذاته وعلى عروبته، وجلاداً لهما، وسيفاً عليهما، يشاطر أعداء الأمة الهجوم عليها، ولا يمد يداً ليساهم في بناء أو تقدم أو إنقاذ.. وفي معظم الحالات يكون أعجز من أن يقوم بذلك، أو محبطاً لدرجة ألا يفكر بالقيام بشيء.. ينزع من ذاته عروبَتَه ويعزلها ويقصيها لأنه يراها سبب تخلفه ومعاناته ويريد أن يدخل في ثوب أمة أخرى!!.. وأياً كانت مهارته في التقليد والتشبه بالآخرين والتمثُّل لما هم عليه.. فإنه لن يكون الآخر الذي يرتفع بنظره إلى درجة القدوة ويسعى لأن يكونه، لأن ذلك الآخر الذي يريد أن يلبس جلده لا يحترمه حين يراه يخلع جلده ويتخلى عن انتمائه وأمته، ولا يقبله ولا يعتبره من جلدته لا اجتماعياً ولا ثقافياً. أما أخوه في العروبة الذي أراد أن يقتلعه من ذاته أو يقتلع نفسه من نسبه ووعيه وذاكرته، فلا يركن إليه ولا يرى منه ما يريح، فيصد عنه، وينشأ بينهما سد، ويضع كل منهما بينه وبين الآخر حداً قوامه الإنكار والخوف والاتهام وعدم الثقة والتضاد المفضي إلى صراع..

وهكذا يغدو، هذا الصنف من عرب اليوم، المُنْبَتَّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، مثقلاً بأوهام وأضغاث أحلام وعبث، يكرر محاولات فاشلة للتماهي مع آخر لا تواصل تاريخياً وثقافياً واجتماعياً عميقاً يجمعهما معاً، ولا ذاكرة مشتركة تغذيهما بنسغها المصفى.. ويفصله عنه بعض تاريخ تكوّن الذات والوعي بها، والبيئة التي تتداخل عضوياً في التكوين مع خلايا الوعي ومقومات الشخصية وقيم الحياة، ومخزون الذاكرة المشتركة الذي تساهم في صنعه وإنضاجه التجربةُ والمعاناة وحوادث التاريخ.. كما تفصل بينهما أبعاد الانتماء وقيمه ومقوماته ومشاعره ودوافعه وبواعثه.. إنه يلهث لكي يكون.. ولكنه لن يكون أبداً، لأنه ترك كينونته الجوهرية في بعديها  الخاص والعام وراءه وسعى إلى أخرى لن تكون له لأن بينهما الزمن الممتلئ بالمعطيات والمكوِّن للذوات في مختبرات التجارب والبيئة والحياة.. إنه يحاول أن يتقمص شخصية من يسحقه بدل أن يقاومه دفاعاً عن ذاته وهويته ليشعر بكينونته وخصوصيته ونكهة حضوره.. إنه كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.. ظمآن والماء بين يديه في رؤية، أو "على ظهره محمولا"، في رؤية وتخييل شعريين يحيلان الواقع المر إلى المخيلة ليسكن هناك ويفعل فعله من الداخل.  

2 - ومن عرب اليوم صنف آخر، يرى ذاته في عروبته المتمايزة عن غيرها، بوصفها أصالة ومقومات وقيماً ومعطيات كثيرة وكبيرة.. إنها تلك المتجذِّرة في أعماقه المتنامية في روحه وقوامه ومعارفه وأصالته عبر تاريخ طويل، في مجتمع وبيئة وثقافة وحضارة كونها العيش المشترك والمعاناة.. يراها متألقة في مرآة عقيدته وثقافته وخصوصيته وماضيه وواقعه أيضاً. صحيح أنه يرفض الواقع المهين الذي هو فيه، يرفض الهزيمة والفساد والإفساد والتبعية والظلم والطغيان بأشكاله، واحتكار الوطن والوطنية، والاقتتال باسم الوطن والوطنية وباسم العروبة والإسلام، وباسم وباسم.. ويشكو من كل ذلك، ويتمرد عليه، لكنه لا يسيطر على مقدراته، فيغرقه كل ذلك فيما يشبه الذل والإحباط، ولكنه لا ييأس ولا يرفض ذاته مطلقاً ولا يتبرأ من أمته، فمن تراه يكون إن هو تخلى عن هويته وماهيته وعما هو فيه، وعما كانه ومن يتطلع إلى أن يكونه؟ إنه لا يتخلى عن أمته في واقعها ومحنها لكي يلهث وراء "خلاص خاص" في غياب عن الأرض والمعترك أو في تغييب لذاته في أجداث نفي غريب أو غربة منفى، أو دخول في جسم آخر يرفضه أو من يهين كرامته حين يعرض عليه أن يستأجره. إنه يعي الذات المغايرة المعادية وأهدافها ووسائلها، ويعي أنها تستهدفه لما "هو" ومن "هو"، ولما عنده وما قد يصبح إن هو تعلم ونهض وملك إرادة وقوة ويقيناً وإيماناً .. إنها ذات غريبة معادية تستهدف كينونته وما قد يكون زما يملك وحتى وجوده ذاته.. فماذا يفعل في مواجهة من يريد أن يقتلعه من جذوره بقوة وقسوة ولا يرحمه حتى لو استجدى الرحمة وطلبها بإلحاح؟ هل يستسلم ويستقيل من الحياة؟! إنه يدرك أنه لا يملك ما يملكه الذي يستهدفه من قوى ووسائل وأدوات وإمكانيات، ويدرك تاريخ تلك الذات المعتدية وقيمها وماضيها وعلاقاتها.. إنه يعي ذاته ويعي ذات من يستهدفه ذاته، ويدرك الفروق القيمية والسلوكية والأخلاقية والثقافية بينهما، ويدرك أنه يملك من المعطيات الروحية والثقافية والحضارية والتاريخية والإنسانية والحقوقية والأخلاقية ما يرفعه بنظر نفسه وبنظر المنصفين من الآخرين.. وأن هذا الإدراك هو مما يستهدفه الآخر المعادي.. وهذا مما يجعله يثبُت في تربته الجغرافية والاجتماعية والثقافية والحضارية، ويدافع عن أصالتها وقيمها ومقوماتها، ويروي شجرة الانتماء والأصالة بالدم والتضحيات.. لأن في ثباته ثبات للقيم، وثبات على الحق والمبدأ، وتثبيت للخير بمواجهة الشر في معركة مداها وميدانها الحياة، وتأصيل للحرية وتعبير عنها.

وحين يختار الإنسان الوقوف بوجه قوى عدوانية وعنصرية عاتية من هذا النوع، فإنه يختار الاختيار المكلِف جداً ولكنه المنقذ على المدى البعيد، فالاختيار إرادة وقيمة وحرية، ولكل اختيار قيمة وثمن.. إنه لن يركع ولن يستسلم ولن يهرب لأنه إن فعل ذلك انتهى وانتهى بانتهائه وجود وانتهت حقوق وقيم وثقافة ومكونات مستقبل واعد.. إنه يرفض أن يخضع لقوى استعمارية عنصرية همجية معتدية استئصالية، ويرفض أن يستجديها حياة من أي نوع.. ويرى نوع الحياة التي تليق به في مرآة ذاته المعتدَّة بماهيتها وهويتها وأصالتها "أي عروبتها"، فيقرر أن الحياة كرامة ومكانة وحرية واقتداراً وثباتاً في المعترك، مهما كلفه الدخول في ذلك المعترك من تضحيات، وأن الحياة ليست مجرد تراكم أيام بلا قيمة ولا كرامة ولا معنى ولا هدف، لأنه في الحرية والقيم والمبادئ يعيش الإنسان حياة نوعية ويكافح من أجل ذلك.

وفى مدى هذه المحاكمة، يعود عربي هذا الصنف من عرب اليوم إلى حصون الوعي العروبي، إلى الأمة وإنجازاتها والهوية ومقوماتها، والعقيدة ورسالتها، ويستمد من التاريخ عبرة وقوة، ليغير الواقع المرفوض الذي هو فيه بمنشود هو أفضل منه، ويمتلك مقومات الدفاع عن النفس والأرض والحق، والقدرة على الإبداع والتحكم بأدوات التقدم في معارج الحياة "علمياً وتقنياً ومعرفياً".. وحين يكوي عدوُّه يديه بالنار ليمنعه من التقدم على طريق المعرفة وامتلاك القوة بالعلم والوعي والإرادة، يصرخ ويهتز وقد يرتمي لكنه لا ينهزم ولا ييأس، بل يستأنف المحاولة تلو المحاولة لكي يصل.. لأن الوصول معناه امتلاك أدوات البقاء ومقوماته، والبقاء يحتاج إلى الإرادة والتصميم وإلى كل مقومات القوة والمنعة والوعي.. إنه في هذا الخضم من المواجهات والتحديات، يستثيره الانتماءُ الأصيل والأصالة المنتمية إلى أقصى ذراهما السامقة الملهمة، فيقرر الصمود والتضحية لكي يكون هو أو من يأتي بعده من الأبناء والأحفاد مستقلين منتصرين مستقرين في أرضهم بقوة الإيمان والإرادة والوعي والمعرفة والتضحية والانتماء، ثابتين على مبادئهم، سائرين على طريق استعادة المكانة والكرامة والدور الحضاري الذي يليق بالعروبة: أمة وحاضنة وأصالة وعقيدة وتمايزاً إنسانياً سامياً.

وترى من يختار ذلك الاختيار، انطلاقاً من وعي صحي صحيح، وانتماء واعٍ لماهيته وأهدافه وتكاليفه، تراه يدخل ذلك المعترك الصعب بلحمه ودمه، يقاوم ويتشبث بالأرض والحقوق والقيم والكرامة، ويستشهد ولا يستسلم.. يفعل ذلك بإرادة هي الوعي والضرورة والحرية، وبتصميم على امتلاك قوة محررة، على أرضية العلم والتقانة.. وتراه يهوي بين ذروة وذروة، ثم ينهض من سحيق ما تردَّى فيه ليرتفع إلى ذروة من الذرا تبقيه حياً أو تحييه، وتدفع عنه ما يرهقه ويستلبه ويفنيه.. إنه ينهض من رماده ويتجدد ويتقدم إلى ساحة المواجهة، وهو يدرك قوة العدو، ويرى تكالب الأعداء والمتعاونين معهم من المسحوقين تحت وطأتهم أو ممن باعوا أنفسهم وأمتهم للشيطان.. يرى تكالبهم على أمته " عروبته"، على قيمه وثقافته وعقيدته ومقومات ثقافته وهويته وحقوقه وحضارته.. يراهم ويرى سكاكينهم تهوي على جسد الأمة بحقد لا ضفاف له فيحس وخزها في أعضائه وخلاياه وعظامه فيتقدم ليدافع، ويرفض أن يهرب بعيداً ويتخلى عن الوطن والانتماء لينجو بنفسه ويسعَد على ضفاف نهر دماء أبناء وطنه وأمته.. إنه يرفض أن يتذرع بأية ذرائع مهما كانت لكي يتخلى، والذرائع والمسوغات الداخلية والخارجية من الكثرة والتنوع حيث تقنعه، وتُقبل منه، وتشفع له حتى تاريخياً.. إنه يرفض الموقف المهين، وأن يفعل أي شيء يشين، ويرفض أن يطعن "عروبته، أمته، أمه"، مع الطاعنين.. ويقرر أن ينتمي إليها بشرف وأصالة، وأن يدفع ثمن الانتماء، كلَّ ثمن الانتماء، مهما كان فادحاً، لأنه يقدر ذاته وتاريخية والوطن والقرار والاختيار، ولأهن يتمسك بعروبته وأصالته وقيمه: هوية ورؤية وراية، بمروءة غابت عن تقدير ومعايير كثيرين من عرب هذا العصر.. وهي تغيب بالضرورة عمن يحلبون الوطن ويستهينون بالمواطن ويرفعون من يستشهدون في سبيل الأمة أبطالاً لكنهم لا يقدمون على تضحية وبطولة، فهم من ينظر من أعلى، ويقبع في الظل الآمن، ويحصد بذار المعاناة والدم والشهادة ليضيفه إلى بيدره.. ولا يجد حرجاً في أن يسيل فيض كلام عن العروبة والانتماء والالتزام والتضحية والشهادة و.. ويبقى تاجر الساح.

لقد عانت العروبة، داخلياً، من بعض بنيها، عروبيين وإسلاميين، عانت من القوميين المتطرفين الذين رفعوها رابطة عليا فوق الدين والقوميات الأخرى الشريكة في المواطنة والحياة والمصير، ومنهم قوميون بشعارات لكنهم في حقيقة أمرهم تابعون لأيديولوجيات مستوردة  سحقهم ظلها المجلوب وضلالها المسكوب وقوتها ودعايتها ودعاتُها.. فقالوا بمعادة الدين واضعين العروبة في مواجهة الإسلام، أخذا بعلمانية إلحادية تخرج كلياً عن مفهوم العلمانية الغربية التي لا تعادي الدين ولكنها لا تجعله حاكمية سياسية مطلقة.. كما عانت من إسلاميين عادوا القومية العربية وحاربوا الآخذين بها وجرموهم لأنها، من وجهة نظرهم، خروجٌ على الإسلام الذي هو الجامعة الكبرى.. ودخل الطرفان حلبة صراع مقيم في معظم سنوات النصف الثاني من القرن العشرين، أضعفهما وأضعف الأمة كلها، وسخرهما وسخرها ليكونوا وتكون طرفاً في الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، الأمر الذي جعل الصهيونية تنمو على هواها في فلسطين، وتفرض وجودها وقوتها واحتلالها وتهويدها من بعد على مساحات كبيرة من أرض العرب وإرادتهم قرارهم، وهو احتلال لم ينته بعد.

إن الضعف الذي لحق بكل من العروبة والإسلام، في النصف الثاني من القرن العشرين واستمر مهلكاً للحرث والنسل في سنوات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.. كان إحدى النتائج الأولية لتقاتلهما بجهالة وخروجهما على حقيقة تلازم العروبة والإسلام تلازماً عضوياً حيوياً، بما لا يلغي حاكمية الدين من خلال العدل والحرية والقين ورفع قيمة العمل والإنسان ولا يضعف شوكته العربية أو يكسرها وهي التي تشكل أهم قوائم الدين ودعائمه.. وكان ذلك في إطار حملات إضعاف للركائز الوطنية والقومية من جهة وإنهاك سياسي أحدث فراغاً سياسياً بالمعنى الأخلاقي الذي تحتاج إليه السياسة من جهة أخرى.. وهو أمر يستفيد منه من يريدون إلحاق بلاد العرب بمشاريعهم الخاصة، وإضعاف الحركة والقومية والإسلامية أمام الصهيونية، وتسخير قوى عربية وإسلامية لتخوض حروباً بالوكالة لمصلحة المحتل والمستعمر والمستثمر بالدم العربي ـ الإسلامي، سواء أكان ذلك في إطار الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، بين الغرب والشرق، بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي/ سابقاً، أو في حروب راهنة تحت مسمى " الإرهاب" ورايات المذهبيات "المنتشية بالانتصارات؟!" بينما تحرق وتحترق باسم صراع السنة والشيعة، وصراع الأعراق والأعراق في بلاد العرب والمسلمين، فتزرع الأحقاد وتقسيم البلاد والعباد إلى ممالك متقاتلة، وتشوه بأدائها العروبة والإسلام..

إن حرب الإلحاد على التدين ليست حرب القومية العربية على الدين، ولا هي حرب العروبة على الإسلام.. إنها حرب المادة على الروح، وحرب الجهل والطغيان " الديكتاتوري" على الاستنارة والانفتاح والمساواة والعدالة وحق الإنسان في الاعتقاد وحرية المعتقد.. حرب الإلحاد على التدين هي حرب التخلف على التمدن، وحرب المنتمين لغير العروبة الحضارية والوطن العربي ذي التاريخ ـ  "بيت كل من يعيش فيه" ـ على العروبة والدين " الإسلامي والمسيحي".. وحرب الإسلاميين على العروبة أو على القومية باسم تعاليم الدين تناقض حقيقة قرآنية تقول " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.. الآية"، وحربهم على العروبة باسم العلمانية بالمطلق تلحق ظلماً بقوميين مؤمنين، ولا يفسح في المجال أمام تبين علمانيتين إحداهما ملحدة تحارب الدين وقد تلطت في ظلال العروبة وأخرى لا تعطي الدين الحاكمية السياسية ولا تحاربه أو تدعو إلى محاربته. وقد شرب سذج ومتطرفون كثيرون من هذه الكأس الطافحة بالمرارة وسقوا الأمتين العربية والإسلامية مهلكات وحولوا الصراع إلى داخل البيت في حين كان يمكن التفاهم والتكامل.. وما زال الباب مفتوحاً على هذه الإمكانية أو يجب أن يفتح لها بمراجعات شجاعة ونقد للممارسات المتطرفة، وفي كل تطرف هلاك؟!..

هناك من يرى أن مقتل العروبة المعاصرة علمانيتها، وهناك من يرى أن ربطها بالإسلام، أو المصالحة بينها وبين الإسلام، من مقاتلها.. وأرى أن الطرفين على خطأ في ذهابهما هذا المذهب.. فعلمانية ملحدة، على النمط المتبع في تنظيمات عربية قومية مدخولة بالفكر الشيوعي الإلحادي الإلغائي الضيق، ليست هي العلمانية بمفهومها العلمي حسب المسطرة الغربية، وهو مفهوم لا يعطي للدين حاكمية سياسية ولكنه لا يحاربه، ولا يعتبره مضاداً للتقدم والتحرر والاستنارة الحرة. ونحن بحاجة إلى مفهوم للعلمانية أوسع من المسطرة الغربية نظراً لخصوصيات مجتمعنا وتعاليم عقيدتنا.. مفهوم تنوير واستنارة لحركة فكرية موضوعية منتمية للأرض والتاريخ، منفتحة على الروحي والمادي، على الإلهي والإنساني، على القومية والدين.. ليست "إسلاموية" متشنجة، ولا "قومجية" متطرفة أو ضيقة النظر أو مدخولة بأمراض.. حركة تساهم عملياً في ردم الهوة بين العروبة والإسلام، بين الدين والدولة، وتستوعب كل من في الوطن، وتعطيه حرياته وحقوقه، وتحترم إنسانيته وخصوصيته ومواطنيته، كما تستوعب العرب مسلمين ومسيحيين، وغير العرب من المسلمين أبناء القوميات الأخرى الذين ساهموا في صنع الحضارة العربية - الإسلامية ولا يتنكر لها أحد منهم، ولن تستعيد مكانتها إلا بجهدهم متعاونين متحدين.. وأعتقد أنه آن لنا أن نعي ذلك، وأن نراجع قضايا ومواقف وأفكاراً ومعطيات كثيرة، في ضوء المسؤولية والوعي والانتماء والمصلحة العليا للأمة والفهم الصحيح للدين.. وهناك الكثير الكثير مما ينبغي إعمال العقل فيه، ومراجعته والتوقف عنده بعد كل هذه السنين والمآسي والدماء وأشكال الدمار والمعاناة البشرية.

أعداء العروبة اليوم في حالة هجوم، وأهل العروبة " من قوميين وإسلاميين وسواهم ممن يعلنون انتماء للأمة في الوطن العربي الذي يعيشون فيه"، في توجع وتفجع لما هم فيه من اقتتال وبعضهم يعيش حالة سبات والكل في ضعف وشتات، فتفرق القوى القومية وتنابذها، وحتى تناحرها الدموي، أفقدها قوة الحضور والمبادرة والرؤية السليمة للمخارج من الأزمات، وأفقدها التوجه نحو المستقبل بمشروع متكامل.. وتقاتل القوميين والإسلاميين فاقم الضعف وزاد في عمره وتنوع مجالاته وأدواته ووسائله، ونهوض الشعوبية الجديدة التي يجمعها عداء للعروبة وتدعمها جهات خارجية معادية للأمة العربية وحركتها التحررية ومقاومتها للاحتلال، من الأمور الصارخة.. والكل ينهش الكل ويعادي القومية العربية ويرميها بتهم منها "الشوفينية والعنصرية.. إلخ"، وينال من العروبة والإسلام.. بينما العروبيون الأصليون، " قوميون وإسلاميون"، في تضاد واحتراب وسلب واستلاب، حتى داخل التنظيم القومي الواحد والإسلامي الواحد هناك خلافات تصل حدود انعدام الثقة والاقتتال الشرس من جهة، وهناك التطرف بجاهلية والسذاجة حتى "العَبط" من جهة أخرى!!.. إنهم يضعون مناوئيهم في أحضانهم، ويستمرئون منهم بعض ما يزري بهم وبمبادئهم وأصالتهم وانتمائهم وقوميتهم وقيم دينهم.؟! وما لم يوضع حد نهائي للصراع المقيت المفتعل بين العروبة والإسلام من جهة، وللتضاد المخل بالانتماء للعروبة الواسعة المتسعة، بين من يرفعون راية القومية العربية ويحتكرون الانتماء إليها وبين الإسلاميين المعتدلين الذين لا يتنكرون لها ولا يتوافقون مع القوميين في شؤون كثيرة من شؤونها من جهة أخرى، فإن الحال لن يتغير إلى الأفضل، وصورة المستقبل ستزداد ضبابية بل قتامة، وأعداء الأمتين العربية والإسلامية سوف يتغلغلون بين اللحم والعظم، وسينحرونهما باسم مكافحة الإرهاب والمحافظة على الأقليات وحق " الصهيوني المحتل في الأمن والدفاع عن النفس؟" وغير ذلك من الأسباب.. فمنذ أن سمعنا في الربع الأخير من القرن العشرين قول صهاينة وأميركيين:" وداعاً للعروبة وداعاً للقومية العربية.."، وبدأ اتهامهم للإسلام بالإرهاب.."، ونحن نحصد الزؤان، ونُبيدِر قمحنا في بيادر أعدائنا ليأخذوه براحة واقتدار ويجوع صغارنا ويموتون في البؤس والحصار.   

  في وقت سابق للمحن الراهنة شخص المفكر العربي عصمت سيف الدولة وضع الطرفين القومي والإسلامي في تنازعهما، فقال: " في الوطن العربي طائفتان اختلفتا فاتفقتا: طائفة تناهض الإسلام بالعروبة، وطائفة تناهض العروبة بالإسلام، فهما مختلفتان.. وتجهل كلتاهما العروبة والإسلام كليهما فهما متفقتان. وإنهما لتثيران في الوطن العربي عاصفة غبراء من الجدل تكاد تضل الشعب العربي المسلم عن سبيله القويم. وإنهما لتحرضان الشباب العربي على معارك نكراء تكاد تلهيه عن معركة تحرير أمته.".. وها نحن اليوم في المعترك الدامي الذي لا يلهينا فقط عن معركة التحرير بل ينحرنا بأيدينا فلا تكون هناك أمة ولا يكون تحرير!!

وبعد فإنني أطرح تساؤلات لتمحيصها والتوقف عندها والتفاعل معها:

هل القومية العربية وما انبثق عنها وبُني عليها واشتُقّ منها وأوحت به وعمَّق مدلولاتها وإيحاءاتها، من فكر قومي ومشاعر شعبية وتوجهات نظرية وتنظير وتنظيم وعمل ومعارك في مجالات البناء والدفاع والتحرر وصولاً إلى الوحدة والتحرير.. كانت مجرد وهم نمّيناه وابتلعناه فتورّم في أعماقنا، وأصبحنا بسبب من ذلك خارج حدود التاريخ ومعطى الواقعية بتياراتها ومذاهبها، كما يحاول أن يشيع أصحاب العداء المقيم للعروبة عنها.؟!.

وهل هي مشروع صدَّره الإنكليز، كما صدروا حركة الإخوان المسلمين كما تقول تنظيمات حزبية وشخصيات منذ أربعينيات القرن العشرين وحتى العشر الثانية من القرن الحادي والعشرين.. أم أنها نبت أصيل في أرض الأمة وتربتها الثقافية، تعود جذوره إلى تاريخ أبعد من تاريخ أية أمة من الأمم، لَهَج بمقولاتها وأفكارها وأهدافها دعاة متشددون في مطلع القرن العشرين، ابتداء من " مجلس المبعوثان " العثماني بالذات، ليعطوا للعروبة مفهوماً سياسياً ويضعوها في مواجهة قوميات أخرى يجمعها الإسلام؟!.

وهل التطلع الوحدوي العربي، الذي يعتبر أهم أقانيم الفكر والعمل القوميين وأبرز شعاراتهما وأهدافهما، هو أبعد من حلم وأكثر من خرافة وتخييل، ونوع من أساطير تُبنى عليها سياسات أو تتقنع بها سياسات، ولا تمتد لذلك التطلع أية جذور في الواقع المعيش، ولم يرسّخ بقاء تلك الجذور ونموها عندما تحقق لها مناخ ووجود سياسي وسلطة في أقطار عربية وصلت فيها أحزاب وقوى قومية إلى الحكم.؟!

هل العرب أمة، حسب المعايير التي وضعها المنظرون لوجود الأمم وتطورها وحضورها الفاعل في التاريخ، أم أنهم ما زالوا، بنظر من لا ترضيهم القومية العربية بالذات، ولديهم معايير مزدوجة وجهل يختلس لبوس العلم.. مشروع أمة، ومشروع قومية، ومشروع وجود، ومشروع بشر؟!.. على الرغم من توافر مقومات القومية العربية جميعاً وحضورها الذي لا يغيِّبه إلا التجني عليها!؟! ومن المؤسف أنه حتى في مجال التطبيق العلمي للمنهج والمعايير الموضوعية في تعريف القومية وتحديد مقوماتها، تبدو ازدواجية ظاهرة ومتطرفة في عدائها للقومية العربية بالذات.؟!

وهل " التشنج" القومي هو السبب في رفض عرب اليوم دخول أبواب "سلام اليوم" الذي يقدمه للمنطقة الصهيوني والمتصهين والتابع المتخاذل والإمبريالي الذي يرقِّط جلده بوشم الشعارات الإنسانية ويلغو بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، وهو يزري بكل ذلك في كل آن، ويتواطأ مع مزيفي تلك القيم والمفاهيم ومع المتاجرين بها ومن يستخدمونها مداخل للنيل من دول وشعوب وعقائد وثقافات وتنظيمات.؟!.

وهل القومية العربية لا تقوم إلا على أسس علمانية إلحادية تنفي الدين، وعلى التنازع مع الإسلام، فإما هي وإما هو.. مع أن ذلك منتهى الضلال؟! وأنها لا يمكن أن تكون تقدمية وإنسانية وعصرية ومرضياً عنها إلا إذا زوّرت هويتها وقيمها وأهدافها وشوهت رموزها، وتنازلت عن ثوابتها ومبادئها وحقوقها التاريخية، وغيرت تاريخها وبنية مجتمعاتها، وارتدت ثوباً مفصَّلاً على الطريقة الصهيونية ـ الغربية، يصلح لحل مشكلة مجتمعية، اقتصادية وسياسية، ولخلق مشكلات وأزمات خانقة وقاتلة لكل المجتمعات العربية، تعيشها وتعاني منها، ليتفرغ اليهودي لمشروعه الصهيوني الاستيطاني الاقتلاعي الإحلالي، ولعبثه بمقدسات الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين، وبحقوق الآخرين وعقائدهم ودمائهم؟!

إن مفهوم العلمانية في هذا المجال يحتاج إلى تمحيص وتدقيق، فمن يريد أن يقدم إلحاده في ثوب العلمانية وينفي حق المؤمنين والمعتقدين بإله واحد بأن يمارسوا حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير، يستطيع أن يحوّر ويزور ما يشاء، وأن يقدم مفهومه كما يحلو له، ولكنه سيبقى في مساحة اللغو واللهو والافتراء، لأن تاريخ المصطلح العلمانية " secularism  " ومنطلقها وتاريخها.. كل ذلك لا يتعارض مع الدين والإيمان والاعتقاد، وإنما يجعل حاكمية الدين لله وليس على سلطة بني البشر، من خلال تأثيره على السلطة الزمنية والاستئثار بها واستخدامها استخداماً قد يكون تعسفياً ضد الناس والحقوق والحريات.. وفي هذا المنحى تكون العلمانية شيء والإلحاد المتشح بزيها شيء آخر، فاللاديني، وألا أدري وغيرهم.. كل أولئك معروف موقفهم من القومية والدين، ولا يفيد التحريف والتزييف ولا التلطِّي وراء مفاهيم أخرى وزحلقتها نحو دائرة فهمه واعتناقه الذي يحاول أن يموهه، وعدائه الذي يسوقه بغوغائية معهودة لديه.

وبعد هذا كله وقبل هذا كله: هل القومية العربية، " العروبة ".. أفلست، وعليها أن تلملم أوراقها وتنسحب خارج التاريخ والعصر والواقع العربي، بعد أن تحمّل نفسها مسؤولية كل ما حدث للأمة العربية خلال هذا القرن والقرن العشرين الذي لفظ أنفاسه؛ وأنّ على التيار القومي بكل تشعباته وفروعه واجتهاداته وتناحراته، أن يخلي الساحة لسواه، بعد أن يعلن إدانة نفسه ويكتفي من الغنيمة بالإياب، لأنه ومنطقه القومي، حكما على مستقبلها بالموت، من وجهة نظر من يطرحون هذه المقولات ويروجون لها بقوة.؟.

وهل أفلست طروحات ذلك التيار ونظرياته، ووصل إلى درجة من الجمود لا تجدي معها المراجعة ونقد الذات وتصحيح المسارات، أم أنه يرى ما له وما عليه، وما زال حضوره في ساحة العمل والنضال هو الأساس لتحقيق أهداف الأمة، وأن مساحة المستقبل مفتوحة أمامه.. ولكن وصوله إلى حالة من التصالح مع الذات والأداء الملائم لمواجهة تحديات الاحتلال والواقع والعصر، والمشكلات والأزمات والفتن المختلفة، يحتاج إلى مراجعة شجاعة، ووقفة حازمة ودقيقة وجريئة.. مع الذات، يجري فيها مراجعة ومحاسبة ونقداً ذاتياً حكيماً ومسؤولاً، ليخرج بعدها أكثر تعافياً ومنطقية وأقل عنجهية، وأشد تواصلاً مع أصوله وحقائق توجهات جماهيره المؤمنة، وركائزه التي حاولت تنظيمات وتيارات أخرى أن تهزها هزاً عنيفاً، وأنّ تدخل من خلالها إلى بنية أمة لا يمكنها أن تقبل الهُجنة والدخيل، ولا أن تتخلى عن منظومات قيمها ودينها وهويتها وأصالتها وحقوقها وتاريخها الحضاري العريق.. وتعي أن أعداءها يرمون إلى وئد وعيها ونفيه، وتفتيت تماسكها، تمهيداً لنقض بنيانها من الداخل، وإضعافها تماماً بعد تمزيقها، ومن ثم الانقضاض على وجودها ذاته؟!.

تلك أسئلة نطرحها ونحن في خضم اقتتال مقيت يشتعل في هذا القطر العربي أو ذاك، وتبعية للأميركي خاصة والغربي عامة، وتحالف مع الصهيوني ضد المقاومة - أي ضد رفض الخضوع والتنازل عن الأرض والحق والذات والمبدأ والمصلحة والانتماء للعروبة والإسلام بمفاهيم القومية والوطنية والإنسانية - بوجه العدو والتحالفات المناهضة لحقوق العرب ومصالحهم.. ونطرحها ونحن  في خضم انفلات العملاء من كل قيد وخلق وقانون، حيث تراهم يثخنون أمتهم وأقطارها جراحاً، ويهددون ثقافة الأمة وقضاياها، وتستبد بهم الوقاحة إلى درجة الاستهانة بأبسط القيم "الوطنية والقومية والإنسانية والأخلاقية، وبمقومات كل ذلك وخصائصه.. تحت حماية خارجية مؤثرة؟!!ونطرحها ونحن أمام واقع ووقائع تتجذَّر وتترسَّخ في وطننا العربي، تنقض معمار العقل قبل نقض معمار العروبة الفكري والعاطفي والسياسي والثقافي والاجتماعي، وتؤسس لانهيار كبير، ولا تساهم في استشراف صورة إيجابية لمستقبل العروبة والأمة العربية.. ومن ذلك الذي نحن أمام معطياته وحقائقه:

قُطرية عربية مستفحلة ضيقة النظرة، منطقها السائد: "أنا أولاً" والأمة من بعدي، أو "أنا ومن بعدي الطوفان"، واستعداد سياسي لتحالف مع الشيطان ضد الأخ والأب من أجل بقاء هو الفناء!.. قُطرية تعطي ظهرها للعروبة والقيم والشيم والمروءة، تقدم فهماً للإسلام وتوظيفاً له بما يخدم مصالحها ويعزز ارتباطاتها الغريبة المريبة.. وتشكل صيغة اعتراضية على القومية، وتساهم في تضييع الأخ وقتله وتدمير كل ما يملكه، من دون الارتفاع إلى مستوى رؤية المشترك والقومي والأخلاقي الإنساني.. ومن دون إدراك لحقيقة أنه عندما يؤكل أخوك ستؤكل بعده؟! قُطرية بسياسات انتهازية قصيرة النظر، تتحالف مع أعداء الأمة العربية إذا كان في تحالفها ذاك مجرد بقاء نظام وحكام في سدة الحكم، ولو كان ذلك على حساب التاريخ والجغرافيا والشعب والدم والعروبة والدين، ويحيل فيها الأخ على أخيه حين يرى ضعفه أو جرحه، مصداق قول الشاعر الفرزدق:

    وكنت كذئب السوء، لمَّا رأى دماً     بصاحبه يوماً، أحال على الدم

وقد تفعل ذلك حماية لذاتها من ثورة شعبها إذا اقتضى الأمر اتباع ذلك المنحى من مناحي الحماية أو الاحتماء بالعدو ضد الشعب والأمة..

وفي هذا الوضع الذي فاقم الأزمات وبدد الطاقات وجعل شباباً يموتون وآخرين يهاجرون، ويزرع التطرف والفوضى لتكون المحاصيل رؤوس مقطوعة وأشلاء مبعثرة ودمار بلا ضفاف  نجد أننا أمام مرحلة خطيرة فيها انحلال المجتمع والتحلل من الأخلاق والقيم تحت ذرائع وبدل وأوهام يقيمها الجهل في مقام العلم، حيث شباب عربي يتخلى عن الأمة ـ المستقبل، وعن كثير من القيم والمهام والاهتمامات الوطنية والقومية العليا.. ويسعى وراء السطحي واللذيذ، أو وراء الخلاص الآني أياً كان، وحتى إلى الانفجار الذاتي والجسدي كبديل لانتصار العقل والوجدان على الفوضى والعنف والتطرف وضياع الذات.. وهو وضع يزيد تفاعله من الانحلال والفساد والإفساد المدمرين، ومن الدمار وإعطاء الظهر للشريك في المصير.. ومن ذلك ما جرى ويجري في العراق منذ احتلاله وتدميره، وجعل عروبته وهويته مجال تنازع بين أبنائه، ووحدته أرضاً وشعباً في مهب الريح، ومكانته القومية في خبر كان.. ومن ذلك أيضاً الموقف من سورية التي تجري الدماء فيها منذ نيِّفٍ وثلاث سنوات،  ومما كان للمقاومة في لبنان وللمقاومة في غزة في أثناء العدوان الصهيوني المتكرر عليها وبرنامج الإبادة الذي ينفذ دورياً ضد الشعب الفلسطيني تحت سمع الأمة وأقطاره