طبيب لبناني يروي تجربة الحصار والصمود في غزة

خبر « فارس عودة » اسم يتكرر مرة أخرى في حرب غزة

الساعة 07:49 ص|15 أغسطس 2014

السفير اللبنانية

 

"اسمي فارس عودة. ولدت يوم استشهد عمّي فارس عودة (الطفل الفلسطيني الذي قتله الجيش الإسرائيلي قرب معبر المنطار في قطاع غزة بينما كان يرمي الحجارة خلال انتفاضة الأقصى) فاختار لي والدي اسمه".

بتلك الكلمات يخبر الطفل المصاب فارس قصة اسمه للطبيب غسان أبو ستة وهو يعاين إصابته أثناء عدوان غزة الأخير.

يدمع ابو ستة، الذي عاد من غزة إلى بيروت الثلاثاء الماضي، حين ينقل تلك الحادثة التي تؤكد على توارث روح المقاومة بين الأجيال. شارك أبو ستة (وهو رئيس قسم الجراحة التجميلية والترميمية في المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت) في معالجة المصابين أثناء العدوان في «مستشفى الشفاء» الذي يعتبر أكبر مستشفى في غزة.

كان عدد المصابين الذي يصل إلى المستشفى هائلاً. فعلى سبيل المثال، حين تم قصف سوق الشجاعية، وصل إلى المستشفى 240 جريحاً في غضون خمس دقائق.

كانت سيارات الإسعاف تنقل سبعة إلى ثمانية جرحى في السيارة ذاتها، وبعضهم كان يصل بواسطة آلية «التوك توك» أو سيارات الأجرة.

يضم «مستشفى الشفاء» 260 سريراً غير أن الأوضاع الصعبة فرضت وجود أربعة مرضى في الغرفة الواحد، وحتى مريضين على السرير الواحد في بعض الحالات.

شكلت عمليات انقاذ الحياة الأولوية الأساسية للجهاز الطبي، تليها عمليات انقاذ الأطراف ومعالجة الكسور والجروح المفتوحة وغيرها من الإصابات التي طالت معظم أعضاء الجسم من الرأس والأطراف وغيرها.

انخفض عدد الأدوية مثل المضادات الحيوية (Antibiotics)، وأدوية التخدير، والأمصال والضمادات، واهترأت الأدوات الجراحية بسبب كثرة استعمالها من دون وجود القدرة على استبدالها. نفدت كمية المضادات الحيوية للإصابات المعقدة، فتم استبدالها بأنواع أخرى أقل فعالية، والأجهزة المثبتة للكسور فتم استخدام «الجبس» الأقل فعالية. ولم تكف البرادات المتوافرة لحفظ جثث الشهداء فاستخدمت برادات البوظة، في بعض الحالات في رفح، لحفظ جثث الأطفال.

كانت الإصابات، وفق أبو ستة، معقدة تحتاج إلى فريق متعدد الاختصاصات في الترميم، والأعصاب، والأوعية الدموية وغيرها. وكانت الإصابات ملوثة، إذ تبرز الجروح خليطا من التراب وبقايا الشجر والخشب والحديد حتى «إنني عثرت، في إحدى الحالات، على بقايا عظام من جثة في جرح أحد الناجين»، يقول أبو ستة. «تعاني نسبة ثمانين في المئة من الإصابات التي عاينتها إعاقة حركية دائمة، وإصابات في الأطراف أو العيون وتشوهات في الوجه، إذ هدفت اسرائيل إلى تسجيل أكبر عدد من الإعاقات عند المدنيين والأطفال».

عاش محمد بدران (8 سنوات) الحروب الثلاث والحصار. تم قصف بيته، واصيب هو وأخوته الثلاثة واستشهد أبوه. لم تعرف والدته أن محمد ما زال على قيد الحياة إلا بعد مرور ثلاثة أيام. عانى محمد من كسر في اليد، وإصابة في المعدة، وفقد عينه ونظره، وتشوه وجهه. يجسد بدران، وفق أبو ستة، فظاعة تلك الحرب وقسوتها وتشكل تلك الجروح والتشوهات شهودا بيولوجية على رحلة العذاب الفلسطيني «فمن نجا في العام 2008، أصيب في 2014 ، ومن اصيب في حرب 2008 استشهد في الأيام الماضية».

يؤدي قصف القنابل الثقيلة إلى جروح بالغة من دون تسجيل إصابات خفيفة أو متوسطة مع الإشارة إلى أن اسرائيل لم تجرؤ، في الحرب الأخيرة، على استخدام القنابل الفوسفورية التي قصفتها في حرب 2008 بعد تقرير غولدستون وادانة اسرائيل بارتكاب جرائم حرب.

لم تسمح اسرائيل ومصر بدخول الأطباء الأجانب إلى غزة. فلم يتمكن من الدخول إلى غزة سوى فريق فرنسي من «منظمة أطباء بلا حدود» يضم طبيبين متخصصين في التخدير والجراحة، وفريق من الصليب الأحمر الدولي لا يتجاوز عدده ثمانية اطباء، وتم السماح بدخول ثلاثين طبيبا وممرضا من الضفة الغربية في نهاية الحرب. أظهر الأطباء المقيمون والأطباء الأجانب روحا من التعاون والتكافل بينهما لتلبية حاجة الجرحى ومعالجتهم خصوصا في ظل النقص في الطاقم الطبي.

كان الطبيب يعمل لمدة 48 ساعة ويرتاح لمدة 24 ساعة، بينما يتناوب الممرضون والممرضات كل 24 ساعة. وشارك الأطباء والممرضون الذكور والإناث على حد سواء. عمل الأطباء تحت الضغط النفسي إذ هُدمت بيوت البعض، وفقد البعض أفرادا من عائلته «أثناء إجراء العملية، فقد أحد الأطباء أخاه وعائلته، فغادر المستشفى للبحث عنهم».

كانت الأزمة الصحية وعدد الإصابات، وفق أبو ستة، خلال العدوان الأخير أكبر من الحروب الماضية خصوصا مع قصف «مستشفى «الوفاء في شمال غزة، و«مستشفى شهداء الأقصى» في دير البلح، و«مستشفى أبو يوسف النجار» في رفح، وعدم إمكانية نقل الجرحى إلى مصر، وقرار اسرائيل في أن توقع بين 100 و150 شهيداً في اليوم الواحد.

لجأت بعض العائلات إلى داخل السور المحيط بـ«مستشفى الشفاء»، وأقامت خيما للإيواء ظناً منها أن المستشفى أكثر أمنا من البيوت. لوّح الهواء حبال الغسيل والشراشف الممتدة بين شجرة وأخرى، أو عمود وآخر راسما صورة كل حرب وأزمة: شراشف وحبال غسيل وأطفال يسقطون شهداء.

لا تقتصر ضحايا الحروب على الذين يسقطون خلالها بل هناك مصابون يموتون بعدها متأثرين بجراحهم. إذ يحتاج الكثير من الجرحى، اليوم، إلى اجراء عمليات معقدة. ويزيد اكتظاظ النازحين خطر انتشار الأمراض المعدية مثل الزحار (Dysentery) والالتهابات الجرثومية عند الأطفال والأمراض الجلدية المعدية والجرب وغيرها، ما يوجب مواجهة تلك التحديات، وتأمين احتياجات الأفراد على المدى القصير والبعيد.

يشير أبو ستة إلى وجوب تقويم واقع الحرب وتحديد مكامن الخلل في النظام الصحي استعداداً لحروب مقبلة، ودعم المستشفيات بالأجهزة الطبية وتعزيز الطواقم الطبية وتدريبها، وإعادة إعمار المستشفيات المدمرة.

لم تنجح "اسرائيل"، وفق أبو ستة، في تحقيق هدفها في انهيار المجتمع في غزة بسبب تكافل العائلات التي "كانت تستضيف الأفراد من دون حتى أن تعرفهم مسبقا»، وما زال المواطنون في غزة مصرين على خيار القتال: "حتى في اليوم الأخير الذي أمضيته في غزة، كنت أسمع الأفراد يتحدثون عن إصرارهم على القتال وعدم العودة إلى الحصار، غير أنهم عاتبون على تواطؤ الدول العربية التي لم تنصرهم ولم تدعمهم في أيام الحرب".