خبر غزّة هاشم ترسم بلحمها طريق النصر .. طلال سلمان

الساعة 07:18 ص|15 أغسطس 2014

مع مغيب كل شمسٍ، كنت أطلب غزّة لأسمع صوت صمودها بلسان زميلنا حلمي موسى المميّز خبرةً بالعدو ودقّةً في التحليل وابتعاداً عن الحماسة وحرصاً على الموضوعية، وهو يكتب رسالته اليومية لـ"السفير" على وهج القصف المدفعي الإسرائيلي، بل رسالتيه لأن الثانية تركز على ترجمة التحليلات والمواقف الصادرة عن حكومة القتل والتدمير في القدس المحتلة.
ومع كل مكالمة، كنت امتلئ فخراً ويثبت إيماني بقدرات هذا الشعب المنذور للشهادة، بعنوان غزة في هذه اللحظة، والذي يتجاوز بصلابة إيمانه كل التقديرات.
أعود إلى عروض المرئيات ووسائل التواصل الاجتماعي، فأقرأ وأرى وأسمع ما يتجاوز أي تقدير، ويعمر صدري بالإيمان: لقد أسقط هذا الشعب من حسابه خطورة الموت. صار الاستشهاد سنّة حياة، فمن يمكنه الانتصار على من يتقدّم إلى الشهادة واثقاً أنه بذلك يحمي شرف الانتماء إلى أرضه وحق أطفاله وأهله كافة، وجيرانه وأصدقائه ومعارفه، شركائه في الحياة وفي المصير، المصلّين من بينهم في المساجد المتناثرة على مساحة غزة بالمدن والضواحي الملحقة كما بالكنائس قليلة المصلين والمكتظة بحشد من استضافتهم داخل حرمها الآمن افتراضاً.
يقدم لي حلمي موسى عرضاً تفصيلياً للوقائع الميدانية، بحَيْدة يُحسد عليها، هو الذي أمضى في سجون العدو الإسرائيلي أكثر من خمس عشرة سنة، ويكاد يحدد لي عدد الأحياء، الأعظم تضرراً ومن يعيش فيها من اللاجئين للمرة الثانية أو الثالثة، والواقع الاقتصادي الاجتماعي لأهلها وأزمة السكن بعد تهديم البيوت بالقصف... ثم تدوّي ضحكته وهو يروي لي طرائف من جاء يبحث عن بيته فلم يعثر بين ركامه إلا بعض ألعاب أطفاله، ولكنه مضى مطمئناً أن ليس تحت الأنقاض أحد من أهله.
ولاحظت أن نبرة الخصومة السياسية لـ"حماس" قد اختفت من لهجة حلمي. لقد عاد الكل فلسطينيين محاصرين في غزة، مشاريع شهداء قد يسبق بعضهم بعضاً، لكنهم ثابتون في أرضهم، وقد تخففوا من الخصومات الحزبية والعقائدية. الموت داهم ولا وقت لترف النقاش العقائدي. ها هو العدو فوقك، ومن حولك يقصف الرجال والنساء والأطفال. يدمر البيوت والمدارس والمستشفيات.
صارت غزة إرادة واحدة. اتسع البيت الواحد لأسرتين، لثلاث، لأربع أسر. الطعام ليس مشكلة، والمساحة تتسع لنوم كثيرين متجاورين.
صارت غزة إرادة واحدة. كل المليونين إلا قليلاً يريدونها معركة أخيرة لإسقاط الحصار. قد يستشهدون دفعة واحدة، ولمرة واحدة، لكن الكثيرين سيعيشون بعدهم خارج خناق هذا الحصار المذل.
الموقف المصري هو الأكثر إيلاماً. حكمت عداوة حماس موقف مصر التي كانت وما تزال – وستبقى! - مرجعية أهل غزة، وبيت أهلهم، ملاذهم وملجأهم وحصنهم الأخير. مَن ليس مصرياً بالجد الثالث خاله مصري أو عمته مصرية، والقاهرة مدينته وجامعته ومشفاه وملعب صباه. حروبها حروبه وهو أول الضحايا وآخر المصالحين ودافع دية المصالحة، أما سلمها فليس سلمه. لقد أبقي خارجه، ثم جاء الحصار فأبقاه خارج "أرض السلطة" في الضفة الغربية.
البحر محرّم عليه، فإن قصده اصطادته زوارق خفر السواحل الإسرائيلية أو قصفت بيته المدمرات.. والجو يحكمه الصمت المطلق، فلا طائرات تقارب البر الفلسطيني في غزة بعد تدمير المطار اليتيم فيه الذي كان بمثابة رئة يتنفس منها.
وحيدة غزة، مسورة بحواجز الغربة والعداء والنبذ. ليس لجريحها مستشفى بعدما اتخمت المستشفيات المعدودة فيها بأعداد الجرحى الذين سقطوا في كل مكان: في بيوتهم، على الطرقات، في مدارس وكالة الغوث الدولية، في سيارات الإسعاف، في السيارات ناقلة الجرحى، في المساحة الفاصلة بين بيتين هدمهما القصف.
وحيدة غزة ومحطات التلفزة كثيرة، والإذاعات أكثر، وأصوات النشاز لا تخفي الشماتة... وبعض المتناقشين على الهواء يبتلعون الهواء مع الأكاذيب التي يطلقونها حول غزة فتكذبهم الوقائع على أرضها مشفوعة بما تنشره صحف العدو الإسرائيلي وما تبثه محطات الإذاعة والمرئيات عنده.
وحيدة غزة. لكن فتيتها يقاتلون ببسالة. يواجهون بشجاعة استثنائية. حتى إذا تم نقل تلك العملية الخارقة في بطولة رجالها، إذ خرجوا من النفق إلى موقع عسكري إسرائيلي، مكشوفين في حقل مكشوف، ودخلوا الموقع يتقدمهم الكشاف، وجالوا فيه يلتقطون حراسه والعاملين فيه، ينتزعون منهم أسلحتهم، ويقتلون مَن وصلوا إليه لأنهم لا يستطيعون أخذه أسيرا، ثم عادوا عبر الطريق المكشوف ذاته، إلى النفق الذي أعادهم إلى حيث انطلقوا. لم يصدق المشاهدون عيونهم: ما هذه البسالة؟ ما هذا التميز برباطة الجأش والدقة في التنفيذ؟! ما هذا الذوبان في المهمة، فلا أسماء ولا رتب ولا خطابات طنانة رنانة. لا تحتاج البطولة إلى طبل ومزمار. سير الأبطال يكتبها غيرهم، أما هم فيكملون المهمة.
وحيدة غزة. تلهبها الطائرات بأطنان الصواريخ، تدك بيوتها مدافع الدبابات، تأتيها الصواريخ هادرة من داخل الأرض الفلسطينية المحتلة حاملة قذائف التدمير والقتل. تتقدم الدبابات تحت غطاء جوي لتهدم البيوت. تطوق الأحياء وتمنع الدخول إليها والخروج منها. تقصف كل مَن وما يتحرك. تقتل الحساسين وعصافير الدوري والفراشات.
يستذكر المشاهد في لبنان الحرب الإسرائيلية في مثل هذه الأيام من العام 2006. العدو هو العدو: التدمير هو التدمير. مجازر الأطفال وتلامذة المدارس هي مجازر الأطفال وتلامذة المدارس. لم يشكل علم الأمم المتحدة مصدر حماية.
...والعرب، بملوكهم والرؤساء والقادة العسكريين الأفذاذ المثقلة صدورهم بنياشين وأوسمة لانتصارات لم تحصل في معارك لم تقع، يسمعون شيئاً من الأخبار، ثم يحوقلون ويبسملون ويستعيذون بالله من الشيطان الرجيم، قبل أن يتابعوا برنامج اللاشيء الذي يفعلون.
العرب؟! من العرب، والشام غارقة في دماء أهلها مقطعة الأوصال بالعصابات ذات الشعار الديني الذي خنق تركيبات المعارضات المدنية... أما بغداد فبعيدة عن ذاتها، يجول الموت في شوارعها، يضرب تارة في مدينة الصدر وطوراً في الكرخ وثالثة في الرصافة ثم في القلب... والموصل أسيرة "داعش" وأمير مؤمنيها الذي في يده اليمنى ساعة رولكس، ربما لضبط مواقيت الصلاة، وجنده البلا وجوه أو أسماء يطلقون النار من مدافعهم على كل مَن وما يتحرك. ينفذون الإعدامات على ضفة الفرات (أو دجلة، لا يهم) ثم يدفعون بجثث المقتولين إلى النهر، ولا يرتوي غليلهم، فيندفعون إلى المدن والبلدات المسيحية، ويحاولون اجتثاث أهل البلاد الأصليين من الكلدان إلى الأشوريين من أرضهم ويدفعونهم إلى خارجها، أي خارج... وبعدها يهاجمون الإيزيديين المسالمين منذ بدء الخليقة فيُطردون من مدينتهم الجميلة سنجار ومن قراهم وأعمالهم الشرعية وهم الذين يوزعون طيبتهم على كل أهلهم وزوارهم محبة وحسن استقبال.
أما المصريون فقد خسروا الثورة ولم يربحوا الدولة، أو أنهم خسروا الدولة من دون أن يربحوا الثورة، فتفاقمت أزمة الداخل التي لا يمكن أن يحلها الخارج، وفشل العسكر في الإدارة وفي السياسة فتهاوت مصر مهيضة الجناح يسترهنها الخليجي بذهبه ويساومها الأميركي على استقلالها، ويحاول الإسرائيلي (الذي ما زال عدوها) أن يحتل إرادتها ويفرض عليها شروطه القاسية لبيعها الغاز (وقد كان يشتريه منها) والكهرباء (وكان يستجرها منها)، ثم يحاول استرهانها في حربه على غزة هاشم وحق الشعب الفلسطيني في هذه "الجزيرة" المحاصرة من أرضه.
هي الحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة خلال ست سنوات، وهي الحرب الإسرائيلية العاشرة، العشرين، الثلاثين على العرب في كل أرضهم، وعلى إرادتهم وحقهم في الحياة فوق أرضهم.
لم تتبدل طبيعة إسرائيل ولم يتغير أسلوب تعاملها مع العرب: بينها وبينهم الحرب، يخرج منها بعضهم أقوى على بعضهم الآخر، بل وتستعين ببعض مَن خرج على مَن ما زال في الميدان يدافع عن حقه في أرضه وحقه في حياة حرة في بلاده.
الحرب الإسرائيلية على غزة هي حرب على كل العرب: الهارب من ميدانها إلى معاهدات الصلح بشروطها، والهارب منها إلى واشنطن أو إلى الغرب جميعاً ومعه بعض الشرق أو معظمه. لن تتوقف عن الحرب حتى يخرج منها مَن هي هويتهم ومَن هي أرضهم، وحتى يستسلموا لها في موقع التابع أو الخادم أو العامل في بناء مستوطناتها على أنقاض بيته وسائر بيوت أخوته وجيرانه.
غزة الآن هي كل العرب، كما كان لبنان قبل ثماني سنوات، وكما كانت غزة قبل سنتين، ثم قبل ست سنوات.
إسرائيل هي العدو، كانت العدو وما زالت وستبقى العدو.
والعرب في طريقهم إلى الاندثار بين الأصولية اليهودية والأصولية الإسلامية متعددة الرايات والايديولوجيات والأهداف لاغية هويتهم القومية وأوطانهم بدولها المتهالكة، سواء أكانت غنية بذهبها الأسود أو فقيرة بشقائها الأسود.
يكون العرب فتعود إسرائيل دولة عدوة اعجز من أن تقاتلهم جميعا.
يغيب العرب أو يغيّبون أنفسهم فتحاول إسرائيل أن تكون دولتهم المركزية أو تقاتل لأن تكون.
لكن الشعوب العربية لن تنتحر جماعيا، ولن يغور مئات الملايين في الأرض، بل سيبقون في الأرض ويستبقونها لهم، بشهادة غزة الأولى وغزة الثانية وغزة الثالثة ومعها لبنان الذي انتصر في حربها عليه أكثر من مرة.