خبر لسع الوعي الجمعي الصهيوني .. صالح النعامي

الساعة 07:14 ص|07 أغسطس 2014

يندرج الحرص الصهيوني على التسبب في العدد الكبير من القتلى والمصابين من الفلسطينيين، وإحداث الخراب الهائل، بتدمير أحياء سكنية بأكملها، في أثناء الحرب الثالثة على غزة ضمن استراتيجية "لسع الوعي الجمعي الفلسطيني"، وهي الاستراتيجية التي عكف جيش الاحتلال على تطبيقها في حروبه ضد المقاومة الفلسطينية، وتهدف، بشكل خاص، إلى جباية ثمن كبير من المجتمع الفلسطيني، وإبراز كلفة دعمه المقاومة، بهدف ردعه مستقبلاً عن توفير حاضنة جماهيرية لها. وفي الوقت نفسه، تهدف هذه الاستراتيجية إلى زيادة حجم المسؤوليات على كاهل قيادة المقاومة، لا سيما في كل ما يتعلق بإعادة إعمار ما تم تدميره، وخصوصاً في ظل الظروف الإقليمية والدولية التي تسمح بهامش مرونة أوسع، لابتزاز المقاومة.
لكن دوائر صنع القرار والنخب الصهيونية اكتشفت أن أداء المقاومة الفلسطينية البطولي، وإبداعاتها التي تجاوزت كل التقديرات والافتراضات التي وضعتها تل أبيب في الاعتبار، عشية الحرب، قد أسهم في لسع الوعي الجمعي للصهاينة، بشكل أكثر عمقاً من تأثير آلة القتل الصهيونية على الوعي الجمعي الفلسطيني. وإن كانت المؤسسة العسكرية الصهيونية قد حاولت "لسع" الوعي الجمعي الفلسطيني، عبر مشاهد جثث الأطفال والنساء المتفحمة وأكوام الركام التي تسد الأفق في "الشجاعية" و"بيت حانون" و"خزاعة"، فإن أداء المقاومة الفلسطينية أحدث تحولاً أكثر عمقاً في الوعي الجمعي الصهيوني، ومسَّ بثقة الصهاينة بدوائر الحكم في كيانهم. وقد تجلى تأثير المقاومة الفلسطينية على الوعي الجمعي للصهاينة في اضطرار حوالي ستة ملايين صهيوني للنزول إلى الملاجئ، على مدى شهر، خوفاً من صواريخ المقاومة التي ظلت تتساقط على التجمعات الصهيونية، حتى قبل عشر دقائق من موعد وقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من العدد القليل من الإصابات الذي أحدثته هذه الصواريخ، إلا أنه شل مظاهر الحياة في مدن كبرى، مثل عسقلان وأسدود وبئر السبع. وتحولت المستوطنات المحيطة بالقطاع إلى مناطق أشباح، بعد أن هجرها جميع قاطنيها، إلى درجة أن الوزير الصهيوني، عمير بيرتس، اعتبر مشاهد المستوطنات الخالية "أوضح صور الانتصار التي حصلت عليها حركة حماس في الحرب".
ومما لا شك فيه أن أكثر ما أصاب الصهاينة بالإحباط حقيقة

تمكن المقاومة من المس بـ "السيادة" الصهيونية على نحو غير مسبوق، براً وبحراً وجواً. فمنذ انتهت حرب 1948، لم يحدث أن تمكن جيش عربي، أو حركة مقاومة، من المس بـ "السيادة" الصهيونية في أثناء حرب، كما فعلت "كتائب عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة حماس في الحرب الثالثة على غزة. فقد تمكن مقاتلوها من اختراق الحدود في أوج الحرب، وتنفيذ عمليات خلف خطوط الجيش الصهيوني، وإحداث خسائر كثيرة في صفوفه. واخترقت "كتائب القسام" الحدود البحرية، في عملية الإنزال التي تمت بواسطة الضفادع البشرية على شاطئ "زيكيم" في بداية الحرب.
ولا يمكن إغفال التطور المتمثل في تحليق طائرات "كتائب القسام" بدون طيار فوق مواقع إسرائيلية. فعلى الرغم من الطابع البدائي لهذه الطائرات، ومحدودية تأثيرها، إلا أن البعد الرمزي يكتسب أهمية. ولا شك أن أحد أهم الإنجازات التي حققتها المقاومة في أثناء الحرب، وأحرجت القيادة الصهيونية كثيراً، تمثلت في إغلاق الأجواء أمام الملاحة الجوية ثلاثة أيام متتالية، وهو حدث تأثر به مئات آلاف الصهاينة الذين تقطعت بهم السبل في مطارات العالم. كما تبين للصهاينة أن الفكر العسكري للمقاومة الفلسطينية ساعدها في تقليص تأثير التفوق العسكري والتكنولوجي النوعي الصهيوني.
ويشهد الجنرال إيتان بن إلياهو أن الخبراء الاستراتيجيين ومؤرخي الحروب سيقضون وقتاً طويلاً في دراسة الاستراتيجية الدفاعية التي اتبعتها "كتائب القسام"، والمتمثلة في حفر الأنفاق الحربية، وقال إن هذه الأنفاق حيّدت عملياً تأثير كل من سلاح الجو والمدرعات الصهيوني.
ولا يمكن إغفال عدم تردد كبار المعلقين الصهاينة، حتى الذين يتبنون مواقف يمينية في التعبير عن تقديرهم الروح القتالية العالية والإقدام الذي اتسم به المقاوم الفلسطيني، كما فعل يوسي ميلمان. وفي المقابل، تآكلت ثقة الصهاينة بجيشهم في أثناء الحرب بوضوح، لا سيما مع تواتر مؤشرات على يأس قيادة الجيش من تحقيق حسم في مواجهة المقاومة الفلسطينية، فقد دفع تردد قيادة الجيش، طوال أيام الحرب، الوزير الليكودي، سيلفان شالوم، إلى حد القول: "الجنرالات لا يريدون مواصلة القتال، ويريدون العودة بسلام إلى البيت". وقد اعتبر الجنرال المتقاعد رون تيرا، القائد الأسبق لسلاح المدفعية الصهيوني، أن تصريح شالوم "خطير جداً"، لأنه يمس بمعنويات الجمهور الصهيوني، علاوة على أنه يضر بدافعية الجنود، لأنه يرسم ظلالاً من الشك حول جدية قادتهم".
ومما زاد الأمور تعقيداً بالنسبة للمجتمع الصهيوني حقيقة أن المقاومة تمكنت من تحقيق توازن استراتيجي "غير متناسب"، كما يقول رئيس شعبة الاستخبارات الصهيوني السابق، عاموس يادلين. وإذا أخذنا في الاعتبار التوجهات العنصرية للمجتمع الصهيوني، فإن وقع هذه الحقيقة على هذا المجتمع يكون كبيراً بشكل خاص. وسيسهم الجدل الصهيوني الداخلي بشأن الأداء العسكري والسياسي في أثناء الحرب، والذي تفجر بمجرد أن وضعت الحرب أوزارها، في توسيع دائرة انعدام الثقة بالكيان ومؤسساته المختلفة. فقد تبادل المستويان، السياسي والعسكري، الاتهامات، وتعاظمت حدة الانتقادات التي يوجهها ممثلو أحزاب اليمين لكل من نتنياهو ووزير حربه، موشيه يعلون، بشأن عجزهما عن حسم الحرب.
قصارى القول، على الرغم من البون الشاسع في موازين القوى العسكرية والتكنولوجية، فقد تمكنت المقاومة الفلسطينية من التغلب بالنقاط على آلة الحرب الصهيونية، وهذا ما يجد تعبيره في بروز مظاهر انعدام ثقة المجتمع الصهيوني بالمستويات السياسية والعسكرية التي أدارت دفة الأمور في أثناء الحرب.