خبر الفلسطينيون ضحيّة إسرائيل وليس العكس ..ماجد كيالي

الساعة 09:30 ص|24 يونيو 2014

لم يكن الرئيس محمود عباس مضطرّاً للتعبير عن مخاوفه من تداعيات عملية خطف ثلاثة مستوطنين بتلك الكلمات التي صوّرتهم كأبرياء وكضحايا، فهذا انحياز مجاني إلى الرواية الإسرائيلية، ومحاولة غير مجدية لإثبات «حسن سلوك»، ونوع من تمثّل المستعمَر الضعيف والضحيّة لمكانته الدونيّة، إزاء المستعمِر القوي والظالم الذي يقوم بأعمال إجرامية وعدوانية من دون أن يبالي بشيء، والذي يفرض قيمه ومعاييره، باعتبار أمن بضعة أفراد من جنوده أو مستوطنيه أهم من حياة شعب بأكمله وحريته.

كأن الرئيس الفلسطيني لم ينتبه إلى أن كلامه سيخدم سعي إسرائيل لترويج صورتها كضحية، بعد أن تم كسر هذه الصورة، بفضل معاناة الفلسطينيين وتضحياتهم وبطولاتهم، لا سيما منذ الانتفاضة الأولى (1987 - 1993) التي لولاها لما قامت السلطة، ولضاعت منظمة التحرير، مع أن قيادة هذه المنظمة مسؤولة عن أسوأ استثمار لهذه الانتفاضة، إن بعقدها اتفاق أوسلو (1993) المجحف والناقص، من وراء ظهر شعبها، أو بالطريقة التي أدارت بها الوضع الفلسطيني والسلطة فيما بعد. هكذا، فإن هذا الخطاب «الاعتذاري» الذي يتضمن التخلّي عن قيمتي الحقيقة والعدالة، والتبرّؤ من خطاب المستعمَر، أو خطاب التحرر الوطني، يظهر الصراع الجاري وكأنه مجرد سوء تفاهم، بين شعبين ودولتين وحقّين متساويين. وربما هذا ما شوّش على الرأي العام العالمي، وسهّل على دول أوروبية «صديقة» منح إسرائيل منصب نائب رئيس اللجنة الخاصة بمكافحة الاستعمار في الأمم المتحدة، مثلما سهّل، في مطلع التسعينات، إلغاء الأمم المتحدة قرارها (3379 لعام 1975) باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، مع الانخراط في «مؤتمر مدريد للسلام».

المشكلة في كلام أبو مازن أنه لم يسمِّ الأمور بأسمائها، وهذا غير منطقي، ومضر سياسياً، فالمختطفون ليسوا أطفالاً، ولا أبرياء، ولا عابري سبيل، وإنما مستوطنون، وجزء من المنظومة الاستعمارية الاستيطانية، التي تثقل على الفلسطينيين في الضفة وتنكّد عيشهم، وتسلبهم حريتهم ومواردهم. والمفارقة هنا أن ثمة إسرائيليين يقولون أكثر مما قاله رئيس المنظمة والسلطة و «فتح»، إذ يطلقون على المستوطنين تسميات من نوع: «زعران التلال»، و «أعشاب ضارة»، ويرفضون أن يضحّي إسرائيليون آخرون بحياتهم في سبيل حماية الفلسطينيين في الضفة.

نعم، لقد جانب الرئيس الفلسطيني في تصريحاته الصواب هذه المرة، أيضاً، فالفلسطينيون هنا هم الضحيّة، والمعتدى عليهم، فهم الذين يعانون احتلال إسرائيل منذ عقود، والاستيطان واعتداءات المستوطنين، لا العكس، وهذا ما كان ينبغي إثارته بهذه المناسبة. أيضاً كان حريّاً بالرئيس أن يثير قضية خمسة آلاف معتقل فلسطيني، منهم 30 منذ ما قبل أوسلو، وعشرات ينفذون اعتصاماً عن الطعام منذ 60 يوماً. وفوق ذلك ثمة قضايا الاعتقال الإداري العشوائي، ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، وامتهان إسرائيل كرامة الفلسطينيين، واللامبالاة إزاء حياتهم، في اقتحام جنودها بيوتَهم ومدنَهم، والتنكيل بهم على طرق الضفة ومعابرها، أي في مناطق السلطة، وعلى مرأى أجهزتها الأمنية.

المشكلة في كلام أبو مازن هذا تكمن، أيضاً، في الامتثال لما يسمى «التنسيق الأمني»، والذي لم يبق من اتفاق أوسلو سواه، والذي يبدو بمثابة حيلة، انطلت على القيادة الفلسطينية، الغرض منها امتهان الفلسطينيين، والحطّ من مكانة قيادتهم في نظرهم، والترويج لثقافة القبول بإسرائيل وادعاءاتها، إذ ليس من المعقول أن هذه الدولة التي تمتلك أقوى وأحدث جيش ومنظومة استخبارات في المنطقة، في حاجة إلى أمن السلطة إلى هذه الدرجة. كما أنه من غير المقبول ولا المفهوم تحويل أجهزة الأمن الفلسطينية لحماية أمن إسرائيل، بدلاً من حماية أمن الفلسطينيين، وحرمة مدنهم، من اعتداءات جنودها ومستوطنيها.

في المقابل، لا شكّ في أن أشكال المقاومة، على شرعيتها، تستحق النقاش والتقويم وفق حسابات الجدوى، والربح والخسارة، والكلفة والمردود، واعتبارات الاستثمار السياسي. فالمقاومة هي فعل سياسي، ينبغي أن يتأسس على العقلانية والواقعية والتجربة، لا على العواطف والمزاجيات. والحال، فليس من المعقول خطف إسرائيلي أو اثنين وتعريض مليون ونصف المليون فلسطيني للحصار، والاعتقال والقتل بالمئات وتدمير الممتلكات والبنى التحتية، كما جرى في غزة، فهذه كلفة باهظة جداً، وخاسرة، وها هي إسرائيل منذ عملية الأسر الأخيرة اعتقلت 300 من الفلسطينيين في أسبوع واحد فقط، منهم عشرات ممن أطلقت سراحهم في الصفقة الأخيرة. صحيح أن إسرائيل أطلقت أكثر من ألف أسير في صفقة «شاليت»، لكنها كانت في غضون سنوات أسرت ألوف الفلسطينيين، مقابله، ناهيك عن حربين مدمرتين شنّتهما على غزّة (في الأعوام الماضية). هكذا، فإن المعارك غير المحسوبة، تبدد القوى بدلاً من مراكمتها، وتثير مشاعر اليأس بدلاً من استنهاض روح المقاومة، ناهيك عن أنها تنمّ عن ضعف مسؤولية إزاء أرواح البشر، وسوء إدارة وتقدير للظروف.

هذا يعني أن الفلسطينيين معنيون باختيار أشكال نضالهم وفق الظروف، فالشكل الذي يصلح لمرحلة ما ربما لا يصلح في مرحلة أخرى. وفي التجربة، فإن استمرار الفلسطينيين بنمط العمليات التفجيرية، لا سيما بعد العملية الإرهابية في الولايات المتحدة (أيلول/ سبتمبر2001)، أضرّ بكفاحهم في الانتفاضة الثانية، وأضعف شرعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال والاستيطان في الضفة وغزة. وآنذاك كان على الفلسطينيين وقف هذه العمليات، بخاصة أنها حشّدت الإسرائيليين بدل أن تفرقهم، وبالنتيجة فقد استطاعت حكومة شارون، حينها، استغلال هذه الظروف الدولية لشنّ حملتين وحشيتين (2002 و2003) استطاعت عبرهما تقويض البنى التحتية للمقاومة وإجهاض الانتفاضة الثانية.

هكذا، ثمة ما ينبغي قوله في هذا المجال، وهذا ما حاولت توضيحه مراراً في هذه الصحيفة منذ عقدين (ضمنها مقالتي: «في مشروعية السؤال الفلسطيني عن معنى المقاومة»، 18/3/2014). ففي هذه الظروف الدولية والعربية المضطربة، وغير المواتية، ومع حال الإحباط عند الفلسطينيين، وتشتّت أحوالهم، وتآكل حركتهم الوطنية، وافتقادها استراتيجية سياسية وعسكرية، تأخذ في الاعتبار إمكاناتهم وقدراتهم، من دون أن تقطع مع حقوقهم وتطلعاتهم، وتمكنهم من بناء كياناتهم ومؤسساتهم السياسية والجمعية، يصعب إنتاج مقاومة، حتى وفق مواصفات الحد الأدنى. ويستنتج من ذلك أن عملية على هذا المقدار من الخطورة، كعملية الخطف، وفي ظروف يصعب الاستثمار فيها، لا تكفي لصنع مقاومة أو انتفاضة، مع التقدير لروح الشجاعة والتضحية عند منفذيها، بل إنها، بالعكس، قد تسهل لإسرائيل تنفيذ اعتداءات كارثية على الفلسطينيين في هذه الظروف الصعبة، مع ملاحظتنا توقف القدرة على المقاومة من الضفة ومن غزة، ومشاهدتنا أن إسرائيل تنفّذ اعتقالات واعتداءات بكل راحة، ومن دون أن تلقى أية مواجهة.

بيد أن الحضّ على التفكير والمراجعة والنقد والترشيد، انطلاقاً من مشروعية المقاومة، ومن رفض استمرار واقع الاحتلال المريح والمربح، يختلف عن اللغة الاعتذارية وخطاب لوم الضحية، وعدم تسمية الأشياء بأسمائها، والتنصل من المسؤولية القيادية. والقصد أن كلام أبو مازن عن مراجعة الانتفاضة الثانية المسلحة، لا يستقيم من دون مراجعة خيار أوسلو المجحف، ولا مع التهرّب من المسؤولية القيادية عن تحديد خيارات المقاومة الأنسب والأفضل، عوض الارتهان لخيار المفاوضة، والتعايش مع الاحتلال، وترك جنوده ومستوطنيه يسرحون ويمرحون. وبالتأكيد، فإن ذلك لا يستقيم مع اللغة الاعتذارية، التي توحي بالتبرؤ من المقاومة، بمفعول رجعي، بما في ذلك من تاريخ حركة «فتح» ذاتها، وتضحيات قادتها ومناضليها، من أحمد موسى (الشهيد الأول) إلى الزعيم الفلسطيني أبو عمار، في حين أن إسرائيل مصرة على البقاء على حالها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، تستخدم القوة لإخضاع الفلسطينيين والسيطرة على حياتهم.