خبر عن الموت المرحلي للسياسة في مصر

الساعة 07:45 ص|24 يونيو 2014

من علامات موت السياسة المرحلي في مصر أن ضجيجها صار مقصوراً على الفضاء الإعلامي، في حين لا نكاد نرى له صدى على الأرض.

(1)
أتحدث عن سيل التقارير والأخبار التي صرنا نتابعها بصورة يومية على صفحات الصحف والبرامج التلفزيونية، وتدور حول ترتيبات خوض الانتخابات التشريعية التي يفترض أن تتم في 18 يوليو المقبل. إذ طبقاً لقانون مجلس النواب الجديد، فإن 80 في المئة من مقاعد البرلمان (567 مقعداً) ستكون من نصيب الأفراد، والعشرين في المئة الباقية ستخصص للأحزاب. وهذه النسبة الأخيرة تمثل 120 مقعداً يفترض ان يتنافس عليها نحو 80 حزباً سياسياً. صحيح أن الأحزاب رافضة لهذه القسمة. ولا تزال تطالب بإعادة النظر في مواد القانون، إلا أن ذلك مجرد احتمال ليس أكيداً. ولذلك فإنها تتصرف في الوقت الراهن كأن القانون سيظل كما هو بغير تعديل.
بسبب من ذلك، فإن وسائل الإعلام ما برحت تتحدث عن صيغ مختلفة للاحتشاد من خلال عقد التحالفات والائتلاف والجبهات بين المجموعات السياسية المختلفة. وهذه تعاني من أكثر من مشكلة حيوية، أهمها انها غير معروفة لدى الرأي العام، والمعروف منها محصور في نطاق «الشِلل» السياسية، التي لا تكاد ترجح كفة أي مرشح في انتخابات عامة. من تلك المشكلات أيضاً أن قادة تلك الأحزاب يتوزعون على أربع فئات. الأولى قيادات لا شعبية لها برزت على السطح في ظل نظام مبارك وتعاني من الإعاقة السياسية بحكم ظروف تكوينها، والثانية قيادات اندفعت إلى ساحة العمل السياسي بعد الثورة بغير خبرة سابقة ولا قاعدة شعبية، وأغلبها ان لم يكن كلها لا يزال في عداد الهواة. هناك فئة ثالثة من القيادات التي أحيلت إلى التقاعد من وظائفها التنفيذية ووجدت في الانشغال بالعمل السياسي مجالا لإثبات الحضور واستثماراً إيجابياً للتاريخ الوظيفي. الفئة الرابعة تتمثل في أركان النظام السابق وفلوله الذين وجدوا الظروف مواتية لاستعادة دورهم ومواقفهم في الساحة السياسية، بعدما تحققت عودتهم على الصعيد الأمني.
(2)
إن شئنا ان نتصارح أكثر، فلا مفر من الاعتراف بثلاثة أمور، أولها أنه لا توجد لدينا أحزاب سياسية حقيقية، ولكننا بإزاء شخصيات مهتمة بالسياسة، بعضها وازنة ومحترمة. وحول كل واحد منهم شلة من الأصدقاء والمريدين، وفى أكثر من ندوة وحوار قلت إن الحديث عن تيارات سياسية في مصر، قومية أو ليبرالية أو ناصرية أو حتى يسارية، فيه الكثير من المبالغة والافتعال. صحيح أن لدينا أشخاصاً يرفعون تلك اللافتات عن قناعة في الأغلب. ولكن لم ينجح أي منهم في أن يحول العنوان إلى تيار له تأثيره في موازين القوى. لأسباب يتعلق بعضها بطبيعة الأشخاص، والبعض الآخر بطبيعة الظروف المحيطة.
من المفارقات التي تذكر في هذا الصدد ان التفاف ما يسمى بالقوى المدنية حول شخصيات بذاتها برزت في ظروف معينة، هو ذاته ما حدث في محيط السلفيين الذين شكلوا في ظل النظام السابق نحو 16 حزباً، كانت كلها تعبيراً عن شلل التفت حول شيوخ بذواتهم، ولم يكن بينها خلاف فكري جوهري.
الأمر الثاني، إن الخلاف بين المجموعات أو التحالفات السياسية ليس حول برامج أو مبادئ بل هو بين أشخاص وأنصبة، وإن كنت استثني من ذلك شِلل اليسار.
الأمر الثالث اننا لا نكاد نلمح خلافاً ذا قيمة في برامج التحالفات والجبهات الجاري تشكيلها، ولكن التقارير المنشورة تشير إلى انها تتفق على أمرين أساسيين هما مساندة الرئيس عبدالفتاح السيسي وتكوين أغلبية تسانده في البرلمان (من عناوين «الأهرام» في 15/6 «جبهة دعم الرئيس تتعهد بتصحيح المسار» و«تحالف برلماني أم ظهير رئاسي») ــ الأمر الثاني هو العمل على قطع الطريق على عودة «الإخوان» إلى الحياة السياسية من أي باب (جريدة «الشروق» نشرت في 22/6 على لسان أحد ممثلي مجموعة «مصر بلدي» قوله إنهم يسعون إلى تشكيل ائتلاف يستهدف ضمان عودة «الإخوان» خلال المئة سنة المقبلة). وحين يلاحظ المرء ذلك التوافق حول المسألتين فإنه لا يستطيع أن يخفى دهشته إزاء غياب الأصوات التي تتحدث عن الرقابة على أداء الحكومة أو الدفاع عن الديموقراطية أو حتى الدفاع عن شعارات «ثورة يناير» 2011 (العيش والحرية والكرامة الإنسانية).
في الحديث عن التحالفات يستوقفنا نموذج لا يحتاج إلى تعليق تحدثت عنه صحيفة «الأهرام» في عدد 15/6، إذ نشرت تحت عنوان «أول تكتل نسائي» ما يلي: أعلنت المستشارة تهاني الجبالي عن تشكيل أول تحالف نسائي ليخوض الانتخابات البرلمانية، ليكون ظهيراً نسائياً للرئيس السيسي داخل البرلمان، وليتنافس على تشكيل الحكومة إذا ما حصل على الأغلبية. تحالف الجبالي الذي أعلنت عنه أخيراً سوف يضم أيضاً مختلف القوى الثورية والشباب ويقود الانتخابات البرلمانية المقبلة. ولأجل ذلك تم التنسيق مع بعض الجهات السيادية (؟!) وقد كلفتها تلك الجهات بإعداد أربع قوائم ستقود إحداها حتى الفوز برئاسة البرلمان، كما انها ستنسق للخوض مع تحالفها للمنافسة على معظم المقاعد الفردية.
(3)
ما سبق يوفر لنا خلفية تمكننا من رصد المعالم الأساسية للبرلمان الجديد. فهو برلمان بلا معارضة. ولن يكون ذلك مستغرباً بعدما أعلنت أغلب التحالفات انها داخلة لمساندة الرئيس السيسي. والتأييد لن يكون مقصوراً على «الأحزاب» برغم هامشية دورها، ولكنه سوف يتعزز بأصوات شاغلي المقاعد الفردية، الذين ستحملهم إلى المجلس عصبياتهم العائلية والجهوية أو قدراتهم المالية، علماً أن الأصل أن أغلب هؤلاء مع كل نظام. وإذا استطاعت شبكات المصالح ان تدفع ببعض رجالها إلى المجلس، فهؤلاء سيظلون محسوبين ضمن أعوان النظام الجديد، برغم ارتباط جذورهم بالنظام القديم، خصوصاً أن ساحات التناقض بين النظامين تقلصت كثيراً خلال الأشهر الأخيرة، وموقف مبارك من السيسي معبر عن هذه الحقيقة.
هذا التقدير إذا صح فهو يعنى أن تمثيل ثوار «25 يناير» في المجلس سيكون متواضعاً إلى حد كبير، إن لم يغب تماماً. ولن يغير من ذلك كثيراً أن يستخدم رئيس الجمهورية حقه القانوني في سد الثغرة وتعيين بعضهم في المجلس (مجموع المقاعد 567 والمعينون عددهم 27 فقط).
غياب الدور الفاعل للأحزاب السياسية لن يكون مفاجئاً. وربما نسي كثيرون أن الموضوع كان محل بحث ومناقشة العام 2011 في لجنة التعديلات الدستورية التي رئسها المستشار طارق البشري. وهو صاحب الرأي القائل بأن الدستور (أو القانون) لا ينطلق من فراغ، ولكنه يعظم ما هو قائم، فيفسح أو يضيق ويثقل أو يخفف. وكان قد أشار في كتابه «مصر بين العصيان والتفكك» إلى أن دستور 1923 أتاح قدراً من التداول في السلطة، لأن المجتمع كان فيه تعدد لقوى سياسية واجتماعية متبلورة في تنظيمات وتكوينات سياسية. ولم يكن في مقدور أي من تلك القوى أن تنفي الأخريات في الواقع السياسي والاجتماعي.
هذه الفكرة جرى استحضارها حين تعرضت مناقشات لجنة التعديلات الدستورية لموضوع توزيع المقاعد بين الفردية والقوائم. ورؤى آنذاك أن الخواء السياسي مخيم، وأن خريطة الأحزاب تتنازعها أحزاب مشوهة ومرفوضة خارجة لتوها من نظام مبارك، وأخرى جنينية فاقدة القوام ومجهولة الهوية، وغير معروفة لدى الرأي العام. وبدا واضحاً ان أحزاباً بذلك الضعف سوف تتستر عليها القوائم وتخفي هشاشتها. فتقرر تخصيص ثلث المقاعد للقوائم والثلثين للمقاعد الفردية. واستفاد السلفيون من ذلك حين ترشحوا على الجانبين باعتبارهم موجودين على الأرض. فكانت نسبة نجاحهم بين مرشحي المقاعد الفردية 15 في المئة، ولكن القوائم رفعت نسبتهم، لأنهم حصلوا من خلالها على 29 في المئة.
في الوقت الراهن، فإن القوائم خُصص لها خُمس المقاعد لا ثلثها كما حدث في برلمان 2012 الذي جرى حلُّه بقرار أصدرته المحكمة الدستورية. وكان تضاؤل تلك النسبة تعبيراً آخر عن تهافت الدور الذي تقوم به الأحزاب في الساحة السياسية.
(4)
الصورة لا تبدو مشرقة، لكنها ليست صادمة. ذلك أن الخروج من عقود الاستبداد إلى آفاق الحرية والديموقراطية ليس أمراً هيناً ولا سهلا. وقد ذكرت من قبل في أكثر من موضع ان المستبدين يدمرون الحاضر ويشوهون المستقبل. إذ باستبدادهم يدمرون ركائز المجتمع ويعملون على إضعافه. وحين يحرقون بدائلهم ويفقدون المجتمع عافيته، فإنهم يشوهون المستقبل.
من ناحية أخرى فالقضية متجاوزة حدودنا. وفى الصحافة الغربية حوارات جادة حول أوضاع الديموقراطية وانحسار موجاتها في مناطق عدة من العالم. ففي مقال أخير كتبه فرانسيس فوكوياما الأستاذ بجامعة ستانفورد وصاحب البحث الشهير عن «نهاية التاريخ»، قال إن تحقيق الديموقراطية يحتاج إلى وقت، لأنه ليست هناك ديموقراطية سريعة. واستحضر في هذا الصدد مثال ثورات «الربيع الأوروبي» في العام 1848 (الثورة الفرنسية) مشيراً إلى أن الديموقراطية لم تتماسك في ظلها إلا بعد سبعين سنة. كما نبه إلى أن العالم يواجه في الوقت الراهن ركوداً ديموقراطياً (وول ستريت جورنال ــ 6 يونيو 2014). وكانت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية ذائعة الصيت قد نشرت في عدد الأول من مارس في العام الحالي ملفاً على ست صفحات حاولت فيها الإجابة على السؤال: ما الذي جرى للديموقراطية في العالم؟ وقد انطلق البحث من فرضية اعتبرت أن الديموقراطية تمر بوقت عصيب في الوقت الحاضر. من ناحية لأن النظم الديكتاتورية تسقط ولكن المعارضة تفشل في إقامة نظم ديموقراطية صحيحة وثابتة. من ناحية ثانية فإن الدول الديموقراطية العريقة تعاني من القلق ويسودها عدم الثقة. وهو ما كان مستبعداً منذ سنوات قليلة، حين ساد التفاؤل بأن الديموقراطية ستسود العالم.
وقد استند باحثو «الايكونوميست» إلى شواهد عدة خلصوا منها إلى أن الديموقراطية شاخت في الغرب وأصبحت قريناً للمديونية والتعثر الداخلي. أما في خارجه فالملاحظة انها ما إن تتقدم حتى أصبحت تفشل وتسقط. وهو كلام أستحضره لا لكي نتشاءم، ولكن لكي نفتح أعيننا جيداً بحيث ندرك أننا في مصر نمر بشوط في رحلة الإقلاع، وأن تحقيق أهداف الثورة يحتاج إلى وقت أطول، وما نحن فيه الآن هو البدايات فقط.
تنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية